&
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& "كل حياتي كانت هذا اللاشيء: إسم ."
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& && بيثنته ألكساندره
&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&&& && بيثنته ألكساندره
& جئت إلى هنا بلا هناك. تركتها خلفي.كلها.
& تركتُ الـ "هناك" ورائي وتشبثت بالـ "هنا".لأن تركتها ثقيلة ولأنني بلا أثر يحتمل بعد المسافة أو جسارة المران الجديد بينما الرقبة معلقة بمنشفة غليظة، جافة و خشنة.
& علموني أن المشي مسافة طويلة يتطلب التجرد من الأثقال (نعني أثقالك، أوزارك، كلك) وعنيت ما قالوا. فكان ما أن وضعت قدمي عند مفترق طرق، حتى نزعت ملابسي وجريت بكل قوة الروح إلى أمام. متباهياً أن الأمام مسافته قصيرة أو هذا ما فهمت من هزة رؤوسهم وهم يؤكدون (نعني، أنت تفهم بلا شك؟). وإن لم أكن فهمت،إلا أنني كنت مستعداً أن أتجرد من جلدي. لكن الريح الباردة تذكرني باقشعرار الجسد العاري، يرتجف مثل سعفة،وهو في تماثل وتخفي واستقبال لما يظنه الأمام. وهو الأمام دائماً، لأن الخلف مطروح و منسي و متروك هناك ما أن تضع أول خطوة بعد أسياخ القفص.
أنت تفهم... تليها إشارات و التواء رقبة،أو عدة رقاب، لأنهم يعدونك بكل شيء إلا شيء واحد:جرب فحولة قدميك، لا غير. لأنك لست بصاحب حظ مثل الذي يطير برفقة رئيس وزراء بسبب اختفاءه خلف شتلات دفلى و آس بأخضر أبدي (ألست هو ذاك برأس مقلوب و يراقب؟) ولأنك هنا لن تجد ما يشبه الشتلات،لذا استغل قدميك وجرب المطاولة.. تمضي بخفة محاولاً لمس نشاف الأمام هذا الذي تمضي إليه ولا تراه فتلمسه، وهو ما يعنون حتماً بفحولة القدمين.
& الرغبة بالمضي "...إلى أين؟..." أكثر من البقاء،فتشد أوتادك إلى ريح وترحل. فحولة القدمين تجرك إلى الجهة التي تظن أنك ستصل.
& لم أترك شيئاً في مضيي إلى الأمام إلا وجربته. أجرب المعنى الذي تكلموا عنه وهم يهزون رؤوسهم. أجرب وأنطلق، فأنطلق وأجرب. سواء رحلت طيراناً برفقة أو بدونها أو في قارب أو بمحض مصادفة مثل الأب وهو يسرق حصاناً من إسطبل لم يحظ برؤية صاحبه ولا دبق زوجته. جربت الجبال المتناثرة مثل القار، والوديان التي تحصر أراض وأخرى. حملت أمتعة واجتزت حدوداً لم يتعرف علي حراسها. نقلت أوعية تنبعث منها روائح تبغ و شاي وقالوا لي أنك كالكردي لا تهدأ له قدم ،فأمض إلى الأمام حتى تصل. الأوعية تتحول إلى أكياس وتنبعث منها روائح أقوى، والأكياس تتمدد وتصبح أطناناً على عربات أو حمير أو بغال لا تنتحر ما أن ترى هوة سحيقة لأنني أحترس كثيراً وأشدها إلى جسدي، فلا مجال لانتحارها دون انتحاري معها، حتى وهي تراقبك بأعين دامعة وكأنها تطلب منك الرحمة التي لا تمنحها لها لأنك لن تُمنَح الرحمة من آخرين حملوك الأوعية وطلبوا منك أن تمضي إلى "هنا"، قريب جداً (وليس عليك سوى أن تذهب إلى الأمام دائماً، وأحدهم سيتسلم منك ما تحمل!).
تصل ولا تلمس الأمام، وتقف فيرشدونك إليه. واحد من بينهم. يبتسم أو يغضب و لا يشير لك سوى بحمل أغراض. (أية أغراض؟)؛ ليس مهماً، تريد أن تعيش، الأصح تريد أن تحيا وتصل إلى الأمام الذي تشتهيه (عليك أن تعمل، أنا أوجهك وأنت تساعدني،مفهوم).بدلاً من المفهوم أهز الرأس كما علموني.
& مع محطة المرشد الأول، ليس لي من عمل غير حمل أغراض مكيسة ومربوطة أو مشدودة بحبال أو مغلقة بالشمع و القار، وبعد عودتي أجده يبتسم ويعد النقود ويقول اليوم نتغدى غداء سباع. ولكننا لا نأكل غير حرق الأصابع، الأصابع المحروقة.محروق أصبعه.الأكلة تلك.نجمع ما خبأناه من كسرات خبز مع ما تبقى من معلبات و مرق و خضروات ذابلة مما نجد، بالزيت أو بدونه ونطهيها كلها معاً، ونأكل ونحترق في المعدة وأصابعنا تنشوي لأننا لا ننتظرها تبرد،فإذا بردت تصبح أكلة أخرى،باردة، غير طيبة،إسماً آخر، لذا نأكل ونحترق ونقول،أعني يقول مرشدي وأنا خلفه (ملعون والديه من إبتكرها..ولكنها لذيذة). وفي ساعات الليل أمضي إلى أمام مثلما يرشدني.&
&& الأمام لم أره إلا بالكلمات،كلمات المرشد، كلماتهم. وبين حين وآخر تتغير البضاعة والأوعية والأسهم التي ترشدك، ولكن البغال هي نفسها مشدودة إلى جسدك خوفاً عليها من أن تنتحر أمام هوة سحيقة، وخوفاً من رحمتهم التي سيواجهونك بها برصاصة و ركلة ترميك حتى حفرة معدة سلفاً، ولن تتذكر نفسك بعدها إلا عبر العيون الدامعة للبغال.
& أصبح مرشدي يناديني محروق أصبعه، تعال يا محروق وأمض يا محروق؛ولم لا تطبخ لنا محروق أصبعه يا محروق؛ولا تتصنع التعب يا محروق...و...لدي لك مهمة صعبة نكسب ونأكل من ورائها أكل سباع. وأنا أهز الرأس. في الليل أحضر لي كيساً خشناً من تلك التي عبأت بها التبغ و الشاي مع الأكراد في أول أمام جربته.كيس مربوط بحبال غليظة و مخاط من فتحته و مصمغ لا تميزه علامة و لا أسم. أخبرني أن أمضي به إلى الأمام (ويتسلمه منك أول من يقابلك) ثم مسكني من رقبتي وهو يقول: تموت أنت قبل أن تفقده.. إذا لم يصل سالماً اقرأ علينا الفاتحة..هذه أهم صفقة... فتقابلت بعيني البغل،أحمله بالكيس الثقيل وأشد جسدي بجسده.تربطنا إلى بعضنا حبال أشد غلظة... وأتبعه.
نتبع غرضاً ، طريقاً، معرفة ما أم نمضي وحسب؟.أجر جسدين في آن واحد، البغل وأنا،أنا والبغل الذي يجرني ونجر الكيس الخشن الثقيل المصمغ من أطرافه.أترك للبغل حرية توزيع الثقل، أتركه يمضي بجسدينا إلى الأمام لأنه يعرف الدروب الموصلة أفضل مني ولأنني لا أحزر نيته إذا ما شددت الحبل بقوة. أتركه يجرني وأفكر أنني لولا الأسماء الكثيرة لاخترت الطيران قرب شتلات أو بدونها أو لشاركت هوس العم واخترت أجنحة خشب لأنها الأنسب في هذا الضيق والمساحة الممتدة والهوة السحيقة. أتركه، ولكنه لا يتركني؛ البغل؛ أشعر برخاوة القدمين كأن طيناً منخوراً تحتهما، ولكن فتات الطين لا تحسه بعد برهة عندما تشنطك عقدة الحبل وتحس بسحب ثقيل و صهيل أشبه بعواء و نخير و رفسات واتكاء على ريح في ليل.
نهوي. البغل يجرني أو أنا الذي أجره، لأننا مشدودان بالحبال وبثقل الكيس وبرغبة الهاوية وهي تستقبلنا. ليس لنا غير أن نجرب الطيران بين وقت وآخر... تمسكت أكثر وانتظرت السقوط الذي كثيراً ما لمحته في عيون البغال ونحن نجتاز الجبال؛ تلك الدمعة اللامعة.. السقوط.. السقوط..انتظار التكسر وسماع تمزق الآه الأخيرة.. الـ"آه" عواء آخر وتوقف.ارتطام بأغصان وقرقعة لا مثيل لها. رحيل طيور واختفاء أصوات. الحبل يشدني. متوقف ولكن الحبل ما زال يجرني.تحسست جسدي وراقبت البغل معلقاً على شجرة الارتطام في نزولنا المفاجئ بعد تحسس فتات الطين. أتنفس وأحاول أن أدرك الثقل. ثقل بغل معلق بغصن فوق رأسي، وثقل كيس يسحبني إلى أسفل. أسمع تكسر أغصان أخرى لينزل فوقي إبريق ماء حار.حار،هو الماء،هو الدم. و انتظرت الرفسات، عواء، نخير وصهيل. راقبت البغل مشقوقاً من بطنه بغصن حاد ولم ألمح لمعة عينيه بسبب من ليل. الكيس يسحبني وأسمع التكسرات فاسحب سكيني وأشد الكيس إلى جسدي ثم أقطع الخيط. نهوي أيضاً مرة أخرى.
& الإرتطام أكله البغل لأنه يهوى الهاوية. ونجوت أنا أجر ثقل الكيس بساق معوقة وخدوش وإبريق ماء البغل، دمه، يتجمد على رأسي وملابسي مع تلامس الهواء.أحاول أن أنام فيجدني مرشدي في اليوم التالي ممدداً تحت شجرة البغل المفتوق بغصنها. يرشقني بالماء فيسيل دم البغل على وجهي مرة أخرى. يتحسس الكيس،يفتحه ليتأكد من سلامة البضاعة ( أنت بطل،وإلا لكنا تحت التراب منذ البارحة). يحملني على بغله،ويطلب مني أن أتحمل رحلة أخرى (لأن الرجل ينتظر). نمضي في الليل فنصل ولا أرى وجه الرجل. رجل ببنطال وقميص و أولاد في انتظاره حتماً وكيس نقود يسلمه إلى مرشدي ويتصافحان. على ضوء مصباح يفتح الرجل الكيس ويتأكد من بضاعته. يتناول حجراً مستطيلاً ويحتضنه بيديه. الحجر عليه كتابات ورموز لا أتميزها. يتصافحان من جديد. تكلمت أنا لأول مرة بعد تعلق البغل بغصن الشجرة: ما هذا الحجر؟
ما هذا.. ما هذا ؟.. تصافح ووداع خلف غابة أشجار ،وتقول حجر..هذا لوح..لوح؟.. لوح لا أهمية له يقول المرشد...لوح غير مهم؟.. كاد أن يقتلني وتستلم عنه الكثير ثم تقول غير مهم!؟.. لوح من هذه التي يسمونها مسمارية.. لوح..حجر.حجر. هل نمضي الآن، لا تضطرني أن أبدل أسمك من محروق إصبعه إلى حجر أو مسماري. الأهم أن تنسى،أن تمحو كل شيء،لا شيء له أهمية، إنس.. أما أردت أن تتجرد من جلدك. غير كل شيء ولا تفكر. غير... أجل،أسمك،أسمك...أسحب اللوح منه،يركلاني، يسحبان اللوح...أنسحب، فيسحبني مع بغله.
الأسماء غباء بلا معنى، لذا& تطفر بين خشخشة رجل وأخرى تتبع فحولتها وتجتاز قرى ومدن وناس ملونين وشبهك وليس لك مثلهم لا في اللون ولا في مطقة الشفاه ولا حتى في النعاس الذي يتكاثر كالبق وأنت تنشه مخافة الغفوة الطويلة أو الصفنة الطويلة أو الرجفة الطويلة. تحترس من ليل ومن نهار ومن رفقة و من عزلة. لأنك وحدك في هذا الأمام الذي يشيرون إليه،حتى وهم يرشدونك، (لأنك أنت وحدك في هذا الأمام). أمامٌ مثل أسماء، كغباء، رغم وفرتها مثل: بغداد،البصرة، كركوك، سليمانية، ماوت، طرطوس،عمان، غوتنبرغ، طرابلس، اللاذقية، مأرب،لندن،ماوت، خليج، لاهاي، برشلونة، قرطبة، طنجة،أريزونا، جبل طارق، ماليزيا، رفحاء، ماوت، باكستان، إصفهان، مجريط، فيينا،أنيف، داداغ، ربص.يلمس، ماوت، كوكر و جرجر......و جزر خضراء، و جبال عذراء لم يطأها متسلق غير أقدام فحلة لأكراد بلا لقب ولا إسم ولا جنسية ولا حكومة، لا يميزون هتلر من غاندي إلا بوفرة الكلأ أو قلته دليل موت أو حياة حتى شتاء قادم ما لم تخطئهم بندقية صياد خنازير جبلية أو ماسورة قناص هاوي أو ضابط محترف، سواء من جهة اليمين أو اليسار، لأنهم لا يفرقون بين الجهات، مثلي، دائماً ما يمضون إلى الأمام ولا يتعرفون عليه ـ هذا الأمام ـ فنشافه يطير مع كل خطوة واسعة لشروال أو بنطلون أو دشداشة أو تنورة تبعاً للتمويه وللمرور من بين سيطرات وحرس وشرطة حدود وتائهين بلا صحراء ومغامرين وطالبي أموال أو مطاردي رؤوس.
& في الحالات الأخرى يصبح لك أكثر من معنى، أعني أكثر من أسم لأنك في كل أمام يسلمونك ورقة (من الأفضل أن لا تقول شيئاً ولا تتحدث عن التزوير!). تبحث أو تدفع لأن يطلقوا عليك اسماً ما يعينك على الاجتياز. يمنحونك أوراقاً مختومة وأنت اليوم محمد وغداً موسى، ولأن أنطونيو أنسب لك في أرض تتكلم ببطولات القيصر، بينما مع أكياس خيش الحدود " أنت كاكه"، أو حتى محروق اصبعه أو لوح،حجر، و لا يمنحونك غير أن تجد لك منامة آمنة. الأسماء تنبح أيضاً، وهم الذين ينبحون بها وتنبح بها خلفهم حتى تلتصق بك كأنك هي، وكأنها أنت. مرة تركي وأخرى سويدي وأخرى صحراوي وأخرى باكستاني وأخرى هولندي وأخرى أسترالي، تنتقي لك من بينها يشار أو ضياء الحق أو الخطابي أو نوبل أو هيدغر أو ديفيد أو محيميد المورو وحسب فهي سواء، غير أنها تميزك في كل أرض وتلتقط لك صور وتلصق في جوازات وتحمل مع أوراق ومرورات ورقابات وأكثر خشية لديك أن يتعرف عليك أحد في ذاك الأمام، لأنك تنكر كل ذلك الذي تركته "هناك"، وتتشبث بالـ"هنا" الذي تطلبه منهم لأنك لم تعد أنت، فأنت هو ما يسمونك به على الأوراق المختومة ومن ثم المرور ونباح الآخرين بتهجي حروف أسمك وأنت الذي تهز الرأس الآن وتتهجى الاسم علامة موافقة وتثبيت ورغبة للانتهاء من كل هذا.
&& تمر من بقعة إلى أخرى بإسم آخر، تنفس جديد، وبينها تتساءل: أين الأمام؟. يجرونك من يديك (تخلص من أوزارك لم يبق سوى القليل).
&& أتخلص وأتخلص ،من الأسماء والأماكن والأشخاص والمرشدين،حتى لم أعرف من أنا حقاً من بين أسمائي. وأية أرض هي التي مررت بها( ومنْ يكون هؤلاء الذين يرشدوني إلى أمام؟).&
& يكفي أنني لم أعثر على شيء. لي أوراق وبلد جديد وأسم آخر و جاكيت أزرق وقميص مشجر وبنطلون وأحمل حقيبة وأمضي دون أن أتعرف على وجهتي. فما زلت إلى اللحظة أحمل البضائع والأوعية من مكان إلى آخر، وأحدهم يأمرني بإيصالها سالمة. فأوصلها كما تعودت.
& في كل مكان أصله وأظن به "الأمام" الذي وعدوني به،أُفاجأ بأنه ليس سوى مسافة لتحمل القدمين، فحولتها التي يعنون. وفي كل مكان يبحلقون في أوراقي وينحني أحدهم نافخاً بصل فمه في أنفي فتتضبب نظارتي الطبية فيقول: تريد أن تفلت مني،هذه ليست أوراقك، هذه أوراق مزورة..إعترف وأدعك تمضي... ولا أعرف الاعتراف لأنني يشار التركي وإذا لم يعجبك أنا ديفيد الأسترالي وأنا محيميد المورو الذي سقط من قارب وأنا ضياء وأنا محروق إصبعه قبل أن أترك مرشدي لوحده مع أحجار أخرى وأمضي إلى الأمام، وأنا كلهم لأنهم آنذاك يطيلون الوقت بالكلمات الجاهزة وتمرير اليد وملء جيوبهم بأي شيء عندك، والآن إلى أمام: " دعه يمضي أوراقه سليمة..لا ليست مزورة".
& تعودت التسميات والأماكن وهز الرأس علامة المعرفة وليست سوى جهل غامض يحلونه بعتقك عن كاهلهم وأصبحت كلمة تزوير مرافقة لكل وقفة حتى أنني لم أجد معنى لترويض القدمين أكثر من مناقشة برودة المصافحة ودس أي شيء تحمله (هيا ..لاعب يدك؟) في الجيوب وفي جارورات مكاتب وفي أوراق مطوية أو مجرد وضعها في اليد مباشرة، فأنت لا تعرف تعريفاً للتزوير الذي يواجهونك به. لأنك لا تعرف. لأنك لا تدرك. ولأنك لا تتكلم. أنت هو غيرك الذي يحمل أوراقاً جديدة بصورة حديثة و إسم آخر و بصقة حبر ربما تنقلك قريباً من هذا الأمام الذي تمضي إليه ولا تجده.
الأمام أمام وأمضي إليه.أقف. يوقفوني.أمض. يتركونني أمضي... تقف أمام الوجه ذاته الذي يدعوك لخفة اليدين،وأنت الذي تقول له الآن: ليس لدي أوراق..لا أعرف من أنا..آه انتظر..خذْ أنا ماليزي..لا أنا هولندي.. لا أنا من الواق واق..أنا محروق أصبعه..أنا منْ؟ ..أنا كيف؟..&
& ينتفض الشرطي،يبتعد، يقترب ويضحك، يفتح الطريق ويقول: تضحك مني، تظنني مغفلاً.مر.أمض.إلى الأمام.هيا.
&
& للمرة الأولى أقف ولا أمضي وأقول لن أمضي. أنا لست أنا وأريد أن أجلس.
في البدء كانت الحيرة (في البدء كان اللحم في العلب كما يقول برودسكي). ينتظرون أن يرضى بي أحدهم ويحملني معه بدلاً من جلوسي قربهم. يدونون إسمي في قائمة الانتظار (أي إسم منها؟)، يقول الشرطي لا يهم، عندما يقبل بك أحدهم، سيسميك بما يريد. وأجلس أنا في الانتظار. تجيء حسناوات وأطفال وأرامل وشبان وشيوخ فيتجاوزونك كأنهم لا يرونك، أو كأنك لست بأحد. يقفون ، يطيلون النظر ويرحلون. أجلس. أنتظر وأحترق في الانتظار..حرق..حريق..محترق لأنك.. محترق بـ .. (محروق..).. ألا تسمع ونحن نناديك منذ ساعة.. أنت!..قم.. أقوم : أجل أنا. يسحبني أحدهم ويسلمني إلى رجل في الانتظار مثلي: هو في عهدتك وقع هنا." ما إسمه؟ ".. هو سيخبرك، لأنه جاء هنا بلا إسم أو ما يدعيه.
قلت للرجل: لنقل إنني محروق...إصبعه، محروق إصبعه... ماذا لم أفهم حقاً؟ محروق،محروق إصبعه،وحاولت أن أترجم حرفياً:& Quema dedos, Dedos quemados,Quemadura de dedos...Q.Q.Q. مسكني الرجل وهو يضحك: لا أعتقد أنك هندي أحمر. دعنا من الحرق. سيكون لك إسماً آخر.. ليكن مزيفاً كما ترغب،لا ضير في ذلك طالما لك الاختيار باستخدامه أو لا. لنفكر...نسميك إسماً غريباً، مثل الشجرة التي تقعد عندها، مثلها أو ما تسمونه بلغتكم..لنقل Abdulhadi ... أجل هو ذاك...إذ ليس هناك من إسم أكثر زيفاً منه، إسم منتحل بدقة.هل يرضيك إسمك الجديد؟
&& أمضي باسمي الجديد، المنتحل كما يسميه مرشدي الجديد، أجربه من شارع إلى آخر، ومن بار إلى آخر. أجرب رنته، تهجي حروفه، وقعه على الألسنة، فألسنة الفتيات ليست كألسنة الشيوخ مثلاً. أجربه، حاملاً إياه من موعد إلى آخر، أنا فلان..كيف يرن..أنا هو..كيف. لا داعي لذلك، سيخبرك هو. أجرب ما أجربه دائماً وفي كلها أسم آخر. الكل يقول إنه أفضل أسم ما أن ينتحلونه لي ولم يسألني أحدهم ما وقعه لدي، لأنهم لا يتركونني أفكر..امض إلى هناك، احمل،أجلب.و في كل مرة تجرب أن تجرب شيئاً آخر ولا تجد إلا شيئاً واحداً.هنا أو هناك. حتى وأنت تصل الـ "هناك" في هذه المرة،ولا تفتح فمك وتقول أنا،لأنهم يطلبون منك أن تحمل هذا الكيس وهذه العلبة وهذه الأوعية وهذا الكارتون،و مرشدك الجديد الذي يبتكر اسمك الجديد يهز رأسه كذلك،وأنت ترضى بكل هذا لأنك أردت أن تخلع جلدك لو تطلب الأمر. تمضيان معاً،لوحدك،معه، في شاحنة،على دراجة.توزع وتستلم وتنادي وتطرق الأبواب وتدق على زر جرس محلات وورش ومخازن.تبدل وتركن وتزين أكياساً وألعاباً وتخبئ وتسرق وتجامل وتنحدر وتغض الطرف وتمارس الكلام لأنك تتكلم ولأنهم يشيرون لك فتجيب... أجيبه الآن أم لا أجيب؟.
&& يسرني مرشدي الجديد بأنه قد قطع تذكرتي دخول معرض تحف قديمة ليوم غد.. وسنكون محظوظين إن دخلنا أول الناس.معرض عالمي. سأنتظرك صباحاً...أفضل أن لا أقول إننا مضينا أول الصباح، لأن الصباح يأتي دائماً منذ أن عرفناه باسمه.
& أعرف القديم من رائحته.الفرق بين قهوة ناضجة وأخرى معبأة قبل تحميصها جيداً.كذلك أميزه من خدوشات يدي الخال وهو يحوش الطين ويقطع الصخر من إطلالات الملوك السومريين. الخدوشات التي طالت يدي في رحلات البغال، ونزهة الجبال وأودية السقوط السحيقة.أمرُّ باحتراس كأنني لا أريد لها أن تتعرف على خطواتي، بينما يمضي الزوار باندهاش،بسرعة،بظهور جلي. أحاول أن أختبئ، أن أراقب الأشياء دون أن تشعر بي زائراً مثل الآخرين.تمر بي الأشياء نفسها،ما حملته بكيس أو بورق أو بقطعة قماش أو مجرد من كلها. أجدها كلها أمامي،أبواب وشبابيك و قيثارات وأجنحة وخشب مصقول وألوان على قماش،رؤوس وأجساد وأذرع مقطعة من حديد و جص و طين مفخور و حجر..( حجر؟)..حجر هذا الذي يجذب إليه الزوار ولا يتركون مجالاً للرؤية؟ يقولون عبر تلفظ أصواتهم المبرمجة...فأخرج من إحتراسي وأقترب. أطيل إرتفاع المشطين، أزيح الأجساد،أثقب لي من بينها عن حفرة لأتبين الحجر حتى أصل أمامه. هو الأمام دائماً لتصله. هناك في زاوية فرشت بقماش، ركن أحدهم الحجر بمثابة قمر سقط على أرض،ومن ثم سيجوه بشريط من البلاستيك. ليس غيرنا، نصطف ونتزاحم ونتلاحم ويحاول أحدنا أن يزيح الآخر، بينما الحرس منشغلون عنا بحك رؤوسهم أو تقليم أظافر أصابع اليدين بأسنانهم.قضمة لكل إظفر.و إظفر لكل إصبع فتشير به للحجر، فهو هناك مركون في زاوية القماش التي تنتابك (رغبة تفرج ربما)، أن تقترب أكثر منه. فترتجف لمنظره. حجر وحيد مركون، تراه مثلما يراه الزوار غير أنك تقترب من شريط الزاوية. تجتازه والحرس منشغل. تنحني لتلمسه والحرس منشغل. تنتفض وتشعر بالحر، تخلع قميصك وتشعر بالحر، تخلع بنطلونك وتشعر بالعرق ينساب على جبينك وعلى...كلك...فتخلع كل شيء لأنك معرض للارتباك بسبب من هرج الناس وهم يغطون وجوه الأطفال التي تزوغ بزوغان رغبة النساء أو تأوههن أو صراخ آخرين لا ينشغلون بغير رؤيتك تخلع وتخلع من جديد وتنحني أكثر على الحجر فتتناوله وتحمله قرب صدرك لتعاود عبر الشريط وتمضي إلى الأمام، فهو الأمام دائماً بالنسبة إليك حتى لو حملت البوابة قطعة تشير للدخول وليس للخروج. تخرج ولا تسمع صراخ الزوار ولا إنتباهة الحرس بعد إنتهائهم من مسح رؤوسهم وتقليم أظافرهم.
&&& لا يهمك غير إنطلاقتك.تجري بارتباك (إلى هنا) هذه المرة؛ بينما لمعة عين البغل المعلق بغصن شجرة يلمحك تهوي؛ بينما أصابعك منفردة تتحسس مسامير رقيقة تنحفر على اللوح ترغب لو تحزر معناها بيقين. تبرق عيناك أيضاً، وتلمس الحروف. تحني رأسك وتسمع نبضها، الحروف،الصخرة، الحجر، اللوح... فيرتجف لارتجافتك.
& تدل الأسهم على الأمام الذي يدلك عليه من احتضانته فتمضي بخفة بينما الأقدام التي خلفك تحاول موازنة نفسها من السقوط. تجري الآن إليه ولو أنك لا تراه ولا تلمسه.
تجرب فحولة القدمين التي لا تشك بها أكثر من الآن، وهي التي يعنونها حتماً.
& تركتُ الـ "هناك" ورائي وتشبثت بالـ "هنا".لأن تركتها ثقيلة ولأنني بلا أثر يحتمل بعد المسافة أو جسارة المران الجديد بينما الرقبة معلقة بمنشفة غليظة، جافة و خشنة.
& علموني أن المشي مسافة طويلة يتطلب التجرد من الأثقال (نعني أثقالك، أوزارك، كلك) وعنيت ما قالوا. فكان ما أن وضعت قدمي عند مفترق طرق، حتى نزعت ملابسي وجريت بكل قوة الروح إلى أمام. متباهياً أن الأمام مسافته قصيرة أو هذا ما فهمت من هزة رؤوسهم وهم يؤكدون (نعني، أنت تفهم بلا شك؟). وإن لم أكن فهمت،إلا أنني كنت مستعداً أن أتجرد من جلدي. لكن الريح الباردة تذكرني باقشعرار الجسد العاري، يرتجف مثل سعفة،وهو في تماثل وتخفي واستقبال لما يظنه الأمام. وهو الأمام دائماً، لأن الخلف مطروح و منسي و متروك هناك ما أن تضع أول خطوة بعد أسياخ القفص.
أنت تفهم... تليها إشارات و التواء رقبة،أو عدة رقاب، لأنهم يعدونك بكل شيء إلا شيء واحد:جرب فحولة قدميك، لا غير. لأنك لست بصاحب حظ مثل الذي يطير برفقة رئيس وزراء بسبب اختفاءه خلف شتلات دفلى و آس بأخضر أبدي (ألست هو ذاك برأس مقلوب و يراقب؟) ولأنك هنا لن تجد ما يشبه الشتلات،لذا استغل قدميك وجرب المطاولة.. تمضي بخفة محاولاً لمس نشاف الأمام هذا الذي تمضي إليه ولا تراه فتلمسه، وهو ما يعنون حتماً بفحولة القدمين.
& الرغبة بالمضي "...إلى أين؟..." أكثر من البقاء،فتشد أوتادك إلى ريح وترحل. فحولة القدمين تجرك إلى الجهة التي تظن أنك ستصل.
& لم أترك شيئاً في مضيي إلى الأمام إلا وجربته. أجرب المعنى الذي تكلموا عنه وهم يهزون رؤوسهم. أجرب وأنطلق، فأنطلق وأجرب. سواء رحلت طيراناً برفقة أو بدونها أو في قارب أو بمحض مصادفة مثل الأب وهو يسرق حصاناً من إسطبل لم يحظ برؤية صاحبه ولا دبق زوجته. جربت الجبال المتناثرة مثل القار، والوديان التي تحصر أراض وأخرى. حملت أمتعة واجتزت حدوداً لم يتعرف علي حراسها. نقلت أوعية تنبعث منها روائح تبغ و شاي وقالوا لي أنك كالكردي لا تهدأ له قدم ،فأمض إلى الأمام حتى تصل. الأوعية تتحول إلى أكياس وتنبعث منها روائح أقوى، والأكياس تتمدد وتصبح أطناناً على عربات أو حمير أو بغال لا تنتحر ما أن ترى هوة سحيقة لأنني أحترس كثيراً وأشدها إلى جسدي، فلا مجال لانتحارها دون انتحاري معها، حتى وهي تراقبك بأعين دامعة وكأنها تطلب منك الرحمة التي لا تمنحها لها لأنك لن تُمنَح الرحمة من آخرين حملوك الأوعية وطلبوا منك أن تمضي إلى "هنا"، قريب جداً (وليس عليك سوى أن تذهب إلى الأمام دائماً، وأحدهم سيتسلم منك ما تحمل!).
تصل ولا تلمس الأمام، وتقف فيرشدونك إليه. واحد من بينهم. يبتسم أو يغضب و لا يشير لك سوى بحمل أغراض. (أية أغراض؟)؛ ليس مهماً، تريد أن تعيش، الأصح تريد أن تحيا وتصل إلى الأمام الذي تشتهيه (عليك أن تعمل، أنا أوجهك وأنت تساعدني،مفهوم).بدلاً من المفهوم أهز الرأس كما علموني.
& مع محطة المرشد الأول، ليس لي من عمل غير حمل أغراض مكيسة ومربوطة أو مشدودة بحبال أو مغلقة بالشمع و القار، وبعد عودتي أجده يبتسم ويعد النقود ويقول اليوم نتغدى غداء سباع. ولكننا لا نأكل غير حرق الأصابع، الأصابع المحروقة.محروق أصبعه.الأكلة تلك.نجمع ما خبأناه من كسرات خبز مع ما تبقى من معلبات و مرق و خضروات ذابلة مما نجد، بالزيت أو بدونه ونطهيها كلها معاً، ونأكل ونحترق في المعدة وأصابعنا تنشوي لأننا لا ننتظرها تبرد،فإذا بردت تصبح أكلة أخرى،باردة، غير طيبة،إسماً آخر، لذا نأكل ونحترق ونقول،أعني يقول مرشدي وأنا خلفه (ملعون والديه من إبتكرها..ولكنها لذيذة). وفي ساعات الليل أمضي إلى أمام مثلما يرشدني.&
&& الأمام لم أره إلا بالكلمات،كلمات المرشد، كلماتهم. وبين حين وآخر تتغير البضاعة والأوعية والأسهم التي ترشدك، ولكن البغال هي نفسها مشدودة إلى جسدك خوفاً عليها من أن تنتحر أمام هوة سحيقة، وخوفاً من رحمتهم التي سيواجهونك بها برصاصة و ركلة ترميك حتى حفرة معدة سلفاً، ولن تتذكر نفسك بعدها إلا عبر العيون الدامعة للبغال.
& أصبح مرشدي يناديني محروق أصبعه، تعال يا محروق وأمض يا محروق؛ولم لا تطبخ لنا محروق أصبعه يا محروق؛ولا تتصنع التعب يا محروق...و...لدي لك مهمة صعبة نكسب ونأكل من ورائها أكل سباع. وأنا أهز الرأس. في الليل أحضر لي كيساً خشناً من تلك التي عبأت بها التبغ و الشاي مع الأكراد في أول أمام جربته.كيس مربوط بحبال غليظة و مخاط من فتحته و مصمغ لا تميزه علامة و لا أسم. أخبرني أن أمضي به إلى الأمام (ويتسلمه منك أول من يقابلك) ثم مسكني من رقبتي وهو يقول: تموت أنت قبل أن تفقده.. إذا لم يصل سالماً اقرأ علينا الفاتحة..هذه أهم صفقة... فتقابلت بعيني البغل،أحمله بالكيس الثقيل وأشد جسدي بجسده.تربطنا إلى بعضنا حبال أشد غلظة... وأتبعه.
نتبع غرضاً ، طريقاً، معرفة ما أم نمضي وحسب؟.أجر جسدين في آن واحد، البغل وأنا،أنا والبغل الذي يجرني ونجر الكيس الخشن الثقيل المصمغ من أطرافه.أترك للبغل حرية توزيع الثقل، أتركه يمضي بجسدينا إلى الأمام لأنه يعرف الدروب الموصلة أفضل مني ولأنني لا أحزر نيته إذا ما شددت الحبل بقوة. أتركه يجرني وأفكر أنني لولا الأسماء الكثيرة لاخترت الطيران قرب شتلات أو بدونها أو لشاركت هوس العم واخترت أجنحة خشب لأنها الأنسب في هذا الضيق والمساحة الممتدة والهوة السحيقة. أتركه، ولكنه لا يتركني؛ البغل؛ أشعر برخاوة القدمين كأن طيناً منخوراً تحتهما، ولكن فتات الطين لا تحسه بعد برهة عندما تشنطك عقدة الحبل وتحس بسحب ثقيل و صهيل أشبه بعواء و نخير و رفسات واتكاء على ريح في ليل.
نهوي. البغل يجرني أو أنا الذي أجره، لأننا مشدودان بالحبال وبثقل الكيس وبرغبة الهاوية وهي تستقبلنا. ليس لنا غير أن نجرب الطيران بين وقت وآخر... تمسكت أكثر وانتظرت السقوط الذي كثيراً ما لمحته في عيون البغال ونحن نجتاز الجبال؛ تلك الدمعة اللامعة.. السقوط.. السقوط..انتظار التكسر وسماع تمزق الآه الأخيرة.. الـ"آه" عواء آخر وتوقف.ارتطام بأغصان وقرقعة لا مثيل لها. رحيل طيور واختفاء أصوات. الحبل يشدني. متوقف ولكن الحبل ما زال يجرني.تحسست جسدي وراقبت البغل معلقاً على شجرة الارتطام في نزولنا المفاجئ بعد تحسس فتات الطين. أتنفس وأحاول أن أدرك الثقل. ثقل بغل معلق بغصن فوق رأسي، وثقل كيس يسحبني إلى أسفل. أسمع تكسر أغصان أخرى لينزل فوقي إبريق ماء حار.حار،هو الماء،هو الدم. و انتظرت الرفسات، عواء، نخير وصهيل. راقبت البغل مشقوقاً من بطنه بغصن حاد ولم ألمح لمعة عينيه بسبب من ليل. الكيس يسحبني وأسمع التكسرات فاسحب سكيني وأشد الكيس إلى جسدي ثم أقطع الخيط. نهوي أيضاً مرة أخرى.
& الإرتطام أكله البغل لأنه يهوى الهاوية. ونجوت أنا أجر ثقل الكيس بساق معوقة وخدوش وإبريق ماء البغل، دمه، يتجمد على رأسي وملابسي مع تلامس الهواء.أحاول أن أنام فيجدني مرشدي في اليوم التالي ممدداً تحت شجرة البغل المفتوق بغصنها. يرشقني بالماء فيسيل دم البغل على وجهي مرة أخرى. يتحسس الكيس،يفتحه ليتأكد من سلامة البضاعة ( أنت بطل،وإلا لكنا تحت التراب منذ البارحة). يحملني على بغله،ويطلب مني أن أتحمل رحلة أخرى (لأن الرجل ينتظر). نمضي في الليل فنصل ولا أرى وجه الرجل. رجل ببنطال وقميص و أولاد في انتظاره حتماً وكيس نقود يسلمه إلى مرشدي ويتصافحان. على ضوء مصباح يفتح الرجل الكيس ويتأكد من بضاعته. يتناول حجراً مستطيلاً ويحتضنه بيديه. الحجر عليه كتابات ورموز لا أتميزها. يتصافحان من جديد. تكلمت أنا لأول مرة بعد تعلق البغل بغصن الشجرة: ما هذا الحجر؟
ما هذا.. ما هذا ؟.. تصافح ووداع خلف غابة أشجار ،وتقول حجر..هذا لوح..لوح؟.. لوح لا أهمية له يقول المرشد...لوح غير مهم؟.. كاد أن يقتلني وتستلم عنه الكثير ثم تقول غير مهم!؟.. لوح من هذه التي يسمونها مسمارية.. لوح..حجر.حجر. هل نمضي الآن، لا تضطرني أن أبدل أسمك من محروق إصبعه إلى حجر أو مسماري. الأهم أن تنسى،أن تمحو كل شيء،لا شيء له أهمية، إنس.. أما أردت أن تتجرد من جلدك. غير كل شيء ولا تفكر. غير... أجل،أسمك،أسمك...أسحب اللوح منه،يركلاني، يسحبان اللوح...أنسحب، فيسحبني مع بغله.
الأسماء غباء بلا معنى، لذا& تطفر بين خشخشة رجل وأخرى تتبع فحولتها وتجتاز قرى ومدن وناس ملونين وشبهك وليس لك مثلهم لا في اللون ولا في مطقة الشفاه ولا حتى في النعاس الذي يتكاثر كالبق وأنت تنشه مخافة الغفوة الطويلة أو الصفنة الطويلة أو الرجفة الطويلة. تحترس من ليل ومن نهار ومن رفقة و من عزلة. لأنك وحدك في هذا الأمام الذي يشيرون إليه،حتى وهم يرشدونك، (لأنك أنت وحدك في هذا الأمام). أمامٌ مثل أسماء، كغباء، رغم وفرتها مثل: بغداد،البصرة، كركوك، سليمانية، ماوت، طرطوس،عمان، غوتنبرغ، طرابلس، اللاذقية، مأرب،لندن،ماوت، خليج، لاهاي، برشلونة، قرطبة، طنجة،أريزونا، جبل طارق، ماليزيا، رفحاء، ماوت، باكستان، إصفهان، مجريط، فيينا،أنيف، داداغ، ربص.يلمس، ماوت، كوكر و جرجر......و جزر خضراء، و جبال عذراء لم يطأها متسلق غير أقدام فحلة لأكراد بلا لقب ولا إسم ولا جنسية ولا حكومة، لا يميزون هتلر من غاندي إلا بوفرة الكلأ أو قلته دليل موت أو حياة حتى شتاء قادم ما لم تخطئهم بندقية صياد خنازير جبلية أو ماسورة قناص هاوي أو ضابط محترف، سواء من جهة اليمين أو اليسار، لأنهم لا يفرقون بين الجهات، مثلي، دائماً ما يمضون إلى الأمام ولا يتعرفون عليه ـ هذا الأمام ـ فنشافه يطير مع كل خطوة واسعة لشروال أو بنطلون أو دشداشة أو تنورة تبعاً للتمويه وللمرور من بين سيطرات وحرس وشرطة حدود وتائهين بلا صحراء ومغامرين وطالبي أموال أو مطاردي رؤوس.
& في الحالات الأخرى يصبح لك أكثر من معنى، أعني أكثر من أسم لأنك في كل أمام يسلمونك ورقة (من الأفضل أن لا تقول شيئاً ولا تتحدث عن التزوير!). تبحث أو تدفع لأن يطلقوا عليك اسماً ما يعينك على الاجتياز. يمنحونك أوراقاً مختومة وأنت اليوم محمد وغداً موسى، ولأن أنطونيو أنسب لك في أرض تتكلم ببطولات القيصر، بينما مع أكياس خيش الحدود " أنت كاكه"، أو حتى محروق اصبعه أو لوح،حجر، و لا يمنحونك غير أن تجد لك منامة آمنة. الأسماء تنبح أيضاً، وهم الذين ينبحون بها وتنبح بها خلفهم حتى تلتصق بك كأنك هي، وكأنها أنت. مرة تركي وأخرى سويدي وأخرى صحراوي وأخرى باكستاني وأخرى هولندي وأخرى أسترالي، تنتقي لك من بينها يشار أو ضياء الحق أو الخطابي أو نوبل أو هيدغر أو ديفيد أو محيميد المورو وحسب فهي سواء، غير أنها تميزك في كل أرض وتلتقط لك صور وتلصق في جوازات وتحمل مع أوراق ومرورات ورقابات وأكثر خشية لديك أن يتعرف عليك أحد في ذاك الأمام، لأنك تنكر كل ذلك الذي تركته "هناك"، وتتشبث بالـ"هنا" الذي تطلبه منهم لأنك لم تعد أنت، فأنت هو ما يسمونك به على الأوراق المختومة ومن ثم المرور ونباح الآخرين بتهجي حروف أسمك وأنت الذي تهز الرأس الآن وتتهجى الاسم علامة موافقة وتثبيت ورغبة للانتهاء من كل هذا.
&& تمر من بقعة إلى أخرى بإسم آخر، تنفس جديد، وبينها تتساءل: أين الأمام؟. يجرونك من يديك (تخلص من أوزارك لم يبق سوى القليل).
&& أتخلص وأتخلص ،من الأسماء والأماكن والأشخاص والمرشدين،حتى لم أعرف من أنا حقاً من بين أسمائي. وأية أرض هي التي مررت بها( ومنْ يكون هؤلاء الذين يرشدوني إلى أمام؟).&
& يكفي أنني لم أعثر على شيء. لي أوراق وبلد جديد وأسم آخر و جاكيت أزرق وقميص مشجر وبنطلون وأحمل حقيبة وأمضي دون أن أتعرف على وجهتي. فما زلت إلى اللحظة أحمل البضائع والأوعية من مكان إلى آخر، وأحدهم يأمرني بإيصالها سالمة. فأوصلها كما تعودت.
& في كل مكان أصله وأظن به "الأمام" الذي وعدوني به،أُفاجأ بأنه ليس سوى مسافة لتحمل القدمين، فحولتها التي يعنون. وفي كل مكان يبحلقون في أوراقي وينحني أحدهم نافخاً بصل فمه في أنفي فتتضبب نظارتي الطبية فيقول: تريد أن تفلت مني،هذه ليست أوراقك، هذه أوراق مزورة..إعترف وأدعك تمضي... ولا أعرف الاعتراف لأنني يشار التركي وإذا لم يعجبك أنا ديفيد الأسترالي وأنا محيميد المورو الذي سقط من قارب وأنا ضياء وأنا محروق إصبعه قبل أن أترك مرشدي لوحده مع أحجار أخرى وأمضي إلى الأمام، وأنا كلهم لأنهم آنذاك يطيلون الوقت بالكلمات الجاهزة وتمرير اليد وملء جيوبهم بأي شيء عندك، والآن إلى أمام: " دعه يمضي أوراقه سليمة..لا ليست مزورة".
& تعودت التسميات والأماكن وهز الرأس علامة المعرفة وليست سوى جهل غامض يحلونه بعتقك عن كاهلهم وأصبحت كلمة تزوير مرافقة لكل وقفة حتى أنني لم أجد معنى لترويض القدمين أكثر من مناقشة برودة المصافحة ودس أي شيء تحمله (هيا ..لاعب يدك؟) في الجيوب وفي جارورات مكاتب وفي أوراق مطوية أو مجرد وضعها في اليد مباشرة، فأنت لا تعرف تعريفاً للتزوير الذي يواجهونك به. لأنك لا تعرف. لأنك لا تدرك. ولأنك لا تتكلم. أنت هو غيرك الذي يحمل أوراقاً جديدة بصورة حديثة و إسم آخر و بصقة حبر ربما تنقلك قريباً من هذا الأمام الذي تمضي إليه ولا تجده.
الأمام أمام وأمضي إليه.أقف. يوقفوني.أمض. يتركونني أمضي... تقف أمام الوجه ذاته الذي يدعوك لخفة اليدين،وأنت الذي تقول له الآن: ليس لدي أوراق..لا أعرف من أنا..آه انتظر..خذْ أنا ماليزي..لا أنا هولندي.. لا أنا من الواق واق..أنا محروق أصبعه..أنا منْ؟ ..أنا كيف؟..&
& ينتفض الشرطي،يبتعد، يقترب ويضحك، يفتح الطريق ويقول: تضحك مني، تظنني مغفلاً.مر.أمض.إلى الأمام.هيا.
&
& للمرة الأولى أقف ولا أمضي وأقول لن أمضي. أنا لست أنا وأريد أن أجلس.
في البدء كانت الحيرة (في البدء كان اللحم في العلب كما يقول برودسكي). ينتظرون أن يرضى بي أحدهم ويحملني معه بدلاً من جلوسي قربهم. يدونون إسمي في قائمة الانتظار (أي إسم منها؟)، يقول الشرطي لا يهم، عندما يقبل بك أحدهم، سيسميك بما يريد. وأجلس أنا في الانتظار. تجيء حسناوات وأطفال وأرامل وشبان وشيوخ فيتجاوزونك كأنهم لا يرونك، أو كأنك لست بأحد. يقفون ، يطيلون النظر ويرحلون. أجلس. أنتظر وأحترق في الانتظار..حرق..حريق..محترق لأنك.. محترق بـ .. (محروق..).. ألا تسمع ونحن نناديك منذ ساعة.. أنت!..قم.. أقوم : أجل أنا. يسحبني أحدهم ويسلمني إلى رجل في الانتظار مثلي: هو في عهدتك وقع هنا." ما إسمه؟ ".. هو سيخبرك، لأنه جاء هنا بلا إسم أو ما يدعيه.
قلت للرجل: لنقل إنني محروق...إصبعه، محروق إصبعه... ماذا لم أفهم حقاً؟ محروق،محروق إصبعه،وحاولت أن أترجم حرفياً:& Quema dedos, Dedos quemados,Quemadura de dedos...Q.Q.Q. مسكني الرجل وهو يضحك: لا أعتقد أنك هندي أحمر. دعنا من الحرق. سيكون لك إسماً آخر.. ليكن مزيفاً كما ترغب،لا ضير في ذلك طالما لك الاختيار باستخدامه أو لا. لنفكر...نسميك إسماً غريباً، مثل الشجرة التي تقعد عندها، مثلها أو ما تسمونه بلغتكم..لنقل Abdulhadi ... أجل هو ذاك...إذ ليس هناك من إسم أكثر زيفاً منه، إسم منتحل بدقة.هل يرضيك إسمك الجديد؟
&& أمضي باسمي الجديد، المنتحل كما يسميه مرشدي الجديد، أجربه من شارع إلى آخر، ومن بار إلى آخر. أجرب رنته، تهجي حروفه، وقعه على الألسنة، فألسنة الفتيات ليست كألسنة الشيوخ مثلاً. أجربه، حاملاً إياه من موعد إلى آخر، أنا فلان..كيف يرن..أنا هو..كيف. لا داعي لذلك، سيخبرك هو. أجرب ما أجربه دائماً وفي كلها أسم آخر. الكل يقول إنه أفضل أسم ما أن ينتحلونه لي ولم يسألني أحدهم ما وقعه لدي، لأنهم لا يتركونني أفكر..امض إلى هناك، احمل،أجلب.و في كل مرة تجرب أن تجرب شيئاً آخر ولا تجد إلا شيئاً واحداً.هنا أو هناك. حتى وأنت تصل الـ "هناك" في هذه المرة،ولا تفتح فمك وتقول أنا،لأنهم يطلبون منك أن تحمل هذا الكيس وهذه العلبة وهذه الأوعية وهذا الكارتون،و مرشدك الجديد الذي يبتكر اسمك الجديد يهز رأسه كذلك،وأنت ترضى بكل هذا لأنك أردت أن تخلع جلدك لو تطلب الأمر. تمضيان معاً،لوحدك،معه، في شاحنة،على دراجة.توزع وتستلم وتنادي وتطرق الأبواب وتدق على زر جرس محلات وورش ومخازن.تبدل وتركن وتزين أكياساً وألعاباً وتخبئ وتسرق وتجامل وتنحدر وتغض الطرف وتمارس الكلام لأنك تتكلم ولأنهم يشيرون لك فتجيب... أجيبه الآن أم لا أجيب؟.
&& يسرني مرشدي الجديد بأنه قد قطع تذكرتي دخول معرض تحف قديمة ليوم غد.. وسنكون محظوظين إن دخلنا أول الناس.معرض عالمي. سأنتظرك صباحاً...أفضل أن لا أقول إننا مضينا أول الصباح، لأن الصباح يأتي دائماً منذ أن عرفناه باسمه.
& أعرف القديم من رائحته.الفرق بين قهوة ناضجة وأخرى معبأة قبل تحميصها جيداً.كذلك أميزه من خدوشات يدي الخال وهو يحوش الطين ويقطع الصخر من إطلالات الملوك السومريين. الخدوشات التي طالت يدي في رحلات البغال، ونزهة الجبال وأودية السقوط السحيقة.أمرُّ باحتراس كأنني لا أريد لها أن تتعرف على خطواتي، بينما يمضي الزوار باندهاش،بسرعة،بظهور جلي. أحاول أن أختبئ، أن أراقب الأشياء دون أن تشعر بي زائراً مثل الآخرين.تمر بي الأشياء نفسها،ما حملته بكيس أو بورق أو بقطعة قماش أو مجرد من كلها. أجدها كلها أمامي،أبواب وشبابيك و قيثارات وأجنحة وخشب مصقول وألوان على قماش،رؤوس وأجساد وأذرع مقطعة من حديد و جص و طين مفخور و حجر..( حجر؟)..حجر هذا الذي يجذب إليه الزوار ولا يتركون مجالاً للرؤية؟ يقولون عبر تلفظ أصواتهم المبرمجة...فأخرج من إحتراسي وأقترب. أطيل إرتفاع المشطين، أزيح الأجساد،أثقب لي من بينها عن حفرة لأتبين الحجر حتى أصل أمامه. هو الأمام دائماً لتصله. هناك في زاوية فرشت بقماش، ركن أحدهم الحجر بمثابة قمر سقط على أرض،ومن ثم سيجوه بشريط من البلاستيك. ليس غيرنا، نصطف ونتزاحم ونتلاحم ويحاول أحدنا أن يزيح الآخر، بينما الحرس منشغلون عنا بحك رؤوسهم أو تقليم أظافر أصابع اليدين بأسنانهم.قضمة لكل إظفر.و إظفر لكل إصبع فتشير به للحجر، فهو هناك مركون في زاوية القماش التي تنتابك (رغبة تفرج ربما)، أن تقترب أكثر منه. فترتجف لمنظره. حجر وحيد مركون، تراه مثلما يراه الزوار غير أنك تقترب من شريط الزاوية. تجتازه والحرس منشغل. تنحني لتلمسه والحرس منشغل. تنتفض وتشعر بالحر، تخلع قميصك وتشعر بالحر، تخلع بنطلونك وتشعر بالعرق ينساب على جبينك وعلى...كلك...فتخلع كل شيء لأنك معرض للارتباك بسبب من هرج الناس وهم يغطون وجوه الأطفال التي تزوغ بزوغان رغبة النساء أو تأوههن أو صراخ آخرين لا ينشغلون بغير رؤيتك تخلع وتخلع من جديد وتنحني أكثر على الحجر فتتناوله وتحمله قرب صدرك لتعاود عبر الشريط وتمضي إلى الأمام، فهو الأمام دائماً بالنسبة إليك حتى لو حملت البوابة قطعة تشير للدخول وليس للخروج. تخرج ولا تسمع صراخ الزوار ولا إنتباهة الحرس بعد إنتهائهم من مسح رؤوسهم وتقليم أظافرهم.
&&& لا يهمك غير إنطلاقتك.تجري بارتباك (إلى هنا) هذه المرة؛ بينما لمعة عين البغل المعلق بغصن شجرة يلمحك تهوي؛ بينما أصابعك منفردة تتحسس مسامير رقيقة تنحفر على اللوح ترغب لو تحزر معناها بيقين. تبرق عيناك أيضاً، وتلمس الحروف. تحني رأسك وتسمع نبضها، الحروف،الصخرة، الحجر، اللوح... فيرتجف لارتجافتك.
& تدل الأسهم على الأمام الذي يدلك عليه من احتضانته فتمضي بخفة بينما الأقدام التي خلفك تحاول موازنة نفسها من السقوط. تجري الآن إليه ولو أنك لا تراه ولا تلمسه.
تجرب فحولة القدمين التي لا تشك بها أكثر من الآن، وهي التي يعنونها حتماً.
&
مهداة &...& إلى جلال نعيم.
&
التعليقات