طيران بالمقلوب
&
& رفع& ساقيه في الريح فلم تتكئا على ريح، فسقط فتكسرت أكتافه.
& ذلك أنه هم بتجريب خفته، فصنع جناحين من خشب، وربطهما على ذراعيه بحبل لا أظنه بقسوة خيط البرشوت، فصعد أعلى القشلة عندما لم تكن تسمى بعد بالقشلة بينما فراغها هو ذاك وسط المدينة، وصرخ في الناس"إني أصنع ما لم أسبق إليه، وسأطير كطير" فوقع كحجارة تفتت قطعاً وتناثرت على الحصى، ولأنها لامعة& ـ الشظايا ـ فقد برقت وامتصت رغبته بأن يقوم ويبتسم لهم.
& لا أذكر له ابتسامة،ذلك أنه عمي،غير أنه لا يعرفني، و لم يفكر بأن يحمل نسخة من "مختار صحاحه" معه ولا أن يذكر الناس باسمه وهو يصرخ بهم أنه لا يعرفني، ليس لأنني سأجيء بعد زمن طويل، بل لأنه ليس عمي، وهو الجوهري صاحب مختار الصحاح، ولكني كي أبحث عن لغز الريح والصعود أعلى البنايات والغرق في الفراغ الذي نمارسه كلنا، أبتكر أصلاً للحكاية. حكاية العائلة وحكايتي التي أقص هنا.هي حكايتنا كلنا، جدي الأكبر، أجدادي الآخرون، جدي لأبي وجدي لأمي، أبي وأخوتي، ثم يأتي دوري لأمد خيط العائلة عندما مررت على شقق الجيران الذين لم يشعروا بخطوي وأنا أصعد السطح وأتوازن على حافة البناية، مؤمنة على الحريق، وأسمها بإسم الجادة، الضيقة، المظلمة والطويلة ، فتضيع الأصوات والأطفال والقطط في زواياها.
&& ينتبه الجميع لضياع القطط، يركضون على خيط نباح ضال، ولم يشعروا بي متأرجحاً في قمة البناية وأذكرهم بتحليق عائلة.
& قبل قرن مضى مات رأس العائلة،جدي، منتصباً في وقفته ولم يفكر بالانتحار من أعلى سطح بناية مثلما ستكون عليه ميتتي.(هل لأن البنايات لم تكن شائعة؟) إذن كيف صعد الذي ابتكرته وقلت أدعوه عمي عندما صاح في الناس أنه سيطير وشرّع جناحين من خشب.
جدي أراد أن يحك شعر رأسه،ولم تسعفه فكرتان في آن واحد فالتجأ إلى الفراش، بال قبلها، ثم نام. بينما الذي أتى بعده بسنوات لا قيمة لها فهي واللحظات سواء، لم ينم وشعر بفورة دمه تجره إلى مساحات بكر سيقطعها على صهوة جواد سرقه من حظيرة شخص لم يحظ برؤية بريق عينيه ولا دبق زوجته، وبدل أن يجرب الموت سقوطاً من صهوته ـ بمثابة بناية مرتجلة ـ تعلم أن يأمر الآخرين بعدها بأعوام، فينقادون لنداء شاربه كدجاجات سمحات أمام عنفوان ديكهن، وكان أن علق فوق صدره أوسمة لامعة تزينها شرائط بألوان ثلاثة ستشارك إبنه الأكبر بتلوين تلفزيون الدار، فيتقاطر أبناء الجيران وبناته قرب نافذة بيت مشرعة على الشارع ليلمحوا الوجه وردياً والملابس زاهية كخرق الكاوليات.
&
&& هل حقاً ذاك ما دار بذهني وأنا أعلى سطح البناية، أهيئ نفسي لسقوط هادئ دون ضجة، مفكراً بأنني أنقذ أرث العائلة بتحقيق الحلم ولو جاء متأخراً..؟ ربما لا شيء من هذا وأكثر منه ما جعلني أحرك الساقين وأتركهما معلقتين في الريح. فهل سأسقط أخيراً.
& قبل أن يدرك أحد صوت الاحتكاك بالريح، كنت قد سقطت.
& ولكن ما يرجح التالي ليس بقدر الضجة أو السكون، لأنهما متشابهان. ضجة أرث يحملونه ما بين الأضلع، الكل يردد والكل يتمنى والكل يخطط غير أن الزمن يمر، وإن كانوا يصفونه بالسكون أغلب الأحيان.فلا أحد منا، أقصد جدي أو أبي أو أخوتي، قد استطاع أن يطير ويختطف رأس العائلة المحشو بالتبن والمحنط في صندوق زجاجي عرضة لأنظار السياح في متحف تركي. وهذا له حكاية أخرى، لأن الجد الذي يأتي بعد حين، هو جد آخر. ولأنه كان أكثر خوفاً فقد سطا على مفاتيح قلعة القشلة مرة أخرى، قرونٌ بعد سقوط العم المفترض من علوها، وشاء حظه أن يكون طيرانه متواعداً مع نزهة الباشا، وهو تركي بشارب معقوف كالخنجر مثلما يصفونه في كتب السياحة اليوم وفي الخلف منه فتاة تتفتح مثل دراقة. أخذ الجد ذاك على عاتقه أن يحيي أرث عائلة، ينساه واحدهم بعد الآخر وتذكره هو أخيراً. فصعد أعلى القشلة لحظة نزق الباشا كي يجرب أسلحة رمي الحمام وسط البناية وأهدافه أشباح تتراءى على حافة دجلة. عندما صرخ الجد: أنا أطير، صرخت بندقية الباشا أيضاً، ولم يسمع أحد صراخ شبح بعيد التف بغطاء رأسه وغفا للمرة الأخيرة في بلمه. ذلك أن الجميع التفت، كذلك الباشا، ورأوا جدي معلقاً من لباسه بحربة الصواعق أعلى البناية. زلقت قدماه وتشابك لباسه بينما لسانه لا يعجز عن ترديد أنه يطير.
& وبما يشبه حرب مفاجئة، إلتم الحرس والجيش والشرطة ومستشارو الباشا، وتحدث أحدهم عن غدر أهل المدينة، وأشياء عن خيانة وفزع و على الآخرين أن يتصرفوا قبل أن يلفظ المعلق من لباسه أعلى البناية حروف الطيران تلك. أسكت الباشا حشود الجيش والشرطة وحرسه الخاص ومد ماسورة بندقيته، فطار جدي هذه المرة بحق. تدهدر من جدار إلى آخر حتى حط بلا ضجة قرب قدمي الباشا.
& سلخوا رأسه وحشوه بالتبن وحملوه حتى إسطنبول، فوضعه جامعوا التحف في صندوق زجاجي وزينوا به متحف العاصمة. بينما شاعت في المدينة أن جدي حاول أن يقتل الباشا. ولكن أبناءه أشاعوا حمل أخفافهم وأوانيهم وأهلهم وأختفوا. ثم توالت الولادات باسمه ـ بالخفاء أيضاً ـ حتى امتنع وريث جديد عن تسمية أبنه بالاسم الذي تعلق صاحبه وطار قرب قدمي الباشا، خشية منهم أن يضيّعوا الأولاد ويتناسوا أيهم لهذا وأيهم لذاك، فكلهم شبه بعضهم، فأرهبتهم فكرة أن الجميع من الممكن أن يتسلقوا بناية ويتعلقون من ثيابهم.
&اختفى من صنع سيرة العائلة، وتناسى الناس الاسم،حتى عاد جدي الأخير لنبش السيرة وسمى أبي باسم الذي طار من لباسه وحط قريباً من الباشا،وقيل أنه حلف على رأس الخارج من بطن جدتي أنه سيسعى لاسترجاع رأس جدنا المحشو بالتبن قبل أن يبزغ شارب الوريث الجديد.
& الشوارب تنمو، تطق وتتلون بالسواد وتتوشى بالبياض والجد يراقب إبنه ـ أبي ـ ويتحسر أنه لم يعرف إسطنبول ولم يقرب متحفها ولا يفرق بين المدن، فكلها شبيهة ببغداد، لها بيوت ومواخير ومقاه وأسواق وقشلات وناس بمثابة رواة ومؤرخين وفراغ شاسع لا تملأه أية حسرة.
& حسرة لا أملك الآن، فأنا أفكر لأنني لا أملك غير التفكير وقدماي تنزلقان في الفراغ منذ لحظة ضياع الصوت في جادة اختفاء البشر ومواء القطط وخشخشات الكلاب. أفكر لأن الأب لم يفكر بأن يأخذ بيد الجد ويريحه فوق السرير، فقد شاء أن يبقى منتصباً، فهو لا يستطيع الإقتراب من إسطنبول ولا من القشلة، فأصر على الموت بقدمين منتصبتين مثل الأشجار تموت واقفة كما يذكر عنوان مسرحية. وهو ما لم يحصل عليه. تنقل الأب من مدينة إلى أخرى وفي جولة عربات تصر،غفا الجد ولم يعتقد أن الموت يجوب خلفه، فصرير العربات يوقع التشتت، فما كان إلا أن نادى ونادى، والجميع يفكر أين ستكون رحلته الجديدة.
&وهو ما أعددت أنا بعد أعوام. رحلة جديدة. إسطنبول قريبة، ولكن أين لي بخطط مخبري أجاثا كريستي حتى أقترب وأنتزع رأس الجد من صندوقه الزجاجي. طرت ـ أقصد بطائرة من حديد وليس مثل طيراني الآن ـ و مررت بسماء إسطنبول فتخيلت أنني لمحت لباس جدي المعلق ولم يحيني ولو بإشارة فالتبن هش ولعله يتناثر لو هز الجد حاجباً. وهو ما حكيت للأب، فتركني أهذي مهتماً بوضع القطن في أذنيه وأنشغل عني بتعليم الأبناء الآخرين لعبة إهتزاز القدمين وتركهما مثل بالتي قطن محصورتين بمعقاف ومنشورتين على حبل.
& يختفي الأشقاء أيضاً، ليس طيراناً مثلما يتمنى الأب. يمضون خلف دربكة ما. دربكة شبيهة بعطر أو رجرجة لحم أو صفحة كشف عن حرف. يمضون من خشخشة إلى أخرى يسمونها بدقة لحسة لسان، تمر على الأكتاف وتذرق نجمتها، فتحيلهم إلى نشاف. يتطايرون أيضاً ليس من أعلى قشلة أو بناية لا يشعر بك أهلها مثلي الآن في إنزلاقي. بل يمرنون القدمين برقة لا تحس. آخرهم جرب البياض مثل خطفة نسر، ولم تسعفه تنهدات الأب ولا حشو الأذن بالقطن مخافة سماع نبأ لا يشبه بطولات الجد قبل أن يتحول إلى كيس تبن محنط في صندوق متحف لم يتجرأ أحدنا ويختطفه.
& أمضي في الأخير. أنا آخرهم حتماً. ليس لأنني الأخير، إنما أنا أكثرهم خوفاً.
ربما تفكرون أنني الوحيد بلا وريث بعدي، أتجرأ وأقفز، منزلقاً مثل بطة في نهر.
هو ذاك وليس هو. فقد مررت ببوابات الجيران أطرق عليها وأنبئهم مهمتي من أعلى البناية.
أردت أن يمنعني أحدهم، ينبهني إلى خوفي وهو يثرثر مع نفسه:"مسكين هذا المورو"، أن يجرني جار ويربطني من قدمي ويدي فوق السرير وليتركني أركل بجسدي وأصرخ مثلما خمنت تمويهاً لكل شيء. ولكن لا شيء من هذا حصل.
وحيد الآن إلا من فتوقات الريح وأنا أخترقها بانزلاقي البطيء.&
&إنزلاقي يتلكأ. اجده بطيئاً. يتعثر بهيئات تصم الأذان بالقطن، رؤوس محشوة بالتبن ولا تنم عنها تحريكة حاجب، عم بجناحي خشب وكتاب تفسير الكلمات أو هذا ما أفترض لأمنح تزويقاً لتاريخ عائلتي، يقول أنه يطير والقشلة تنبت من جديد بلا باشوات ولا حرس، ولا تحتاج إلى مفاتيح وتسرق. الكل تتهيأ له فرصته، فيعارك إنزلاقي، يشاركوني الحوار، يتخذون حيزاً عبر الفراغ، فيؤثثون أماكنهم، حكاياتهم، رغباتهم، ولا أحد يعينني بالحديث عن الطيران الذي أنا به.
بطيء أراقب البياض يحيط الأخ، ولأنني أشك بهيأتي، فقد قالوا لي لأنك تستمع إلى النثيث ولا ترمش لك عين.أراميهم بالحدقات التي تصل أو لا، فيفرشون آجري عند الشوارع المفروشة بالآجر. يهيئون مدنهم، بيوتاً لا سطوح لها كما يحلمون، أحفاداً بلا إرث ولا توصيات.يتحدثون ويطيلون الحديث، وإنزلاقي يتباطأ،أبحث عن الفراغ الذي يساعد سقوطي، فلا أثر.ممتلئ كل شيء بهم، حتى الريح أجدها ثقيلة، تحتك بأضلاعي، أكتافي ولا تكسرها، ولا أمر بها بسرعة باشق كما أظن، لأن كل شيء متوقف.
&& أشك بالريح، وبوقفتي منذ حين أعلى البناية. ولكن الشك يخلص الحكاية كلها من جد برأس تبن، أو عم بجناحين من خشب، أو أخ ببياض مهيب، وأب لا يهتم بأكثر من قطن الأذن. ولكن هذا لا معنى له الآن، لأنني أسقط كي أحافظ على التاريخ هذا وإن كنت بلا وريث يذكرني ويُعلِّم أشبار البناية في جادة ضياع الصوت.
أسقط لأذكركم بهم.
أسقط وأسقط وأدفع نفسي أكثر ولكنني لا أنزلق، فالريح بلا أثر الآن. ريح عاطلة. ريح شاسعة ولا نهاية لها.
&
مهداة&... إلى الجوهري صاحب مختار الصحاح.
&