&شاكر لعيبي
هل يوجد في الثقافة العربية نهج واضح المعالم في صناعة الأسماء الأدبية الجديدة وإطلاق شهرتها؟ أم أن الامر متروك للصدف والمناسبات والمهارات الفردية التي لا علاقة لها بمعارف ومواهب واحقية الاسماء المعنية؟ لو أننا قاربنا بين وسائل صعود الأسماء في ثقافتنا ومثيلاتها في أوروبا (مثلا) لرأينا ان الفارق يمس مفهومة الثقافة نفسها في سياقين مختلفين وليتحمل القراء مقدمتي الطويلة التالية قبل الوصول الى لب موضوع هذا العنوان.
الشاعر العراقي شاكر لعيبي
أول الاختلافات يقع في ان الثقافة، في أوروبا، تشكل عنصرا من العناصر الاجتماعية والاقتصادية.
وثانيها يقع في اندماج الثقافة بمؤسسات متخصصة ممولة من جهات رسمية وشعبية. وثالثها ان قضية المنفعة المادية تقع في صلب صناعة صعود الأسماء الأدبية والفنية، وان منفعة مثل هذه مدارة من تلك المؤسسات عينها. ورابعها ان الربح الاقتصادي يضع في صلب اعتباره المعارف والمواهب الاصلية ويستثمرها لانها هي بالضبط واحدة من قوانين اللعبة في سوق تجاري قائم على الربح والخسارة (بينما نحن نستعيد مرات المواهب غيظا وغيرة وحسدا) وإذا ما تكلمنا بعدم لباقة لقلنا ان الابداع والمبدع الاصيل يصيران موردين بشريين وسبيلين الى ارباح المؤسسات الثقافة المعنية من جهة ومنفعة المبدعين المادية من جهة اخرى.
لنمض قليلا بهذا الاستطراد: ثمة إذن سلعة ثقافية، سلعة ميتافيزيقية ينبغي الترويج لها، ويتوجب اختراع الوسائل الكفيلة بتحقيق رواجها. ففي دار النشر الاوروبية هناك الملحق الصحفي المسؤول فحسب عن تقديم شذرات عن المؤلفين واعمالهم الي الصحافة.. ثم ان هناك تخصصات وحدود عمل صارمة، فالمؤلف لا يتدخل بعلم الناشر وهذا بنشاطات الملحق الصحفي. وفي حالات كبار المؤلفين الذين طار صيتهم بسبب مواهبم ومعارفهم وليس بالضرورة بسبب الشطارة والشطار العرب مثلا، ثمة مدراء الاعمال منظمو اللقاءات والعقود والسفرات وغيرها.
أين نحن من ذلك كله؟
لا تشكل الثقافة بعد لدينا وهي عمل جماعي عنصرا من عناصر الحياة الاجتماعية (ولا نتكلم عن الإبداع وهو عمل فردي محض)، وأن المؤسسات منشقة عن الثقافة او انها تستخدمها، كمطية، اسوأ استخدام، وأنها في أحسن الحالات ممولة فحسب من طرف الدول لتخدم أغراضا اعلامية. وانها رابعا غير مهتمة، لتل الاسباب، بأية عوائد اقتصادية، بأية ردود فعل اجتماعية وغير مرتبطة بأي سوق. إن اكذوبة الكتب الأوسع انتشارا التي تدأب بعض الصحف العربية علي نشرها تؤكد من طرف خفي ان السوق متخيل من طرف المكتبات التي تروج لبضاعتها او منشوراتها.
كيف إذن تشتهر وتعرف لدينا بعض الأسماء، خاصة تلك التي لا تمتلك المعرفة والمؤهلات الثقافية وكيف تنحسر اسماء اخري ابعد في الوعي والمعرفة والإبداع؟
إذا استبعدنا الإيحاء بالأهمية الشخصية عبر عملية تكرار لا نهائي للاسم المعني في الصحافة، وإذا استبعدنا المنافع التي يجتنبها بعض المسؤولين عن وسائل الإعلام من الترويج لاسم محدد كأن يكون متنفذا او ناشرا او مترجما للغات الاجنبية.. الخ فإن هناك جانبا اخرا من المشكلة إلا وهو التالي:
أن بعض الأسماء تتنامي وتصعد بسبب فعل (الإشاعة) في الوسط الثقافي هذا الاخير يزعم اهمية اسم من الاسماء من دون ان يقرأ ويفحص بالضرورة منجزه الشخصي. فلو اننا ذكرنا اعتباطا بعض الاسماء في ثقافتنا مثل: حنان الشيخ، نصير شمه، أمل الجبوري، علي الشوك، احلام مستغانمي، عباس بيضون، ابراهيم نصر الله، بول شاوول، ادونيس، محمد عفيفي مطر، شاكر لعيبي، محمد بنيس، محمد أولاد الصغير، حيدر حيدر، شوقي ابو شقرة، محمد عابد الجابري، نجم والي، وعبدالقادر الجنابي.. مثلا وروجنا للأهمية المطبقة لهذه الاسماء فمن المرجح ان شطرا من ثقافتنا لن يكلف نفسه عناء فحص منتوجات هؤلاء وسيذهب، عبر إشاعة ثقافية ماكرة، الي اعتبارهم بداهات في المعرفة واسماء لامعة ومثيرة ومهمة. ستصير هذه الاسماء عبر إشاعة المنقول الشفاهي وعبر المتخيل (المشابة للمتخيل في الكتب الأوسع انتشارا) وكأنها الاصوات الالمع في الشعر والقصة والنقد والموسيقي.
وفي غياب ثقافة عامة ببعض ضروب المعرفة كما هو الحال في الحفل الموسيقي فإن صدى الإشاعة ورنينها يصير عاليا جدا.
من يعرف، إلا المتخصصون، على أي الأسس تقوم أهمية منير بشير في العزف علي العود، ومن بعده نصير شمه؟ لو انني زعمت (أقول زعمت) الان بأن (شمه) هو أكذوبة موسيقية كبرى متأسسة علي مزاعم موسيقية متخيلة لا نستطيع في الحقيقة معرفة مدى صدقها من كذبها (بسبب غياب التخصص والمعرفة الموسيقيين في المجتمع العربي) فأنني امتلك منطقا يضاهي في جوهرة منطق الاشاعة المعممة وقد يذهب زعمي بدوره كإشاعة.
لقد خبرنا وشاهدنا من لا يعرف البتة اعمال صديقنا الجميل حيدر حيدر في ثقافتنا العربية، وهو يعتبره فجأة روائيا عظيما (وربما يكون)، لا لشيء سوي لتلك الضجة التي اثيرت حوله بسبب منع روايته "وليمة لأعشاب البحر" في مصر. لقد انطلقت (الإشاعة) بسرعة البرق ووجدت لها صدى في ثقافة عربية لا ترصد قدر ما تنتظر الفضيحة، ثقافة لا تؤسس اليوم معرفها علي المقروء قدر ما تؤسسها على الشفاهي المنقول بمعنى الإشاعة بمقدار كبير.
يقع جذر المشكلة في انحسار القراءة انحسارا لصالح شيء آخر. (شيء) لكي يكون مثقفا فيتوجب عليه ان يقرأ ولأنه لا يقرأ في الحقيقة فإنه يزعم المعرفة، وهي معرفة مستمدة من الكلام العابر المقال في الصحافة ثم عبر تلك الاشاعة الثقافية الموصوفة.
تتقدم (الإشاعة الثقافية) لذلك بوصفها تعويضا عن هجران الفحص الثقافي الجاد. الإشاعة هذه نقيض لرصانة الثقافة التي لا تكتفي بالمشاع والمنقول المتعارف عليه، وتعتكف بالاحرى على غير البديهي وغير المعروف.
تتقدم (الإشاعة الثقافة) وكأنها تريد ملء الشاغر، الجوهري، الحساس المشاغب والمثير الغائب في ثقافتنا بخلق بدائل وهمية له منجزة في اعمال واسماء يعرفها الكثير من الناس ولكن لم يطلع عليها إلا القليل منهم.
لا احد في زعمنا قد قرأ بعمق الاعمال الساسية لبعض الاسماء التي عددناها. وهكذا فليس قليلا من القراء من يود ان يقنع نفسه بأنه يعرف اعمالا ابداعية لا يعرفها في حقيقة الامر ولم يقرأها احيانا البتة، لكي لا يوصم بالجهل ويتقدم كعارف معصوم.
ولكل ذلك أسباب على ما يبدو، ولعل اهمها ان الثقافة العربية وإبداعها لم تصر بعد جزءا من النسيج والحاجة الاجتماعيين، وان فاحص الاثر الإبداعي والمفحوص لا يمتلكان المرجعيات وبالتالي يتناوبان الادوار، وبأن الثقافة لا سوق كبيرا لها في عالمنا العربي لأننا لا نشتري الكتاب بسبب قيمة مشهود عليها دائما ولكن بسبب الضجيج الذي أثاره. ليس الضجيج لدينا بالضرورة رديفا للاهمية الإبداعية، إن وظيفة المؤسسة الحضاري ليست كما نعلم القمع ولكنها من طبيعة مرجعية، وإن غياب المؤسسة الثقافة حسب التصور الذي قدمناه اعلاه هو غياب في الحقيقة لأية مرجعية ممكنة للثقافة.
ستبقى لهذا السبب الإشاعة مصدرا من مصادر ثقافتنا الشخصية... يا للأسف.(عن "أخبار الأدب" المصرية).
&
ثقافة ايلاف [email protected]