محمد عبد الحكم دياب
ونحن نحاول استجلاء طبيعة الحكم الراهن في مصر، فإن الرد علي سؤال من يحكم مصر؟ لا يستقيم بغير الرد علي سؤال آخر هو: كيف يتم حكم مصر حاليا؟، وقد توجهت بسؤالي إلي خبير في شؤون الحكم والسياسة المصرية، ومن المطلعين علي مايجري في الدهاليز الرسمية عن كثب.. هالني ما سمعت، قال الرجل: ان المسؤولية بمعناها السياسي غائبة تماما في مصر.. فقد حول كل مسؤول عن قطاع من قطاعات الدولة إلي اقطاعية فيما يشبه الملكية الخاصة له، وتطلق يده دون ضابط، حتي تحولت المسؤولية السياسية العامة إلي مسؤولية فردية خاصة، لا تختلف كثيرا عن مسؤولية الاقطاعي في اقطاعيات العصور الوسطي الأوروبية، أو اقطاعيات مصر فيما قبل الثورة.
وهذا التحكم الاقطاعي ـ حسب ما ورد علي لسان هذا الخبير ـ تجده في أغلب مجالات العمل في الدولة.. في الاعلام، والزراعة، والاسكان، والصحة، والتعليم، والاقتصاد، والصناعة والنقل، ولهذا جاء التنافر والتناقض ليصبح سيد الموقف. ضاعت المسؤولية الجماعية، وانطمرت العلاقات الصحية بين هذه المجالات، وتحولت اقطاعيات العمل إلي دول عديدة داخل الدولة الواحدة، فدولة الاعلام غير دولة الاقتصاد، ودولة الاسكان تختلف عن دولة الصناعة أو النقل، ودولة الزراعة لا تمت بصلة لدولة التموين والتجارة الخارجية. استطرد هذا الخبير المطلع وقال: إن هذا الوضع هو من مقتضيات ما يجري من نهب وفساد وفوضي وتسيب في البلاد، ومن ضرورات تكوين الثروات الخرافية بطرق غير مشروعة، وعلي أساسه تم تقسيم المواطنين، بفعل هذا المناخ، إلي ناهب أو منهوب، وقامع أو مقموع، وهذا موجود علي أغلب الأصعدة.
هذه الاقطاعيات تبدو محدودة أمام الاقطاعية الكبري لرجال المال والأعمال، الذين استولوا علي القرار السياسي، واستفادوا من هذا التقسيم، وجعلوا الاقطاعيات الصغيرة ـ نسبيا ـ خادمة لاقطاعيتهم الكبري، وهي الدولة نفسها، أوامرهم مستجابة، وامتيازاتهم متزايدة، ونهبهم تجاوز الخيال، رغم غول الأزمة الاقتصادية، فما زالوا المدللين، والمحصنين والمتحكمين في كل شيء. وأصبحت المسؤوليات لديهم تتوزع علي أسس وقواعد العائلة والشلة والوراثة
وهكذا سيطر علي الحكم تحالف يجمع بين النفوذ الأجنبي (الأمريكي تحديدا)، والمال وقصر الرئاسة، شبيه بتحالف الأمس القريب، الذي تشكل من ممثلي الاحتلال البريطاني والاقطاع والقصر الملكي، فالنفوذ الأمريكي يلعب دورا لا يختلف كثيرا عن دور الاحتلال البريطاني إبان سيطرة الامبراطورية، التي لم تكن تغيب عنها الشمس، و إقطاعيات العمل ورجال المال والأعمال يقابل الاقطاع التقليدي الذي كان قبل الثورة، وحل القصر الجمهوري محل القصر الملكي، وهو تحالف كسابقه، يتميز بعمي البصر والبصيرة تجاه المصالح العامة للمواطنين، وخادم للمصالح الأجنبية، وحام للكيان الصهيوني، الذي يتمتع بحماية الدولة الأمريكية ذات الجبروت والقوة.
هذا التحالف، مثله مثل سابقه، يستخدم قوات الأمن بشكل مفرط ومبالغ فيه، فأعاد إلي الذاكرة مشاهد دكتاتورية وبطش اسماعيل صدقي، الملقب بجلاد الشعب، وضحايا ارهاب سليم زكي، حكمدار قاهرة النصف الثاني من أربعينات القرن الماضي، الذي كان يطلق النار، دون تمييز علي المتظاهرين المطالبين بالاستقلال وجلاء المستعمر، والحق في حياة كريمة. في ذلك الزمن كان الشعب هو عدو النظام الملكي، وها هو الشعب يصبح عدوا للنظام القائم، وفيما كان الشعب يوصف في الماضي بالرعاع، فإنه يوصف الآن بالمخربين، وما ان هبت مصر تتضامن مع الانتفاضة في فلسطين، حتي كانت قوات الأمن للمواطنين بالمرصاد، وكان ما جري في جامعة الاسكندرية، في التاسع من شـــهر ابريل/ نيسان الماضي نموذجا فاضحا للوحشية البوليسية.
جاء وصف ذلك في كتيب مطبوع، وكان بعنوان الحقيقة الكاملة وراء مذبحة جامعة الاسكندرية .. وزع بشكل محدود.. ويقع في 50 صفحة، وأشار إليه الكاتب الصحافي المعروف فهمي هويدي في مقال له بصحيفة الوفد في 24 ايار (مايو) الماضي. يكذب الكتيب البيانات الرسمية، وادعائها بسقوط قتيل واحد، وعدد قليل من الجرحي، ويذكر أن عدد الضحايا وصل إلي سبعة قتلي، أي ستة آخرين أضيفوا إلي الضحية التي وردت في بيانات الحكومة.. ماتوا اختناقا بالغاز، هذا غير عدد الجرحي الكبير، والذي قدر بـ 430 طالبا، والقاء القبض علي خمسين طالبا اطلق سراحهم فيما بعد. هذا مع أن المظاهرة كانت سلمية، وهدفها الوصول إلي المركز الثقافي الأمريكي بالأسكندرية، احتجاجا علي الموقف الأمريكي في تأييد ومساندة الاجتياح الوحشي الشاروني للضفة الغربية، وكان ذلك في يوم وصول وزير الخارجية الأمريكية، كولن باول، إلي القاهرة في 9 / 4 . يوم اقتحام الجنود الصهاينة لمخيم جنين، بعد مقاومة باسلة، ومجازر وحشية استمرت تسعة أيام.
عندما قطعت قوات الأمن الطريق علي الطلاب، تدخل عميد كلية الطب كوسيط بين رجال الأمن والطلاب. أبلغ الطلاب بأنه سيقود المسيرة بنفسه، بشرط الالتزام بالطابع السلمي، وعدم السماح لمندسين يقومون بأعمال تخريب، ويقوم الأمن بحماية المسيرة، حتي تصل إلي هدفها، ثم تتفرق في هدوء. لقي هذا الموقف ترحيبا من الطلاب، بعدها اختفي العميد، وعندما بدأ الطلاب في مخاطبة قيادة قوات الأمن، أنكروا من جانبهم وجود أي اتفاق مع عميد كلية الطب، وعليه فلن يسمح للمظاهرة بالتوجه نحو المركز الأمريكي.
انتهت المفاوضات باقتراح بديل من جانب رجال الأمن، يقضي بأن يقوم 200 طالب بتقديم احتجاج إلي المسؤولين بالمركز الأمريكي، وقبل الطلاب بالاقتراح، وطلبوا السماح للبقية منهم بالتوجه إلي مسجد القائد ابراهيم، لعقد مؤتمر هناك، ولم يقبل رجال الأمن اقتراح الطلاب، وبدأوا علي الفور الهجوم بالعصي، وخراطيم المياه، وقنابل الغاز المسيل للدموع، ثم تطور الهجوم باطلاق الرصاص. فرد الطلاب بقذف قوات الأمن بالحجارة، وفي سعي الطلاب للاحتماء بمبني كلية الحقوق من وحشية الهجوم سقط طلاب وطالبات تحت الأقدام، وتحول الشارع إلي ساحة قتال غير متكافئ، سقط فيه عشرات الضحايا وسالت فيه دماء غزيرة للأبرياء والعزل من الطلاب.
وجاءت شهادات العاملين في المستشفي الأميري، الذي استقبل الضحايا والجرحي، نقلا عن هذا الكتيب.. تكمل الصورة. قالت ممرضة بأن عميدا من الشرطة طلب الاطلاع علي تقرير وفاة الطالب محمد السقا، وعندما قرأه لم يعجبه فقام بتمزيقه، وطلب اعداد تقرير آخر، يشير إلي أن الوفاة حدثت نتيجة لهبوط حاد في الدورة الدموية، بعد ارتطام الضحية بالترام، هذه المذبحة وصفها الشعب السكندري بـ انتفاضة الاسكندرية ، وما زالت ظلالها تخيم علي أجواء المدينة المصرية العريقة، وما زال الحزن هو الطابع العام المخيم عليها بشكل مثير لقلق السلطات في القاهرة.
ولا تقتصر تدخلات الأمن علي المسيرات والمظاهرات، فرجاله يتدخلون في كل شيء تقريبا، وكان المثال الطازج هو انتخابات المحليات الأخيرة، حيث قامت جهات الأمن في محافظة الجيزة بالتدخل لانجاح مرشدين يعملون لحسابها، ويستحوذون علي كراهية شديدة من المواطنين، لدرجة أن كثيرا من الناخبين ذهبوا للجان الانتخاب بمطلب واحد، هو منع انتخاب هؤلاء المرشدين ، مقابل اختيار غيرهم، أيا كان توجههم، وخاب أمل الناس، وهم يتابعون تحدي رجال الأمن، وتزويرهم النتائج لصالح هؤلاء المرشدين ، وليت الأمر توقف عند هذا الحد، فلم يتم الاكتفاء بوجود مرشدين أعضاء في المجالس المحلية المنتخبة ، بل فرض رجال الأمن حضور ممثل لهم بشكل دائم في اجتماعات هذه المجالس. وأسماء المحليات التي تم التزوير فيها لصالح المرشدين ، وكذلك المجالس التي يحضر جلساتها رجال أمن تحت يد كاتب هـــذه السطور.
وقد راعني أثناء ركوب سيارة للأجرة، في الطريق من ضاحية المهندسين إلي ميدان التحرير بوسط العاصمة المصرية ما تفوه به السائق بعدما سألني إن كنت أعمل طبيبا، فتصورت أن لديه مشكلة صحية، واعتبرت أن ردي بأنني لست طبيبا ينهي الحديث بيني وبينه، إلا أنه استرسل في سؤالي عن ماذا لو جاء شارون ليحكم مصر؟ هل نؤيده؟.. انزعجت بشدة من منطق السائق، ولما شعر بامتعاضي طلب مني التذرع بالصبر قليلا، وأخذ يحكي لي عن ما تقوم به نيابة المرور بمنطقة نكلا بمحافظة الجيزة، وتبعد حوالي عشرين كيلومترا عن القاهرة، وعن نهجها في اجبار السائقين وأصحاب السيارات علي الذهاب إليها في السادسة صباحا، وفي المعاملة غير الآدمية التي يتلقاها المواطن من جهة قانونية من المفترض أن تحميه وتحافظ علي حقوقه وكرامته. تتركه في صقيع الشتاء وحر الصيف في العراء حتي آخر النهار، ثم تلقي له بأوراقه ومستنداته من الطابق الثاني في المبني باحتقار وتعال شديد، مع السباب والشتائم والاهانات، هذا فضلا عن التقديرات الجزافية للمخالفات، بشكل دفع البعض إلي حرق سياراتهم أمام أعين المسؤولين هناك.. تخلصا من سيارة أصبحت مصدرا للمهانة والاهانة، وبعد أن حكي لي هذا السائق تفاصيل أخري كثيرة قال: هل تتصور أن شارون سيفعل بنا أكثر من هذا؟؟!! وسمع رأيي باللجوء إلي القانون أو الصحافة.
هزني حديث السائق حتي أخذت أبحث عن تفسير لهذه الظاهرة، لاكتشف أن سبب هذا الانحدار، ومصدر الاهانة والمهانة يأتي من أعلي، فصار تقليدا في المستويات الأدني، التي أصبحت لا تشعر بحرج وهي تنكل بالمواطنين وتهينهم، وقد علمت من مصادر موثوقة أن أسلوب الادارة في أعلي المستويات، يقوم علي التحقير والارهاب النفسي والسباب الجارح والشتم اللفظي، أما الوزراء والمسؤولين الكبار الذين لا يتواءمون مع هذا الأسلوب يؤثرون السلامة بالسكوت والصمت، وأصبح أي منهم لا يجرؤ علي مناقشة فكرة أو قرار خوفا من السيل المنهمر من الألفاظ الجارحة والسباب من مستواه الأعلي.
وأثناء البحث عن تفسير للظاهرة علمت بقصة منع تصنيع حبوب الفياغرا المقوية في مصر، طوال سنوات وجود وزير الصحة السابق اسماعيل سلام في منصبه، فعند عرض الموضوع لاستطلاع رأي من هم أكبر منه في المسؤولية، فهم أن هذا الأكبر يتحفظ علي تصنيع الفياغرا، لأن المصريين يتكاثرون كالأرانب!! ولم يستطع وزير الصحة السابق أن يفتح فمه خوفا من هذا اللسان الأكبر ، وتحمل ـ مسكينا ـ اتهامات الصحافة والمواطنين له بأنه صاحب مصلحة في المنع، إلي أن ضبطت مؤخرا أكبر شحنة مهربة من الفياغرا ثمنها ستة ملايين جنيه مصري، في مطار القاهرة، عن طريق مسؤول أمني كبير بالمطار، وبدأ الحديث يتجدد عن تصنيع الفياغرا، بعد أن رحل الوزير مشيعا بلعنات مواطنين مساكين لم يعرفوا سر احجامه.
هذه مؤشرات تنذر بخطر عظيم، وهي للأسف لا تجد الاهتمام الكافي من المسؤولين، الذين تشغلهم عملية تمكين جمال مبارك من احكام قبضته علي الحكم، عن طريق خطة لتطوير الحزب الحاكم، وهو التطوير الذي وصف من جانب منافسين أنه ينذر بكارثة كبري، وهذا حديث يطول، نعدكم بتناوله إذا كان في العمر بقية. (عن "القدس" اللندنية)
وهذا التحكم الاقطاعي ـ حسب ما ورد علي لسان هذا الخبير ـ تجده في أغلب مجالات العمل في الدولة.. في الاعلام، والزراعة، والاسكان، والصحة، والتعليم، والاقتصاد، والصناعة والنقل، ولهذا جاء التنافر والتناقض ليصبح سيد الموقف. ضاعت المسؤولية الجماعية، وانطمرت العلاقات الصحية بين هذه المجالات، وتحولت اقطاعيات العمل إلي دول عديدة داخل الدولة الواحدة، فدولة الاعلام غير دولة الاقتصاد، ودولة الاسكان تختلف عن دولة الصناعة أو النقل، ودولة الزراعة لا تمت بصلة لدولة التموين والتجارة الخارجية. استطرد هذا الخبير المطلع وقال: إن هذا الوضع هو من مقتضيات ما يجري من نهب وفساد وفوضي وتسيب في البلاد، ومن ضرورات تكوين الثروات الخرافية بطرق غير مشروعة، وعلي أساسه تم تقسيم المواطنين، بفعل هذا المناخ، إلي ناهب أو منهوب، وقامع أو مقموع، وهذا موجود علي أغلب الأصعدة.
هذه الاقطاعيات تبدو محدودة أمام الاقطاعية الكبري لرجال المال والأعمال، الذين استولوا علي القرار السياسي، واستفادوا من هذا التقسيم، وجعلوا الاقطاعيات الصغيرة ـ نسبيا ـ خادمة لاقطاعيتهم الكبري، وهي الدولة نفسها، أوامرهم مستجابة، وامتيازاتهم متزايدة، ونهبهم تجاوز الخيال، رغم غول الأزمة الاقتصادية، فما زالوا المدللين، والمحصنين والمتحكمين في كل شيء. وأصبحت المسؤوليات لديهم تتوزع علي أسس وقواعد العائلة والشلة والوراثة
وهكذا سيطر علي الحكم تحالف يجمع بين النفوذ الأجنبي (الأمريكي تحديدا)، والمال وقصر الرئاسة، شبيه بتحالف الأمس القريب، الذي تشكل من ممثلي الاحتلال البريطاني والاقطاع والقصر الملكي، فالنفوذ الأمريكي يلعب دورا لا يختلف كثيرا عن دور الاحتلال البريطاني إبان سيطرة الامبراطورية، التي لم تكن تغيب عنها الشمس، و إقطاعيات العمل ورجال المال والأعمال يقابل الاقطاع التقليدي الذي كان قبل الثورة، وحل القصر الجمهوري محل القصر الملكي، وهو تحالف كسابقه، يتميز بعمي البصر والبصيرة تجاه المصالح العامة للمواطنين، وخادم للمصالح الأجنبية، وحام للكيان الصهيوني، الذي يتمتع بحماية الدولة الأمريكية ذات الجبروت والقوة.
هذا التحالف، مثله مثل سابقه، يستخدم قوات الأمن بشكل مفرط ومبالغ فيه، فأعاد إلي الذاكرة مشاهد دكتاتورية وبطش اسماعيل صدقي، الملقب بجلاد الشعب، وضحايا ارهاب سليم زكي، حكمدار قاهرة النصف الثاني من أربعينات القرن الماضي، الذي كان يطلق النار، دون تمييز علي المتظاهرين المطالبين بالاستقلال وجلاء المستعمر، والحق في حياة كريمة. في ذلك الزمن كان الشعب هو عدو النظام الملكي، وها هو الشعب يصبح عدوا للنظام القائم، وفيما كان الشعب يوصف في الماضي بالرعاع، فإنه يوصف الآن بالمخربين، وما ان هبت مصر تتضامن مع الانتفاضة في فلسطين، حتي كانت قوات الأمن للمواطنين بالمرصاد، وكان ما جري في جامعة الاسكندرية، في التاسع من شـــهر ابريل/ نيسان الماضي نموذجا فاضحا للوحشية البوليسية.
جاء وصف ذلك في كتيب مطبوع، وكان بعنوان الحقيقة الكاملة وراء مذبحة جامعة الاسكندرية .. وزع بشكل محدود.. ويقع في 50 صفحة، وأشار إليه الكاتب الصحافي المعروف فهمي هويدي في مقال له بصحيفة الوفد في 24 ايار (مايو) الماضي. يكذب الكتيب البيانات الرسمية، وادعائها بسقوط قتيل واحد، وعدد قليل من الجرحي، ويذكر أن عدد الضحايا وصل إلي سبعة قتلي، أي ستة آخرين أضيفوا إلي الضحية التي وردت في بيانات الحكومة.. ماتوا اختناقا بالغاز، هذا غير عدد الجرحي الكبير، والذي قدر بـ 430 طالبا، والقاء القبض علي خمسين طالبا اطلق سراحهم فيما بعد. هذا مع أن المظاهرة كانت سلمية، وهدفها الوصول إلي المركز الثقافي الأمريكي بالأسكندرية، احتجاجا علي الموقف الأمريكي في تأييد ومساندة الاجتياح الوحشي الشاروني للضفة الغربية، وكان ذلك في يوم وصول وزير الخارجية الأمريكية، كولن باول، إلي القاهرة في 9 / 4 . يوم اقتحام الجنود الصهاينة لمخيم جنين، بعد مقاومة باسلة، ومجازر وحشية استمرت تسعة أيام.
عندما قطعت قوات الأمن الطريق علي الطلاب، تدخل عميد كلية الطب كوسيط بين رجال الأمن والطلاب. أبلغ الطلاب بأنه سيقود المسيرة بنفسه، بشرط الالتزام بالطابع السلمي، وعدم السماح لمندسين يقومون بأعمال تخريب، ويقوم الأمن بحماية المسيرة، حتي تصل إلي هدفها، ثم تتفرق في هدوء. لقي هذا الموقف ترحيبا من الطلاب، بعدها اختفي العميد، وعندما بدأ الطلاب في مخاطبة قيادة قوات الأمن، أنكروا من جانبهم وجود أي اتفاق مع عميد كلية الطب، وعليه فلن يسمح للمظاهرة بالتوجه نحو المركز الأمريكي.
انتهت المفاوضات باقتراح بديل من جانب رجال الأمن، يقضي بأن يقوم 200 طالب بتقديم احتجاج إلي المسؤولين بالمركز الأمريكي، وقبل الطلاب بالاقتراح، وطلبوا السماح للبقية منهم بالتوجه إلي مسجد القائد ابراهيم، لعقد مؤتمر هناك، ولم يقبل رجال الأمن اقتراح الطلاب، وبدأوا علي الفور الهجوم بالعصي، وخراطيم المياه، وقنابل الغاز المسيل للدموع، ثم تطور الهجوم باطلاق الرصاص. فرد الطلاب بقذف قوات الأمن بالحجارة، وفي سعي الطلاب للاحتماء بمبني كلية الحقوق من وحشية الهجوم سقط طلاب وطالبات تحت الأقدام، وتحول الشارع إلي ساحة قتال غير متكافئ، سقط فيه عشرات الضحايا وسالت فيه دماء غزيرة للأبرياء والعزل من الطلاب.
وجاءت شهادات العاملين في المستشفي الأميري، الذي استقبل الضحايا والجرحي، نقلا عن هذا الكتيب.. تكمل الصورة. قالت ممرضة بأن عميدا من الشرطة طلب الاطلاع علي تقرير وفاة الطالب محمد السقا، وعندما قرأه لم يعجبه فقام بتمزيقه، وطلب اعداد تقرير آخر، يشير إلي أن الوفاة حدثت نتيجة لهبوط حاد في الدورة الدموية، بعد ارتطام الضحية بالترام، هذه المذبحة وصفها الشعب السكندري بـ انتفاضة الاسكندرية ، وما زالت ظلالها تخيم علي أجواء المدينة المصرية العريقة، وما زال الحزن هو الطابع العام المخيم عليها بشكل مثير لقلق السلطات في القاهرة.
ولا تقتصر تدخلات الأمن علي المسيرات والمظاهرات، فرجاله يتدخلون في كل شيء تقريبا، وكان المثال الطازج هو انتخابات المحليات الأخيرة، حيث قامت جهات الأمن في محافظة الجيزة بالتدخل لانجاح مرشدين يعملون لحسابها، ويستحوذون علي كراهية شديدة من المواطنين، لدرجة أن كثيرا من الناخبين ذهبوا للجان الانتخاب بمطلب واحد، هو منع انتخاب هؤلاء المرشدين ، مقابل اختيار غيرهم، أيا كان توجههم، وخاب أمل الناس، وهم يتابعون تحدي رجال الأمن، وتزويرهم النتائج لصالح هؤلاء المرشدين ، وليت الأمر توقف عند هذا الحد، فلم يتم الاكتفاء بوجود مرشدين أعضاء في المجالس المحلية المنتخبة ، بل فرض رجال الأمن حضور ممثل لهم بشكل دائم في اجتماعات هذه المجالس. وأسماء المحليات التي تم التزوير فيها لصالح المرشدين ، وكذلك المجالس التي يحضر جلساتها رجال أمن تحت يد كاتب هـــذه السطور.
وقد راعني أثناء ركوب سيارة للأجرة، في الطريق من ضاحية المهندسين إلي ميدان التحرير بوسط العاصمة المصرية ما تفوه به السائق بعدما سألني إن كنت أعمل طبيبا، فتصورت أن لديه مشكلة صحية، واعتبرت أن ردي بأنني لست طبيبا ينهي الحديث بيني وبينه، إلا أنه استرسل في سؤالي عن ماذا لو جاء شارون ليحكم مصر؟ هل نؤيده؟.. انزعجت بشدة من منطق السائق، ولما شعر بامتعاضي طلب مني التذرع بالصبر قليلا، وأخذ يحكي لي عن ما تقوم به نيابة المرور بمنطقة نكلا بمحافظة الجيزة، وتبعد حوالي عشرين كيلومترا عن القاهرة، وعن نهجها في اجبار السائقين وأصحاب السيارات علي الذهاب إليها في السادسة صباحا، وفي المعاملة غير الآدمية التي يتلقاها المواطن من جهة قانونية من المفترض أن تحميه وتحافظ علي حقوقه وكرامته. تتركه في صقيع الشتاء وحر الصيف في العراء حتي آخر النهار، ثم تلقي له بأوراقه ومستنداته من الطابق الثاني في المبني باحتقار وتعال شديد، مع السباب والشتائم والاهانات، هذا فضلا عن التقديرات الجزافية للمخالفات، بشكل دفع البعض إلي حرق سياراتهم أمام أعين المسؤولين هناك.. تخلصا من سيارة أصبحت مصدرا للمهانة والاهانة، وبعد أن حكي لي هذا السائق تفاصيل أخري كثيرة قال: هل تتصور أن شارون سيفعل بنا أكثر من هذا؟؟!! وسمع رأيي باللجوء إلي القانون أو الصحافة.
هزني حديث السائق حتي أخذت أبحث عن تفسير لهذه الظاهرة، لاكتشف أن سبب هذا الانحدار، ومصدر الاهانة والمهانة يأتي من أعلي، فصار تقليدا في المستويات الأدني، التي أصبحت لا تشعر بحرج وهي تنكل بالمواطنين وتهينهم، وقد علمت من مصادر موثوقة أن أسلوب الادارة في أعلي المستويات، يقوم علي التحقير والارهاب النفسي والسباب الجارح والشتم اللفظي، أما الوزراء والمسؤولين الكبار الذين لا يتواءمون مع هذا الأسلوب يؤثرون السلامة بالسكوت والصمت، وأصبح أي منهم لا يجرؤ علي مناقشة فكرة أو قرار خوفا من السيل المنهمر من الألفاظ الجارحة والسباب من مستواه الأعلي.
وأثناء البحث عن تفسير للظاهرة علمت بقصة منع تصنيع حبوب الفياغرا المقوية في مصر، طوال سنوات وجود وزير الصحة السابق اسماعيل سلام في منصبه، فعند عرض الموضوع لاستطلاع رأي من هم أكبر منه في المسؤولية، فهم أن هذا الأكبر يتحفظ علي تصنيع الفياغرا، لأن المصريين يتكاثرون كالأرانب!! ولم يستطع وزير الصحة السابق أن يفتح فمه خوفا من هذا اللسان الأكبر ، وتحمل ـ مسكينا ـ اتهامات الصحافة والمواطنين له بأنه صاحب مصلحة في المنع، إلي أن ضبطت مؤخرا أكبر شحنة مهربة من الفياغرا ثمنها ستة ملايين جنيه مصري، في مطار القاهرة، عن طريق مسؤول أمني كبير بالمطار، وبدأ الحديث يتجدد عن تصنيع الفياغرا، بعد أن رحل الوزير مشيعا بلعنات مواطنين مساكين لم يعرفوا سر احجامه.
هذه مؤشرات تنذر بخطر عظيم، وهي للأسف لا تجد الاهتمام الكافي من المسؤولين، الذين تشغلهم عملية تمكين جمال مبارك من احكام قبضته علي الحكم، عن طريق خطة لتطوير الحزب الحاكم، وهو التطوير الذي وصف من جانب منافسين أنه ينذر بكارثة كبري، وهذا حديث يطول، نعدكم بتناوله إذا كان في العمر بقية. (عن "القدس" اللندنية)
التعليقات