&
تحقيـق عبـاس صالـح
خمسة مبان متفرقة على طراز خلايا عش النحل، أربعة منها سجون مستقلة تضم نحو خمسة آلاف سجين. انه سجن رومية المركزي يبعد تسعة كيلومترات عن العاصمة، ويعلو 300 متر عن سطح البحر، ويتمدد فوق رابية مساحتها 140 الف متر مربع تحوطها اشجار الصنوبر ويلفحها الهواء النقي في الفضاء الرحب. ولولا الاسلاك الشائكة التي تعلو أسواره لتوهم الناظر اليه من بعيد انه منتجع صحي او بيت للراحة. لكن الخارج شيء والداخل شيء آخر. الداخل أروقة وزنزانات وأبواب مصفحة، شباك حديد، روائح ورطوبة وصراخ، ووجوه واجمة، عيون غارقة في الحزن واليأس... وطوابير زوار يسألون عن الاخ والأب والابن والزوج والحفيد، وخليط غريب من الاعراق والالوان والطوائف& والمذاهب والثقافات. انه "السور العظيم" الذي يحتضن الهموم الكبيرة والممرات المتشعبة والسلالم الحديد اللولبية، ويوزع ما توفر من الشمس على الاجساد الشاحبة والغسيل المدلّى من النوافذ المشبكة. لكن الشمس لا تكفي للجميع اذ ان عدد النزلاء يفوق طاقة السجن الاستيعابية وفق المفاهيم الهندسية والقانونية وحدودها القصوى. رومية من الداخل هو موضوع هذا التحقيق ينشر على حلقتين في اطار الجولة الميدانية على ابرز النماذج من سجون لبنان في كل المناطق.
طابور الزوار هو المشهد الاول. نساء ورجال وأطفال يصطفون في خط طويل امام شباك حديد خارجية مفصولة بنحو متر ونصف المر عن شباك أخرى داخلية يقف خلفها السجناء ما يجعل الحديث صعبا بغير صراخ.
انه مبنى المحكومين في يوم مخصص للزيارات. والزيارة ليست مجرد لقاء عاطفي او عائلي، او مناسبة للسؤال عن الاهل والجيران والاصدقاء، انها ايضا، بل أولا، مناسبة لـ"فش الخلق". نسمع من بعيد: "أوعا تنسى تقول لـ(...) انو انا ما خصني بكل الحفلة. ركّبولي اياها ظلم بظلم!" كما نسمع كلاما آخر من نوع "عدالة؟ الله يرحم العدالة!". نسمع ايضا وقع دموع لا نرى وجوه أصحابها.
عند بوابة السجن الداخلية بعض السجناء "الخدم" يساعدون رجال الامن في تفتيش الاكياس التي يحملها الزوار تفتيشا دقيقا. البعض الآخر يدونون أسماء رفاقهم المطلوبين للمواجهة ثم يصرخون على خدم الطبقات لاحضارهم من غرفهم الى حيث ينتظرهم ذووهم.
دلفنا الى الباحة الرئيسية لمبنى المحكومين في الطبقة الارضية وهي نقطة التلاقي بين البناء المسدس الاضلاع وغالبا ما تشهد حال اكتظاظ. هنا يمارس السجناء نشاطاتهم الرياضية، ويعرضون أجسادهم للشمس، ومنها يتوزعون على قاعات الصلاة والمطالعة والكومبيوتر ومشغل الصناعات اليومية والايروبيك.
&
شاويش وأروانة
وجوه، وجوه، وجوه، وكوكتيل غريب من الناس والطبائع، وآلاف الحكايا والاسرار والالغاز والقصص العجيبة. هذا ارتكب جريمة يندى لها الجبين، وذاك قست عليه الحياة فحولته ذئبا، وهذا استبدت به الغريزة فصار وحشا، وذاك استسلم للانتقام في لحظة انفعال... هذا ضحية ظلم الآخرين وهو، في اعماقه، مقتنع بأنه بريء، وانه فقد حريته وطموحاته بسبب جريمة لم يرتكبها.
كنت أحدق الى الوجوه وأحاول الربط بين نظرات السجناء ومفاهيم الخير والشر في الاديان السماوية وفي كتب الارض وشرائعها عندما سمعت صراخا أعادني الى الواقع: انه صوت المراقب العام للسجن يردد: "شاويش، قوّش المحابيس، ووزعلن "الأروانة" وكل واحد على "يطقوا" وجهز لنا الغرف... الشباب بدّن يصوروا".
الشباب، نحن فريق "النهار" أما المصطلحات الاخرى، فهي من الموروث الشعبي في لغة السجن والسجانين. فالقاووش هو النظارة او الزنزانة الكبيرة، والاروانة هي الأكل، واليطق هو الفراش، والشاويش هو السجين المسؤول عن النظام داخل غرفته او على مستوى الطبقة التي يقيم فيها، وعادة ما يكون من المجرمين القدامى.
السلّم في وسط المبنى أقلتنا الى الطبقة الاولى حيث وقفنا في دائرة محورية تتفرع منها ستة ممرات، الى جانبيها عشرات الغرف - الزنزانات. الممرات باردة، الابواب الحديد مقفلة باحكام، والغرف عبارة عن مساحات صغيرة جدا (4م*2.5م) تضم ستة الى سبعة سجناء، ثلاثة منهم يضطجعون على الاسرة والآخرون يفترشون الارض في وضعية التشابك، رأس هنا وقدم هناك، والعكس بالعكس.
انه السجن بكل مفرداته، والحرية هنا الغائب الاكبر. متر ونصف المتر تقريبا لكل محكوم، وكمية من الاوكسيجين لا أستطيع احتسابها، وفكرت في ان القبر أرحب وأن بعض مزارع الدجاج تؤمن للفراريج الصغيرة مزيدا من الرفاهية، وضوءا وشمسا وموسيقى، ومساحة أكبر للنوم.
من كوة صغيرة في باب احدى الزنزانات القيت نظرة على الداخل. هذا سجين يقرأ في كتاب، وآخر نائم، وثالث يشاهد التلفزيون، ورابع يتحدث الى جاره، وخامس يمارس حركات رياضية... انهم يعيشون - فكرت في نفسي - ولو ان للحياة هنا طعما آخر.
انهم يعيشون في رحاب الذاكرة ربما، او على أمل ان تتبدل الاحوال ويعودون الى بيوتهم وأهلهم وأحبائهم.
السجن مجرد مرحلة ولو طالت، والسجناء في النهاية مجرمون سرقوا واحتالوا وزوروا، وقتلوا ربما، ولماذا الشفقة؟
هنا استعدت حكاية رواها لي قائد سرية السجون العقيد الياس مغبغب قال: "ذات صباح دخلت علي سيدة غاضبة في عينيها ألم كبير وبادرتني: زوجي وابني تحت التراب وقاتلهما يلعب كرة السلة داخل السجن وهو في أحلى حالاته كما شاهدته على شاشة التلفزيون امس خلال بث مباراة بين سجناء رومية". قالتها بغصة وبكت. الحرية غالية لكن الحياة ايضا غالية، والذين يحرمون الآخرين الحياة لا يستحقون نعمة الحرية.
في كل حال انها معادلة شائكة تطرح وظيفة السجن ومهمته من جديد وتتفاوت حولها الآراء بين رافض لان يكون السجن فندقا ذا خمس نجوم ومطالب باخراج السجن من مفهوم مرتع المجرمين او "الزريبة". وبين هذا وذاك تتعدد النظريات والافكار التي لا مجال لذكرها وفي مثل هذا التحقيق التوصيفي لحال السجون من داخلها، فالسجناء وحدهم، يستطيعون التعبير عن أوجاعهم.
&
الظلم "جوا وبرا"
أحد المحكومين بجرم الاتجار بالمخدرات قال: "انا حاقد على كل الناس، بدءا بالقضاة الذين خربوا بيتي وأضاعوا اموالي وشردوا عائلتي. لم أكن سوى مدمن صغير ونسبوا الي زورا تهمة التجارة. والظلم جوا (داخل السجن) مثل برا ما في عدالة".
محكوم آخر بجرم قتل "أعز صديق له" وفق تعبيره يقول: "تشاجرنا وانطلقت رصاصة بالغلط. صحيح انني قتلته لكنني لم أقصد ذلك. كان قصدي التعبير عن غضبي ولسوء حظي مات!" واضاف: "لقد أخطأت، وانا أدفع الثمن، وكل ما أتمناه ان يكون عقابي عادلا". عن كيفية تمضية وقته يقول: "أدرِّس كي لا أهدر الوقت، وأمضي مدة عقوبتي في انتظار فرصة جديدة أطل معها من جديد على الحياة".
سجين يحمل اجازة في العلوم السياسية يقول: "كنت أملك مطعما في الاشرفية، وانا معروف في المنطقة، أخطأت وانزلقت قدمي في لعبة المخدرات، انا اليوم نادم ولن أعود اليها ثانية". يتابع: "الحياة داخل السجن قاسية جدا، والغرف مكتظة، والوجوه اياها تتكرر، والمعاناة حال دائمة. يوم دخلت السجن كانت عائلتي تزورني ثلاث مرات في الاسبوع، وعندما شحت قدراتنا المالية صارت الزيارات شبه معدومة، مرة واحدة في الشهر". وعن طعام السجن يقول انه مقبول بصورة عامة لكن ينقصه شيء دائما... السلطة مثلا من دون حامض وزيت. وقبل ان نتركه يقول: "ان من يخطئ مرة يفترض ألا يعاقب طوال العمر وان يعطى فرصة جديدة".
محكوم آخر بجرم الاتجار بالمخدرات يقول: انا نادم وأشعر بأنني مظلوم، فالعدالة يجب ان تطبق على الجميع، والا فما معنى وجود المدمنين على المخدرات داخل السجن، فيما يسرح كبار التجار ويمرحون خارجا وهم أصحاب نفوذ؟"
&
لماذا لم أعدم؟
موسى حمادة أحد المحكومين في جريمة قتل الاخوين انطونيوس في بعبدا عام 1993 يقول: "فوجئت بحكم الـ12 سنة سجنا لانه كان يفترض ان يعدمونني اذا كنت مذنبا، وان يبرئوني اذا لم أكن... في مثل هذه المسائل لا مجال للمزاح".
هل أنت نادم؟ "لست نادما أبدا صدقني لانني جئت الى هنا بدلا عن ضائع. بطل الجريمة، الذي هو عمي، هرب الى بلجيكا، وذنبي كله انه تعرف الى القتلة السوريين في منزلي".
* ولماذا زج بك في هذه القضية؟ يجيب: "هددوني بأنهم سيسلمونني الى السوريين وأخذوني فعلاً الى فندق "بوريفاج" حيث اخضعت لتحقيق امني، قبل ان يعيدونني الى امن الدولة. يومذاك قلت لهم اكتبوا ما تريدون وأنا اوقع، وكانت النتيجة 12 سنة سجناً... هذا قدري"
* وهل انت حاقد على احد الآن؟
- "اكذب ان قلت لا. انا حاقد لأني ظُلمت، وبصورة خاصة على بعض المحققين".
* هل تبيت انتقاماً من احد؟
- "من هلّق لوقتها بيفرجها الله".
* وكيف تتدبر امورك؟
- "أحمد الله لأني لست كغيري، فلي ولد واحد اصبح عمره الآن 20 عاماً دخلت السجن وأنا في الاربعين وحين اخرج سيكون عمري ،52 والقاضي الذي حكم عليّ لم يعاقبني وحدي، لقد عاقب عائلة بكاملها".
سجين محكوم بجرم اغتصاب لخمس سنين: "زوجتي السابقة، والتي لا تزال على ذمتي، ولي منها ابنان، هي التي ادعت انني حاولت اغتصابها، واثر الادعاء اوقفت لمدة 15 يوماً في دائرة التحري وتعرضت لاهانات عدة وأرغموني على التوقيع".
* وماذا اخذت من السجن؟
- "تعلمت الموسيقى وأدرسها الآن للآخرين، وحصلت على شهادات من الكونسرفتوار الوطني. كما تعلمت الخياطة، وأتقاسم الآن اتعابي مع زوجتي الجديدة التي تزورني مرة كل ستة اسابيع ولي منها ابنة".
* وكم دخلك الشهري من الخياطة حتى تتقاسمه مع زوجتك؟
- "نحو 150 دولاراً ابعث بنصفها اليها".
سجين محكوم بجرم تزوير اخراج قيد قبل 19 عاماً يقول: "ما اصابني هو الظلم بعينه"، يضيف: "السجن حال اكتظاظ وافتراء وكذب وما حدا بيطيق حدا... "البابازات" الكبار يتسلطون على السجناء الصغار، وكله يبقى محمولاً شرط ان لا يعتدي القضاء على احد!".
زين جانبيه محكوم بالاعدام بجرم قتل شقيقه، يقول: "كانت ساعة شيطانية وأنا اليوم اذوب ندماً، وأريد ان اوصل رسالة الى الرأي العام عبر الصحافة. كل ما اريده هو ان اتبرع بكل اعضائي بما فيها الكليتان والعينان وسواها الى المعذبين الذين ينتظرون واهباً فلماذا لا يسمعونني؟".
* وهل تقول ذلك يأساً؟
- "لا بل اقوله بكل صدق وطيبة خاطر ومحبة، اريد ان اهب اعضائي لمحتاج لعلي بذلك اكسب أخاً لا اعرفه يعوضني الأخ الذي فقدته".
* وهل تريد التبرع بأعضائك بعد اعدامك؟
- "لا، اريد ان اتبرع في حياتي لكي اشعر بلذة العطاء قبل ان اموت".
* وهل تخاف الموت؟
"لا. لست ارى فارقاً بين الحياة والموت البطيء الذي نعيشه. في كل يوم نموت اكثر من مرة".
نصب ظريف
الياس جعجع محكوم لثلاث سنين بجرم احتيال ونصب، يقول: "كنت املك محلاً تجارياً وأفلست، حينذاك قلت في نفسي طالما انني هارب فلن اخسر شيئاً واذا انا اعطيت شيكاً لكل من يقول لي مرحباً، وتجمعت المبالغ المستحقة عليّ حتى وصلت الى مليون و300 الف دولار بموجب 56 حكماً.
ذات يوم كنت ماراً في احد شوارع الحازمية، ودخلت محلاً لبيع الحيوانات واشتريت كلبين ومعهما حمولة شاحنة صغيرة من المأكولات المعدة للكلاب، وفي المقابل اعطيت صاحب المحل شيكاً بلا رصيد. بعد سنتين من الحادثة كان الكلبان قد كبرا، وكنت قد مثلت امام القاضي. سأل القاضي صاحب المحل ما اذا كان على استعداد لاستعادة الكلبين فوافق، لكنه عدل عن رأيه عندما رآهما لأن احداً لن يشتريهما بهذا الحجم.
&
"مهووس بأطباء الاسنان!"
والحكايات لا تنتهي. شفيق النحاس محكوم بعشرين سنة بجرم قتل طبيبة اسنان كما جاء في حيثيات الحكم انه "مهووس بأطباء الاسنان"، مهووس الى حد القتل. غير انه كان واجه سبع تهم قتل مماثلة وبرئ منها، الا في هذه القضية اذ حكم عليه بعشرين سنة، ولم يقبل طلب التمييز الذي تقدم به، الامر الذي يعني ان الحكم ابرم. ولكن الصدف ساعدته وفتحت المحاكمة بعد سبع سنين من جديد وربما يخرج بريئاً! يقول النحاس: "انا استاذ أُدرس ميكانيك الطيران في الميدل ايست ومديرية التعليم المهني.
في 10/4/،1993 تاريخ وقوع الجريمة التي ادانوني فيها، كنت خارج الاراضي اللبنانية، تؤكد ذلك افادة صادرة عن الامن العام اللبناني. ثم الادعاء عليّ بجرم احتيال في البداية وحضر المدعي. سأل قاضي التحقيق& المدعي عما اذا كان يعرف شفيق النحاس فأجاب انه يعرفه جيداً واسترسل في وصف شكل الشخص المدعى عليه وملامحه وأوصافه التي لم تكن تنطبق عليّ من قريب او بعيد، وقد فوجئ عندما ابلغه المحقق ان شفيق النحاس يجلس امامك" فرد في خيبة ليس هذا من اقصد ورغم ذلك اوقفوني وراحوا ينسبون اليّ الجريمة تلو الجريمة حتى الرقم ثمانية. وعندما جاء شهود العيان الى المحكمة انكروا ان اكون القاتل، ولكن في جريمة قتل طبيبة الاسنان ادنت من دون حاجة الى شهود".
* لماذا؟
- "لكي لا اخرج بريئاً بعد ثماني سنين من العذاب، وأفضحهم".
يضيف: "لقد اعيدت محاكمتي ثلاث مرات حتى الآن، وكأنهم يصرون على اكتشاف ادلة ليست موجودة، وأنا اليوم امام تجربة جديدة ومحاكمة جديدة، وسوف اثبت للرأي العام وللمحكمة ان لا علاقة لي بهذا كله. صرخت كثيراً حتى الآن ولم يسمعني احد!.
مسؤول كبير في "المجلس الثوري الفلسطيني" محكوم بـ15 سنة بجرم التحريض على القتل، نسأله: على من حرضت؟ فيقول: "على قتل عميل اسرائيلي ولكن سبب اعتقالي ومحاكمتي هو خلافي مع التنظيم الذي كنت انتمي اليه، انها مسألة صراعات داخلية يقف وراءها "الموساد" في معظم الحالات.
* وهل لديك ادلة على تورط الرجل مع الموساد؟
- بالطبع هناك الكثير من الادلة وهذا واضح في التحقيق.
* بعيداً عن حكايتك الخاصة هل انت راضٍ عن السجن؟
- بالمقارنة مع السجون الاخرى يعتبر حبس روميه نموذجياً، فقد تنقلت بين اكثر السجون وشاهدت ما يثير الرعب. اما المقارنة مع السجون العربية فأستطيع القول ان سجون الاردن اكثر تطوراً بناء لتجربتي لأنني اعتقلت في الاردن في احداث ايلول .1970
* وأين المشكلة في رومية؟
- المشكلة الكبرى ان السجن يتسع لعدد محدود ويوم بناه الالمان خصصوا لكل سجين غرفة (4*2.5) اليوم، وبعد ثلاثين عاماً، يتقاسم الغرفة الواحدة ستة سجناء، تصور مدى تخلفنا عن الالمان، وأضرب الـ30 بـ.6
&
مبنى الاحداث هل سمعتم بالتسييف؟
"التسييف" حكاية اخرى لا بد من سردها. انه عبارة عن عملية تشبه كبس الباذنجان، او اي كبيس آخر، شهدناها في اكثر من نظارة في سجن الاحداث. تبدأ العملية مع حلول الظلام، عندما يفترش بعض السجناء ارض النظارة التي تضم نحو 160 سجيناً في شكل متعاكس، بحيث يكون رأس الاول محاذياً لقدمي الثاني، وهكذا حتى تمتلئ ارض القاووش بالاجساد. في تلك اللحظة يكتشف الشاويش ان عدداً من السجناء لا يزالون واقفين، فيأتي مع بعض مساعديه ويسندون ظهورهم الى الحائط ثم يضغطون بأقدامهم على اول سجين ينام بمحاذاة الحائط من اجل تحرير مساحة تتسع لأحد الواقفين، ويتكرر الضغط وتتحرر المساحات الصغيرة تباعاً، حتى ينام آخر السجناء. والمشكلة الكبرى تبدأ حين يضطر احد النيام الى دخول الحمام ليلاً، لأنه لن يجد بعد عودته فسحة للنوم، فيضطر للوقوف عند باب الحمام في انتظار الصباح، كي لا يوقظ الشاويش.
هذا المبنى المخصص للأحداث من المساجين لا يقتصر عليهم انما هناك الكثير الكثير من المحكومين الكبار، لاسيما منهم من يتمتع بدعم خارجي، وقد خصص المبنى في الاساس لاستيعاب 174 سجيناً بينما يستوعب حالياً - بفضل "التسييف" وتقنيات اخرى نجهلها - 1705 سجناء من مختلف الاعمار والمحكوميات.
يتألف المبنى من اربع طبقات، كل طبقة تضم جناحين: احد اجنحة الطبقة السفلى مخصص للسجناء المصابين بـ"الايدز" وعددهم عشرة، اما الجناح الآخر فمخصص للزيارات ومقابلة المحامين. في الطبقة الاولى جناح للمركز الطبي التابع للسجن، اما الجناح الآخر فللمصابين بأمراض عقلية (عصفورية المساجين). وبين الاحداث واليافعين والمرضى والمجانين جامع& مشترك واحد هو الاختناق الذي احد مظاهره "التسييف" الجسدي، وهو محمول نسبياً بالمقارنة مع "التسييف" النفسي.
&
السجن - الملاذ
"وفي مبنى الاحداث حكايات تبدأ بالحديث عن المدعومين الذين يودعون غرفاً لا تشهد اكتظاظاً، وتنتهي بروايات طريفة ودراماتيكية. احد السجناء الاطفال محكوم لأنه سرق ربطة خبز! هذا ما اخبرنا اياه سجين آخر، وحين التقيناه قال "جريمتي انني سرقت شيئاً من المكتبة" لكن هذا الطفل الذي يدل مظهره الخارجي انه لا يتعدى الخامسة من عمره هو في الثانية عشرة. نسأله: لماذا انت هنا؟ فيجيب: "سجنوني، وأنا مبسوط في السجن". هكذا ببساطة. وهذا "البسط" في الواقع ليست مسألة غريبة. الحال شائعة في بعض السجون، اذ يلاحظ ان بعض السجناء الذين ينهون مدة احكامهم يرفضون احياناً الخروج من زنزانتهم، لأنهم ألفوا حياتهم الجديد، وهم لا يملكون الشجاعة للعودة الى الحياة السابقة. ثم ان البعض الآخر يختار دخول السجن طوعاً، شأن ذلك شأن مواطن سوري دخل لبنان خلسة، وعندما ضاقت بوجهه الدنيا توجه الى سجن رومية ليسلّم نفسه حين طلب منه آمر السجن ان يقصد النيابة العامة اذا كان ينوي ذلك، وسأله لماذا تريد ان تسلّم نفسك؟ فأجاب: "ابحث عن عمل لا اجده، وأنا مفلس وجائع انام على الطرق وقد فكرت في ان السجن ملاذ لي. هنا على الاقل اجد طعاماً ومكاناً وفراشاً ومياهاً ساخنة الى ان يفرجها الله".
انه السجن - الملاذ الذي يتسع للمجرمين وانصاف المجرمين، والأبرياء احياناً، وكلما كبرت الجريمة اكتسب مرتكبها نفوذاً انه "الريس" والرجل الذي يفرض هيبته داخل السجن، حيث التراتبية قائمة بامتياز، فالمحتال الكبير الذي سرق اكثر من مليون دولار يتزعم صغار النشالين الذين يتسابقون على خدمته طمعاً في ان ينالهم منه نصيب بعد خروجهم، او طمعاً بوظيفة لديه او هدية او التفاتة... من يدري؟
سجناء الاحداث ماذا يقولون؟
لكن كل الحكايات هنا ليست باردة او "متفائلة" بمرحلة ما بعد السجن. صلاح الخليل - كما يروي - كان له مبلغ من المال في ذمة احد الدائنين، وحصل انه بات في حاجة الى هذا المبلغ فامتنع المدين عن سداده، وحتى عن الاعتراف به. ذات يوم قصد مكتبه متوسلاً ان يعطيه جزءاً ولو بسيطاً من الدين الذي يتجاوز الـ190 مليون ليرة من اجل ان يسدد قسط ابنته التي طردت من المدرسة، لكن المدين امتنع وراح يوجه اليه الاهانات. غضب صلاح، كما يقول، وأحضر غالوناً من البنزين ورشه عليه قبل ان يشعل فيه النار ويسبب حروقاً بالغة لا يزال يعاني منها منذ سبعة اشهر، وتوجه فوراً الى قصر العدل في بعبدا حيث اعترف للمدعي العام بفعلته وسلّم نفسه، وهو اليوم بعيد عن العائلة ينتظر حكماً عادلاً.
&
نشاطات
يبقى ان سجن رومية ليس فقط مجموعة قواويش. الباحة الرئيسية في الطبقة الارضية مفتوحة على خمس قاعات كبيرة نسبياً، الاولى للندوات والافلام السينمائية، وهي تستخدم ايضاً كمكان للعبادة كل جمعة وكل احد. الثانية مكتبة تحوي عدداً لا بأس به من الكتب غير السياسية، الثالثة تستخدم في تدريس الكومبيوتر حيث وزع 15 جهازاً في ارجائها يتابع السجناء دورات في البرمجة تحت اشراف اساتذة متخصصين من السجناء انفسهم، الى جانب تعليم اللغات، الرابعة مشغل للصناعات اليدوية من شك الخرز وحياكة القش واللوحات النحاسية والتفنن بحبوب التمر والزيتون وغيرها من اشغال "المحابيس"، والخامسة لممارسة الرياضة& مزودة بمعدات الايروبيك.
وفي مبنى الاحداث هناك مشغل الميكانيك المخصص لتعليم الحدادة والبويا وكهرباء السيارات والتفاصيل التقنية، والعاملون فيه عادة يصلحون سيارات قوى الامن ويحصلون عند انتهاء الدورة التدريبية على شهادة صادرة عن المركز الوطني للتدريب المهني لا تحمل اي اشارة الى سجن رومية، والأمر عينه ينطبق على الشهادات الاخرى التي يحصل عليها المتدربون على الكومبيوتر واللغات او الذين يتابعون دروساً في محو الامية.
انه السجن الذي يستقبل مجرمين ويودّع مهنيين مؤهلين للعودة الى دورة الانتاج ومهيئين للانخراط مجدداً في الحياة الاجتماعية. لكن هذه الحقيقة لا تلغي مسؤولية المجتمع ومسؤولية السجن نفسه احياناً في اعداد مجرمين جدد اكثر شراسة من المجرمين القدامى، لأن جوانب الاهمال في حياة السجون لا تزال قائمة، وبعض الحالات مفجعة. هذا الاهمال تحاول الجمعيات الدينية والاهلية ان تعوضه، على شكل تقديمات بسيطة للسجناء المنسيين او "المقطوعين"، "وكنزة الشتاء" أحد هذه التقديمات، وقد تبرع أحد الخيّرين ببناء ما سمي "البيت الازرق" داخل سجن رومية، وهو يضم المختلين والمدمنين والمرضى الذين يحتاجون الى عناية دائمة، وتشرف على ادارته اليوم الجمعيات الاهلية ويقتصر دور قوى الامن على الحراسة الخارجية. (النهار اللبنانية)
طابور الزوار هو المشهد الاول. نساء ورجال وأطفال يصطفون في خط طويل امام شباك حديد خارجية مفصولة بنحو متر ونصف المر عن شباك أخرى داخلية يقف خلفها السجناء ما يجعل الحديث صعبا بغير صراخ.
انه مبنى المحكومين في يوم مخصص للزيارات. والزيارة ليست مجرد لقاء عاطفي او عائلي، او مناسبة للسؤال عن الاهل والجيران والاصدقاء، انها ايضا، بل أولا، مناسبة لـ"فش الخلق". نسمع من بعيد: "أوعا تنسى تقول لـ(...) انو انا ما خصني بكل الحفلة. ركّبولي اياها ظلم بظلم!" كما نسمع كلاما آخر من نوع "عدالة؟ الله يرحم العدالة!". نسمع ايضا وقع دموع لا نرى وجوه أصحابها.
عند بوابة السجن الداخلية بعض السجناء "الخدم" يساعدون رجال الامن في تفتيش الاكياس التي يحملها الزوار تفتيشا دقيقا. البعض الآخر يدونون أسماء رفاقهم المطلوبين للمواجهة ثم يصرخون على خدم الطبقات لاحضارهم من غرفهم الى حيث ينتظرهم ذووهم.
دلفنا الى الباحة الرئيسية لمبنى المحكومين في الطبقة الارضية وهي نقطة التلاقي بين البناء المسدس الاضلاع وغالبا ما تشهد حال اكتظاظ. هنا يمارس السجناء نشاطاتهم الرياضية، ويعرضون أجسادهم للشمس، ومنها يتوزعون على قاعات الصلاة والمطالعة والكومبيوتر ومشغل الصناعات اليومية والايروبيك.
&
شاويش وأروانة
وجوه، وجوه، وجوه، وكوكتيل غريب من الناس والطبائع، وآلاف الحكايا والاسرار والالغاز والقصص العجيبة. هذا ارتكب جريمة يندى لها الجبين، وذاك قست عليه الحياة فحولته ذئبا، وهذا استبدت به الغريزة فصار وحشا، وذاك استسلم للانتقام في لحظة انفعال... هذا ضحية ظلم الآخرين وهو، في اعماقه، مقتنع بأنه بريء، وانه فقد حريته وطموحاته بسبب جريمة لم يرتكبها.
كنت أحدق الى الوجوه وأحاول الربط بين نظرات السجناء ومفاهيم الخير والشر في الاديان السماوية وفي كتب الارض وشرائعها عندما سمعت صراخا أعادني الى الواقع: انه صوت المراقب العام للسجن يردد: "شاويش، قوّش المحابيس، ووزعلن "الأروانة" وكل واحد على "يطقوا" وجهز لنا الغرف... الشباب بدّن يصوروا".
الشباب، نحن فريق "النهار" أما المصطلحات الاخرى، فهي من الموروث الشعبي في لغة السجن والسجانين. فالقاووش هو النظارة او الزنزانة الكبيرة، والاروانة هي الأكل، واليطق هو الفراش، والشاويش هو السجين المسؤول عن النظام داخل غرفته او على مستوى الطبقة التي يقيم فيها، وعادة ما يكون من المجرمين القدامى.
السلّم في وسط المبنى أقلتنا الى الطبقة الاولى حيث وقفنا في دائرة محورية تتفرع منها ستة ممرات، الى جانبيها عشرات الغرف - الزنزانات. الممرات باردة، الابواب الحديد مقفلة باحكام، والغرف عبارة عن مساحات صغيرة جدا (4م*2.5م) تضم ستة الى سبعة سجناء، ثلاثة منهم يضطجعون على الاسرة والآخرون يفترشون الارض في وضعية التشابك، رأس هنا وقدم هناك، والعكس بالعكس.
انه السجن بكل مفرداته، والحرية هنا الغائب الاكبر. متر ونصف المتر تقريبا لكل محكوم، وكمية من الاوكسيجين لا أستطيع احتسابها، وفكرت في ان القبر أرحب وأن بعض مزارع الدجاج تؤمن للفراريج الصغيرة مزيدا من الرفاهية، وضوءا وشمسا وموسيقى، ومساحة أكبر للنوم.
من كوة صغيرة في باب احدى الزنزانات القيت نظرة على الداخل. هذا سجين يقرأ في كتاب، وآخر نائم، وثالث يشاهد التلفزيون، ورابع يتحدث الى جاره، وخامس يمارس حركات رياضية... انهم يعيشون - فكرت في نفسي - ولو ان للحياة هنا طعما آخر.
انهم يعيشون في رحاب الذاكرة ربما، او على أمل ان تتبدل الاحوال ويعودون الى بيوتهم وأهلهم وأحبائهم.
السجن مجرد مرحلة ولو طالت، والسجناء في النهاية مجرمون سرقوا واحتالوا وزوروا، وقتلوا ربما، ولماذا الشفقة؟
هنا استعدت حكاية رواها لي قائد سرية السجون العقيد الياس مغبغب قال: "ذات صباح دخلت علي سيدة غاضبة في عينيها ألم كبير وبادرتني: زوجي وابني تحت التراب وقاتلهما يلعب كرة السلة داخل السجن وهو في أحلى حالاته كما شاهدته على شاشة التلفزيون امس خلال بث مباراة بين سجناء رومية". قالتها بغصة وبكت. الحرية غالية لكن الحياة ايضا غالية، والذين يحرمون الآخرين الحياة لا يستحقون نعمة الحرية.
في كل حال انها معادلة شائكة تطرح وظيفة السجن ومهمته من جديد وتتفاوت حولها الآراء بين رافض لان يكون السجن فندقا ذا خمس نجوم ومطالب باخراج السجن من مفهوم مرتع المجرمين او "الزريبة". وبين هذا وذاك تتعدد النظريات والافكار التي لا مجال لذكرها وفي مثل هذا التحقيق التوصيفي لحال السجون من داخلها، فالسجناء وحدهم، يستطيعون التعبير عن أوجاعهم.
&
الظلم "جوا وبرا"
أحد المحكومين بجرم الاتجار بالمخدرات قال: "انا حاقد على كل الناس، بدءا بالقضاة الذين خربوا بيتي وأضاعوا اموالي وشردوا عائلتي. لم أكن سوى مدمن صغير ونسبوا الي زورا تهمة التجارة. والظلم جوا (داخل السجن) مثل برا ما في عدالة".
محكوم آخر بجرم قتل "أعز صديق له" وفق تعبيره يقول: "تشاجرنا وانطلقت رصاصة بالغلط. صحيح انني قتلته لكنني لم أقصد ذلك. كان قصدي التعبير عن غضبي ولسوء حظي مات!" واضاف: "لقد أخطأت، وانا أدفع الثمن، وكل ما أتمناه ان يكون عقابي عادلا". عن كيفية تمضية وقته يقول: "أدرِّس كي لا أهدر الوقت، وأمضي مدة عقوبتي في انتظار فرصة جديدة أطل معها من جديد على الحياة".
سجين يحمل اجازة في العلوم السياسية يقول: "كنت أملك مطعما في الاشرفية، وانا معروف في المنطقة، أخطأت وانزلقت قدمي في لعبة المخدرات، انا اليوم نادم ولن أعود اليها ثانية". يتابع: "الحياة داخل السجن قاسية جدا، والغرف مكتظة، والوجوه اياها تتكرر، والمعاناة حال دائمة. يوم دخلت السجن كانت عائلتي تزورني ثلاث مرات في الاسبوع، وعندما شحت قدراتنا المالية صارت الزيارات شبه معدومة، مرة واحدة في الشهر". وعن طعام السجن يقول انه مقبول بصورة عامة لكن ينقصه شيء دائما... السلطة مثلا من دون حامض وزيت. وقبل ان نتركه يقول: "ان من يخطئ مرة يفترض ألا يعاقب طوال العمر وان يعطى فرصة جديدة".
محكوم آخر بجرم الاتجار بالمخدرات يقول: انا نادم وأشعر بأنني مظلوم، فالعدالة يجب ان تطبق على الجميع، والا فما معنى وجود المدمنين على المخدرات داخل السجن، فيما يسرح كبار التجار ويمرحون خارجا وهم أصحاب نفوذ؟"
&
لماذا لم أعدم؟
موسى حمادة أحد المحكومين في جريمة قتل الاخوين انطونيوس في بعبدا عام 1993 يقول: "فوجئت بحكم الـ12 سنة سجنا لانه كان يفترض ان يعدمونني اذا كنت مذنبا، وان يبرئوني اذا لم أكن... في مثل هذه المسائل لا مجال للمزاح".
هل أنت نادم؟ "لست نادما أبدا صدقني لانني جئت الى هنا بدلا عن ضائع. بطل الجريمة، الذي هو عمي، هرب الى بلجيكا، وذنبي كله انه تعرف الى القتلة السوريين في منزلي".
* ولماذا زج بك في هذه القضية؟ يجيب: "هددوني بأنهم سيسلمونني الى السوريين وأخذوني فعلاً الى فندق "بوريفاج" حيث اخضعت لتحقيق امني، قبل ان يعيدونني الى امن الدولة. يومذاك قلت لهم اكتبوا ما تريدون وأنا اوقع، وكانت النتيجة 12 سنة سجناً... هذا قدري"
* وهل انت حاقد على احد الآن؟
- "اكذب ان قلت لا. انا حاقد لأني ظُلمت، وبصورة خاصة على بعض المحققين".
* هل تبيت انتقاماً من احد؟
- "من هلّق لوقتها بيفرجها الله".
* وكيف تتدبر امورك؟
- "أحمد الله لأني لست كغيري، فلي ولد واحد اصبح عمره الآن 20 عاماً دخلت السجن وأنا في الاربعين وحين اخرج سيكون عمري ،52 والقاضي الذي حكم عليّ لم يعاقبني وحدي، لقد عاقب عائلة بكاملها".
سجين محكوم بجرم اغتصاب لخمس سنين: "زوجتي السابقة، والتي لا تزال على ذمتي، ولي منها ابنان، هي التي ادعت انني حاولت اغتصابها، واثر الادعاء اوقفت لمدة 15 يوماً في دائرة التحري وتعرضت لاهانات عدة وأرغموني على التوقيع".
* وماذا اخذت من السجن؟
- "تعلمت الموسيقى وأدرسها الآن للآخرين، وحصلت على شهادات من الكونسرفتوار الوطني. كما تعلمت الخياطة، وأتقاسم الآن اتعابي مع زوجتي الجديدة التي تزورني مرة كل ستة اسابيع ولي منها ابنة".
* وكم دخلك الشهري من الخياطة حتى تتقاسمه مع زوجتك؟
- "نحو 150 دولاراً ابعث بنصفها اليها".
سجين محكوم بجرم تزوير اخراج قيد قبل 19 عاماً يقول: "ما اصابني هو الظلم بعينه"، يضيف: "السجن حال اكتظاظ وافتراء وكذب وما حدا بيطيق حدا... "البابازات" الكبار يتسلطون على السجناء الصغار، وكله يبقى محمولاً شرط ان لا يعتدي القضاء على احد!".
زين جانبيه محكوم بالاعدام بجرم قتل شقيقه، يقول: "كانت ساعة شيطانية وأنا اليوم اذوب ندماً، وأريد ان اوصل رسالة الى الرأي العام عبر الصحافة. كل ما اريده هو ان اتبرع بكل اعضائي بما فيها الكليتان والعينان وسواها الى المعذبين الذين ينتظرون واهباً فلماذا لا يسمعونني؟".
* وهل تقول ذلك يأساً؟
- "لا بل اقوله بكل صدق وطيبة خاطر ومحبة، اريد ان اهب اعضائي لمحتاج لعلي بذلك اكسب أخاً لا اعرفه يعوضني الأخ الذي فقدته".
* وهل تريد التبرع بأعضائك بعد اعدامك؟
- "لا، اريد ان اتبرع في حياتي لكي اشعر بلذة العطاء قبل ان اموت".
* وهل تخاف الموت؟
"لا. لست ارى فارقاً بين الحياة والموت البطيء الذي نعيشه. في كل يوم نموت اكثر من مرة".
نصب ظريف
الياس جعجع محكوم لثلاث سنين بجرم احتيال ونصب، يقول: "كنت املك محلاً تجارياً وأفلست، حينذاك قلت في نفسي طالما انني هارب فلن اخسر شيئاً واذا انا اعطيت شيكاً لكل من يقول لي مرحباً، وتجمعت المبالغ المستحقة عليّ حتى وصلت الى مليون و300 الف دولار بموجب 56 حكماً.
ذات يوم كنت ماراً في احد شوارع الحازمية، ودخلت محلاً لبيع الحيوانات واشتريت كلبين ومعهما حمولة شاحنة صغيرة من المأكولات المعدة للكلاب، وفي المقابل اعطيت صاحب المحل شيكاً بلا رصيد. بعد سنتين من الحادثة كان الكلبان قد كبرا، وكنت قد مثلت امام القاضي. سأل القاضي صاحب المحل ما اذا كان على استعداد لاستعادة الكلبين فوافق، لكنه عدل عن رأيه عندما رآهما لأن احداً لن يشتريهما بهذا الحجم.
&
"مهووس بأطباء الاسنان!"
والحكايات لا تنتهي. شفيق النحاس محكوم بعشرين سنة بجرم قتل طبيبة اسنان كما جاء في حيثيات الحكم انه "مهووس بأطباء الاسنان"، مهووس الى حد القتل. غير انه كان واجه سبع تهم قتل مماثلة وبرئ منها، الا في هذه القضية اذ حكم عليه بعشرين سنة، ولم يقبل طلب التمييز الذي تقدم به، الامر الذي يعني ان الحكم ابرم. ولكن الصدف ساعدته وفتحت المحاكمة بعد سبع سنين من جديد وربما يخرج بريئاً! يقول النحاس: "انا استاذ أُدرس ميكانيك الطيران في الميدل ايست ومديرية التعليم المهني.
في 10/4/،1993 تاريخ وقوع الجريمة التي ادانوني فيها، كنت خارج الاراضي اللبنانية، تؤكد ذلك افادة صادرة عن الامن العام اللبناني. ثم الادعاء عليّ بجرم احتيال في البداية وحضر المدعي. سأل قاضي التحقيق& المدعي عما اذا كان يعرف شفيق النحاس فأجاب انه يعرفه جيداً واسترسل في وصف شكل الشخص المدعى عليه وملامحه وأوصافه التي لم تكن تنطبق عليّ من قريب او بعيد، وقد فوجئ عندما ابلغه المحقق ان شفيق النحاس يجلس امامك" فرد في خيبة ليس هذا من اقصد ورغم ذلك اوقفوني وراحوا ينسبون اليّ الجريمة تلو الجريمة حتى الرقم ثمانية. وعندما جاء شهود العيان الى المحكمة انكروا ان اكون القاتل، ولكن في جريمة قتل طبيبة الاسنان ادنت من دون حاجة الى شهود".
* لماذا؟
- "لكي لا اخرج بريئاً بعد ثماني سنين من العذاب، وأفضحهم".
يضيف: "لقد اعيدت محاكمتي ثلاث مرات حتى الآن، وكأنهم يصرون على اكتشاف ادلة ليست موجودة، وأنا اليوم امام تجربة جديدة ومحاكمة جديدة، وسوف اثبت للرأي العام وللمحكمة ان لا علاقة لي بهذا كله. صرخت كثيراً حتى الآن ولم يسمعني احد!.
مسؤول كبير في "المجلس الثوري الفلسطيني" محكوم بـ15 سنة بجرم التحريض على القتل، نسأله: على من حرضت؟ فيقول: "على قتل عميل اسرائيلي ولكن سبب اعتقالي ومحاكمتي هو خلافي مع التنظيم الذي كنت انتمي اليه، انها مسألة صراعات داخلية يقف وراءها "الموساد" في معظم الحالات.
* وهل لديك ادلة على تورط الرجل مع الموساد؟
- بالطبع هناك الكثير من الادلة وهذا واضح في التحقيق.
* بعيداً عن حكايتك الخاصة هل انت راضٍ عن السجن؟
- بالمقارنة مع السجون الاخرى يعتبر حبس روميه نموذجياً، فقد تنقلت بين اكثر السجون وشاهدت ما يثير الرعب. اما المقارنة مع السجون العربية فأستطيع القول ان سجون الاردن اكثر تطوراً بناء لتجربتي لأنني اعتقلت في الاردن في احداث ايلول .1970
* وأين المشكلة في رومية؟
- المشكلة الكبرى ان السجن يتسع لعدد محدود ويوم بناه الالمان خصصوا لكل سجين غرفة (4*2.5) اليوم، وبعد ثلاثين عاماً، يتقاسم الغرفة الواحدة ستة سجناء، تصور مدى تخلفنا عن الالمان، وأضرب الـ30 بـ.6
&
مبنى الاحداث هل سمعتم بالتسييف؟
"التسييف" حكاية اخرى لا بد من سردها. انه عبارة عن عملية تشبه كبس الباذنجان، او اي كبيس آخر، شهدناها في اكثر من نظارة في سجن الاحداث. تبدأ العملية مع حلول الظلام، عندما يفترش بعض السجناء ارض النظارة التي تضم نحو 160 سجيناً في شكل متعاكس، بحيث يكون رأس الاول محاذياً لقدمي الثاني، وهكذا حتى تمتلئ ارض القاووش بالاجساد. في تلك اللحظة يكتشف الشاويش ان عدداً من السجناء لا يزالون واقفين، فيأتي مع بعض مساعديه ويسندون ظهورهم الى الحائط ثم يضغطون بأقدامهم على اول سجين ينام بمحاذاة الحائط من اجل تحرير مساحة تتسع لأحد الواقفين، ويتكرر الضغط وتتحرر المساحات الصغيرة تباعاً، حتى ينام آخر السجناء. والمشكلة الكبرى تبدأ حين يضطر احد النيام الى دخول الحمام ليلاً، لأنه لن يجد بعد عودته فسحة للنوم، فيضطر للوقوف عند باب الحمام في انتظار الصباح، كي لا يوقظ الشاويش.
هذا المبنى المخصص للأحداث من المساجين لا يقتصر عليهم انما هناك الكثير الكثير من المحكومين الكبار، لاسيما منهم من يتمتع بدعم خارجي، وقد خصص المبنى في الاساس لاستيعاب 174 سجيناً بينما يستوعب حالياً - بفضل "التسييف" وتقنيات اخرى نجهلها - 1705 سجناء من مختلف الاعمار والمحكوميات.
يتألف المبنى من اربع طبقات، كل طبقة تضم جناحين: احد اجنحة الطبقة السفلى مخصص للسجناء المصابين بـ"الايدز" وعددهم عشرة، اما الجناح الآخر فمخصص للزيارات ومقابلة المحامين. في الطبقة الاولى جناح للمركز الطبي التابع للسجن، اما الجناح الآخر فللمصابين بأمراض عقلية (عصفورية المساجين). وبين الاحداث واليافعين والمرضى والمجانين جامع& مشترك واحد هو الاختناق الذي احد مظاهره "التسييف" الجسدي، وهو محمول نسبياً بالمقارنة مع "التسييف" النفسي.
&
السجن - الملاذ
"وفي مبنى الاحداث حكايات تبدأ بالحديث عن المدعومين الذين يودعون غرفاً لا تشهد اكتظاظاً، وتنتهي بروايات طريفة ودراماتيكية. احد السجناء الاطفال محكوم لأنه سرق ربطة خبز! هذا ما اخبرنا اياه سجين آخر، وحين التقيناه قال "جريمتي انني سرقت شيئاً من المكتبة" لكن هذا الطفل الذي يدل مظهره الخارجي انه لا يتعدى الخامسة من عمره هو في الثانية عشرة. نسأله: لماذا انت هنا؟ فيجيب: "سجنوني، وأنا مبسوط في السجن". هكذا ببساطة. وهذا "البسط" في الواقع ليست مسألة غريبة. الحال شائعة في بعض السجون، اذ يلاحظ ان بعض السجناء الذين ينهون مدة احكامهم يرفضون احياناً الخروج من زنزانتهم، لأنهم ألفوا حياتهم الجديد، وهم لا يملكون الشجاعة للعودة الى الحياة السابقة. ثم ان البعض الآخر يختار دخول السجن طوعاً، شأن ذلك شأن مواطن سوري دخل لبنان خلسة، وعندما ضاقت بوجهه الدنيا توجه الى سجن رومية ليسلّم نفسه حين طلب منه آمر السجن ان يقصد النيابة العامة اذا كان ينوي ذلك، وسأله لماذا تريد ان تسلّم نفسك؟ فأجاب: "ابحث عن عمل لا اجده، وأنا مفلس وجائع انام على الطرق وقد فكرت في ان السجن ملاذ لي. هنا على الاقل اجد طعاماً ومكاناً وفراشاً ومياهاً ساخنة الى ان يفرجها الله".
انه السجن - الملاذ الذي يتسع للمجرمين وانصاف المجرمين، والأبرياء احياناً، وكلما كبرت الجريمة اكتسب مرتكبها نفوذاً انه "الريس" والرجل الذي يفرض هيبته داخل السجن، حيث التراتبية قائمة بامتياز، فالمحتال الكبير الذي سرق اكثر من مليون دولار يتزعم صغار النشالين الذين يتسابقون على خدمته طمعاً في ان ينالهم منه نصيب بعد خروجهم، او طمعاً بوظيفة لديه او هدية او التفاتة... من يدري؟
سجناء الاحداث ماذا يقولون؟
لكن كل الحكايات هنا ليست باردة او "متفائلة" بمرحلة ما بعد السجن. صلاح الخليل - كما يروي - كان له مبلغ من المال في ذمة احد الدائنين، وحصل انه بات في حاجة الى هذا المبلغ فامتنع المدين عن سداده، وحتى عن الاعتراف به. ذات يوم قصد مكتبه متوسلاً ان يعطيه جزءاً ولو بسيطاً من الدين الذي يتجاوز الـ190 مليون ليرة من اجل ان يسدد قسط ابنته التي طردت من المدرسة، لكن المدين امتنع وراح يوجه اليه الاهانات. غضب صلاح، كما يقول، وأحضر غالوناً من البنزين ورشه عليه قبل ان يشعل فيه النار ويسبب حروقاً بالغة لا يزال يعاني منها منذ سبعة اشهر، وتوجه فوراً الى قصر العدل في بعبدا حيث اعترف للمدعي العام بفعلته وسلّم نفسه، وهو اليوم بعيد عن العائلة ينتظر حكماً عادلاً.
&
نشاطات
يبقى ان سجن رومية ليس فقط مجموعة قواويش. الباحة الرئيسية في الطبقة الارضية مفتوحة على خمس قاعات كبيرة نسبياً، الاولى للندوات والافلام السينمائية، وهي تستخدم ايضاً كمكان للعبادة كل جمعة وكل احد. الثانية مكتبة تحوي عدداً لا بأس به من الكتب غير السياسية، الثالثة تستخدم في تدريس الكومبيوتر حيث وزع 15 جهازاً في ارجائها يتابع السجناء دورات في البرمجة تحت اشراف اساتذة متخصصين من السجناء انفسهم، الى جانب تعليم اللغات، الرابعة مشغل للصناعات اليدوية من شك الخرز وحياكة القش واللوحات النحاسية والتفنن بحبوب التمر والزيتون وغيرها من اشغال "المحابيس"، والخامسة لممارسة الرياضة& مزودة بمعدات الايروبيك.
وفي مبنى الاحداث هناك مشغل الميكانيك المخصص لتعليم الحدادة والبويا وكهرباء السيارات والتفاصيل التقنية، والعاملون فيه عادة يصلحون سيارات قوى الامن ويحصلون عند انتهاء الدورة التدريبية على شهادة صادرة عن المركز الوطني للتدريب المهني لا تحمل اي اشارة الى سجن رومية، والأمر عينه ينطبق على الشهادات الاخرى التي يحصل عليها المتدربون على الكومبيوتر واللغات او الذين يتابعون دروساً في محو الامية.
انه السجن الذي يستقبل مجرمين ويودّع مهنيين مؤهلين للعودة الى دورة الانتاج ومهيئين للانخراط مجدداً في الحياة الاجتماعية. لكن هذه الحقيقة لا تلغي مسؤولية المجتمع ومسؤولية السجن نفسه احياناً في اعداد مجرمين جدد اكثر شراسة من المجرمين القدامى، لأن جوانب الاهمال في حياة السجون لا تزال قائمة، وبعض الحالات مفجعة. هذا الاهمال تحاول الجمعيات الدينية والاهلية ان تعوضه، على شكل تقديمات بسيطة للسجناء المنسيين او "المقطوعين"، "وكنزة الشتاء" أحد هذه التقديمات، وقد تبرع أحد الخيّرين ببناء ما سمي "البيت الازرق" داخل سجن رومية، وهو يضم المختلين والمدمنين والمرضى الذين يحتاجون الى عناية دائمة، وتشرف على ادارته اليوم الجمعيات الاهلية ويقتصر دور قوى الامن على الحراسة الخارجية. (النهار اللبنانية)
التعليقات