في لحظة ما من حياتك كان لك لقاء مع فلسفة اسبينوزا، وهذا اللقاء تمّ صدفة، فأنت صادفت هذا الفيلسوف في درب حياتك، عن طريق معاناتك، وتجربتك في الحياة، لقدكان اسبينوزا كما فهمت تجربة، ولم يكن مجرّد قراءة، يعقبها تأثّر؛ و إن كان هناك شئ من هذا ؟
إسمع، في الحقيقة، لقد شرعت عدّت مرّات في قراءة اسبينوزا ، و في مراحل مختلفة من حياتي؛ و قدكنت، في الآن& مبهورا به ، و عاجزا عن الدّخول إلى عالمه . و في إحدى الأيّام تمّت لي قراءته وذلك بفضل أحد الأصدقاء من الذين كانت له معرفة جيّدة بهذه الفلسفة. يبدو لي أنّنا في حاجة - إذا لم نكن فلاسفة - إلى من يقودنا إلى الدّخول في هذا العالم. هناك نصوص يسيرة لسبينوزا يستطيع أيّ إنسان قراءتها، ومن ثمّ استيعابها خاصّة& كتابه "رسالة في اللاّهوت"Le Traitè de& Théologie& ، لقد طلبت منك عدّة مرّات قراءته .
هناك ترجمة عربيّة لهذا الكتاب أنجزها أستاذ الفلسفة المصري حسن حنفي، وهو عمل أكاديمي ، و يبدو لي أنّ قراءة اسبينوزا ضرورة للفكر الإ سلامي اليوم، كما كانت قراءة إبن رشد ضروريّة لأوروبّا في القرون الثاني و الثالث و الرّابع عشرالميلادي ؟

تمنحك قراءة اسبينوزا قدرة فكريّة كبيرة على إزالة الرّواسب؛ إنّه يزيل عنّا الأوهام، والمغالطات الذّاتيّة، والأخيلة الكاذبة، إنّه يجعلنا نتخلّى عن صورنا الذّاتيّة الموهومة، إنها فلسفة خام، وفي الآن نفسه سعيدة، ومشحونة بطاقة كبيرة& و بقوّة عظيمة.&
لفلسفة اسبينوزا طاقة على الإشفاء ؟
أجل، أجل، أعتقد أنّني كنت في حاجة إلى هذه الفلسفة .
في أيّ فترة كان ذلك ؟
كانت قراءته في تونس، في سنوات السّبعين، بدأت قراءته وأنا في الشّرق الأوسط، قرأت بعض النّصوص التي شدّتني؛ ثم و كما سبق لي أن قلت لك، كان في تونس عندما استطعت فجأة الإيغال عميقا في هذا الفكر
هل كان لهذه الفلسفة تأثير لاحق على كتاباتك؟
أعتقد ذلك، لا أستطيع أن أتبيّن بوضوح في أيّ من النّواحي كان تأثير اسبينوزا عليّ،
ألا ترى أنّ اكتشافك لإسبينوزا قد تزامن مع عودتك إلى النّثر الذي بدأت بممارسته وأنت طفلا يافعا في جبال الكاربات؟
ربّما، ربّما، بيد أنّي وفي الأثناء داومت على كتابة الشعر.. إنّه من الصّعب معرفة هذا الأمر. هل تدري أنّه سؤال أثاره كثير من النّاس، خاصّة منظّروا الشعر؛ لقد طرحوا عليّ هذا السّؤال، بل سيعقد لقاء في إحدى الجامعات الفرنسيّة وسيكون هذا السّؤال أحد محاور هذا اللقاء.
أرى أنّ هذا اللقاء قد تمّ في الدّاخل بعدما تهيأ له مكان للإستقبال في نفسك، وليس الشأن كما سبق و ذكرت شأن قراءة خارجيّة، وإن كانت ضروريّة؟
حقيقة، كان لقائي بسبينوزا تتويجا لمسار فكري وروحي سابق، وأكيد أنّي حاولت ومن خلال الكلمة الشعرية الوصول إلى هذا العالم، وتقصّيه ؛ ولكن ظل هذا البحث وذاك التقصّي
في مستوى الحسّ، وظل أمّا جزئيّا وخاصّا جدّا، أو عامّا جدّا . ولكنه ظل في مستوى الحس لأنّ الشعر هو قبل كل شئ مسألة أحاسيس، صحيح هناك أفكار، ولكنّها تدور حول العلائق الوجدانية التي تشدّنا إلى العالم وإلى الأشياء..
ربما تجربة الصّحراء هي التي قادتني إلى اسبينوزا؛ لأنّ قراءة اسبينوزا تدفعك إلى ذاك المحو الشامل- أن تمحو ما علمت، وبعدها تتجه إلى ما هو جوهري، إلى ما هو مطلق، وبدءا من هذا تستطيع بناء شئ ما .
لاحظت أن حياتك تقوم على مفارقة الإنفصال والإرتباط؛ في الأوّل ثمّة انفصال عن الأرض الميلاديّة، ثم انفصال عن لغة الأم، وكأن لا رابط لك بالجغرافيات الموروث. وفي المقابل نراك تبدع جغرافياتك الخاصّة و التي ترتبط بها طيلة حياتك، ويكون لها حضور كثيف في نصوصك. هذه الجغرافيات هي: الصّحراء العربيّة، القدس، أرض الإغريق، بحر قرطاجة، وهي أماكن، كما ترى مثقلة بالرّمز، وبالتّاريخ؛ هي جغرافيات صوفيّة ودمويّة، وصامتة؟
صحيح، صحيح، لي نفس الملاحظة. أرى أنّي ابتدعت لنفسي بلادا، وهي بلاد قفر، حيث الحياة حاضرة، متجلّية؛ واخترت لغة هي أيضا بلاد، إنها جغرافيا الكتب الكبرى مثل العهد القديم، والكتابات السّومريّة والأكّاديّة، ومتون الشعراء الجاهليّين الكبار.
بعد هذه المرحلة تأتي قصيدة أجساد ناهشةCorps corrosifs& ؟
أعتقد أنّها الأجساد البشريّة، في هذه القصيدة تعود الصّحراء،. وفي الحقيقة فإنّ الذي أحببته في اليونان هو أيضا شكلا آخر للقفر، لأنّ الجزر التي ارتبطت بها، كانت جزرا عارية، قاحلة، تندر فيها الزّراعة. ثمّ هناك البحر ، البحر الذي هو صحراء أخرى.
صحراء من الماء؟
إذن ترى أن قصيدةأجساد ناهشة هي الأجساد البشريّة التي تتلاقى، وتتنامى، وتنحلّ؛ والصّحراء تعود هنا أيضا عبر الأجساد، وهذا ما يثيرني أيضا.
هذه القصيدة، وقصيدة& أشجار اللوز كتبتهما في نفس الفترة تقريبا. انبثقت الدفقات الأولى من قصيدة أجساد ناهشة وأنا في الشرق الأوسط، وكذلك بعض المقاطع ، أمّا البناء الكلّي فقد اكتمل في تونس، وفي باثموس باليونان.
قصيدة البيت قرب البحر شكلت أبجديّة شعريّة جديدة ، إذ نراك تنحو فيها إلى نوع من الإقتصاد اللغوي ؟
تماما، وأنت لا تجد فيها ذاك الفيض اللغوي الذي تلفاه في أرض مطلقة.
ثمّ تجئ الكتابات النّثريّة متأخّرة مثل كتابيك: دفاتر القدس، وأوراق وملاحظات، إنّ كتاباتك الأوتوبيوغرافيّة هذه كأنّها تعويض عن غياب الأنا من شعرك؟
نعم إنها جزء من دفاتري، وهي أشياء أدوّنها يوميّا، أشياء نهاريّة جدّا لقاءات، وأحداث وملاحظات أسجّلها في دفاتري: مايقع كل يوم.
والان مع توغّلك في السنّ نراك و كأنّك تعود إلى سنوات الطفولة و أوّل اليفاعة، عندما كنت تدوّن أشياء الحياة التي تدور حولك في جبال الكاربات؟
أجل، ولكن لديّ أيضا ورشة شعريّة كبيرة، لي مشاريع شعريّة كثيرة غير مكتملة آ مل أن أحصل على الوقت الكافي لاستكمالها؛ أشياء غير تامّة أشتغل عليها منذ سنوات طويلة، شذرات مكتوبة على أوراق متناثرة. أنظر مثلا أشياء مثل هذه . (وقدّم لي ورقة صغيرة عليها بعض الكتابات)..
كيف تتمّ لديك الكتابة ؟
تنبثق القصيدة في الأوّل من صورة، من حدث، من علاقة مع الأشياء أو مع الطبيعة. مثلا تشكّلت لديّ منذ جئت تونس علاقة مع البحر. وهنا ينشأ حوار مع الأشياء، خاصّة مع البحر الليليّ، لقد كان كشفا في قصيدةالبيت قرب البحر كنت أسمع البحر في الليل وهذا شيء جديد، هنا أجد نفسي وقد غادرت الصّحراء، وإن كنّا لا نغادر الصّحراء أبدا. لقد كانت قصيدة البيت قرب البحر كلمة أخرى.
أنجزت ترجمات شعريّة من لغات عديدة، لراينر ماريا ريلكه، وجورج سيفيريس، وقسطنطين كافافيس، ودافيد هربرت لورنس، وبيلنسكي، فماذا كنت تبحث لدى هؤلاء؟
إذا لم يكن الإنسان مترجما محترفا، فإنّ الترجمة - كما هو الشأن في حالتي - هي كما كان . يقول صديقي سيفريس في تعبير ساخر: أنا أترجم لأسرق القصائد.
عرفت ريلكة مبكّرا ، فما الذي شدّك إليه؟
ما شدّني إليه هو أساسا المراثي ،مراثي دوينو، لقد هزّتني هذه الأناشيد من الدّاخل وحاورتني في العمق. وتشكلت لديّ بعد سنوات من القراءة طريقة للدّخول فيها، ومعايشتها
أقصد ماذا أحببت في شعر وفي فكر ريلكة ، فالظاهرتان لديه هما شئ واحد ؟
أعتقد أن ما أحببته لديه، أو قل ما بحثت عنه لدى ريلكه هو ذاك الإنفتاح على العالم، واتساع الرّؤية الشعرية، وبالتالي تجنّب الأشياء الضيّقة، والفقاعيّة.
وبيلنسكي؟
بيلنسكي مختلف جدّا عن ريلكة. وتكمن عبقريّته في قدرته على القبض على أشياء جوهريّة وأساسيّة بالنّسبة للإنسان، لقد نجح بيلنسكي في التعبير عن هذه القضايا الميتافيزيقيّة الكبرى بلغة الحياة اليومية؛ ومن خلال الوقائع، والحوادث& اليوميّة، وأنا أعتقد أن هذا شيء خارق للعادة.
ربّما قسطنطين كافافيس هو أوّل من أدخل هذا البعد الميتافيزيقي للفعل اليومي، خاصّة في قصائد الشّيخوخة؟
أجل، بيد أنّه لا يوجد لدى كافافيس هذا الهوس الميتافيزيقي. كفافيس شاعر، أستطيع أن أقول عنه أنّه مادّي بشكل مطلق ؛ شاغله الشّعري الأساسي حياة الجسد من جهة ، و التّاريخ من جهة أخرى؛ وليست لديه أيّة ضرورة ميتافيزيقيّة؛ ولا أجد لديه تلك الأشياء التي أجدها عند ريلكه، أو بيلنسكي أو جورج سيفيريس، وهي ذاك الإنفتاح الميتافيزيقي، وذاك الحس الأونيفرسالي، الحسّ الكلّي.
ترجمت أيضا مختارات من شعر الرّوائي الإنكليزي دافيد هربرت لورنس، الذي يتحدّث كثيرا عن الجسد ؛ وعن الوعي والمعرفة اللذين يتأتّيان عن طريق الدّم، وأنا أعتقد أنّك أقرب إلى لورنس منك إلى كفافيس؛ فأنت القائل أن اللغة والحياة هما شئ واحد؟
أجل، أجل؛ بيد أنّ الجسد لدى لورنس يشكل جزءا من عالم غير محدود، إنّه على مستوى الكون اللانهائي، إنّه يربط الجسد بالكونيّ، وهذا ما شدّني إلى لورنس&
ماذا تقول عن الشعر الفرنسي اليوم، كيف تجده أنت الذي فتّح عينيه على البناة الأول لحداثة هذا الشعر؛ فتح عينيه على رامبو، وملارميه، وبول فاليري، و وبول كلوديل وسان جون بيرس، و بيير ريفردي، وجورج شحادة وطبعا صديقك رينيه شار؟
لنبدأ بالقول، إنّه في رأيي شعر يتمتّع بحيويّة كبيرة؛ إذ نجد فيه كل أشكال التّجريب التي نتصوّرها. إنّه شعر مثير، ورائع. هناك اليوم أسماء لابدّ من ذكرها: إيف بونفوا، فيليب جاكوتي، جاك ريدا، جيمس ساكري، بول دي بوا هناك عدد كبير من الشعراء الجيّدين ولا أحد يدري من سيبقى منهم .
أذكر شاعرا آخر، أعطيتني يوما قصيدة له هو جون بيير لومير وقد أحببت شعره؟
نعم جون بيير لومير أنا أيضا أحبّه، وهو شاعر مسيحي ، هناك أيضا جون غروجان غريب إنّنا ننسى دائما الأساسي.

في الأخير أريد أن أعرف ايّ معنى تمنحه لهذه الكلمات: الضّوء
للضوء لديّ مفهوم متداخل المعاني. هناك المعنى الفيزيقي للضّوء، للشّمس، وهناك في الآن ضوء الجسد الذي يصّاعد من الأرض، ثمّة في الجسد مادّة تنتمي للسّماء الكونيّة، ثمّة نور العقل ونور الفهم والنّور الإلهي الحالّ في العالم والأشياء.
والبحر؟
البحر مثل الصّحراء&إنّهما من أرومة واحدة&&
&
انتهى الحوار
&
ثقافة ايلاف [email protected]
&