شمعون& بلاص
&
شبّه الاديب الفرنسي سيوران Cioran&حال الكاتب الذي يضطر للانتقال الى الكتابة بلغة اخرى&بحال الطائر المهاجر الذي يفرض عليه تعلم الجغرافيا. توضح لنا هذه المقارنة، على ما تنطوي من مبالغة، مدى الجهد النفسي المطلوب من كاتب كهذا، وليس كسيوران نفسه من يعرف ذلك، عندما انتقل للكتابة بالفرنسية بعد ان هاجر الى فرنسا من وطنه الاول، رومانيا. تجتمع لدى كاتب كهذا هويتان لا تنفصلان ابدا: الهوية المولدة والهوية المكتسبة، وبطبيعة الحال لا بد لهذه الازدواجية اللغوية - الثقافية ان تنعكس في انتاجه. عمليا، يبقى كاتب كهذا بمثابة مغترب بهذا القدر او ذاك، ومختلف عن نظرائه الادباء في البلد الذي نزح اليه.
ساتحدث عن نفسي. لم اعرف العبرية عندما نزحت الى اسرائيل، ولم يخطر ببالي في السنوات الاولى انني ساكتب ذات مرة بهذه اللغة. آمنت انذاك ان الاديب لا يستطيع الابداع الا بلغته الطبيعية. كتبت العربية، وفي اسرائيل وجدت في مجلة "الجديد" الادبية الصادرة عن الحزب الشيوعي منبرا لنشر القصص والمقالات. وحتى بعد ان اصبحت العبرية لغتي اليومية واشتغلت في صحيفة الحزب "صوت الشعب" ("كول هعام" بالعبرية) كمراسل للشؤون العربية، لم اجرؤ على كتابة نص ادبي بالعبرية، وعندما خططت كتابة رواية عن حياة المهاجرين من العراق كتبتها بالعربية. لم تصدر هذه الرواية، إذ في تلك السنوات لم يكن في اسرائيل سوى دارين للنشر بالعربية، الاولى تابعة لحزب السلطة لم اتوجه اليها، والثانية للحزب الشيوعي لم يكن بمقدورها نشر الروايات. بقيت المخطوطة في الجارور، وبدأت افكر في مشواري كأديب. فقط بعد انقضاء عشر سنوات على هجرتي لم اجد مناصا من القيام بالخطوة المطلوبة والتوجه لترسيخ المامي باللغة العبرية. لم تكن هذه التجربة سهلة البتة، بل لا ابالغ ان قلت مؤلمة ومحبطة، فقد اضطررت لتنويم العربية التي في داخلي، ونسيانها. استمر ذلك اكثر من سنتين، انتهيت في ختامهما من كتابة صيغة جديدة للرواية، صدرت في سنة 1964.
اسرائيل بلد هجرة، وفي تجربة انتقالي من لغة لاخرى لم اكن حالة استثنائية بين الادباء. لكنني قدمت من العراق، من عالم اعتبرته المؤسسة السياسية والثقافية ليس مجرد عالم العدو، بل عالما متخلفا ليس فيه من قيم يمكن الاستفادة منها. حركني هذا الراي المسبق، كما حرك مجموعة من الاصدقاء من مهاجري العراق، لبذل ما في امكانياتنا المتواضعة لتقديم صورة اخرى عن حياة الثقافة العربية. في الخمسينات الاولى من القرن الماضي اقمنا في تل ابيب "ندوة انصار الادب العربي"، اجرينا في نطاقها لقاءات بين ادباء عبريين وعرب، وقدمنا محاضرات في الادب العربي كما ترجمنا منه للعبرية. هنا لا بد لي من ان اضيف ان موقف المؤسسة المتعالي تجاه العالم العربي انعكس ايضا في نظرته التسلطية تجاه المهاجرين من هذا العالم، الذين اطلق عليهم "الطوائف الشرقية"، وهي تسمية لا تفتقد الى نبرة الاستخفاف، أي انهم خليط من الناس لا بد من اعادة تربيته وتثقيفه.
في هذا الموضوع كتبت مقالا استفز عددا ليس قليلا من الناس. كان ذلك في سنة 1965، بعد صدور روايتي العبرية الاولى بفترة قصيرة، عندما طلب مني محرر احد اهم المجلات العبرية (مجلة "اموت") كتابة مقال اعرب فيه عن رأيي في استيعاب المهاجرين من بلدان الشرق. قلت في مقالي ان المؤسسة تعامل المهاجرين من البلاد العربية كمعاملة الدول الكولونيالية لشعوب مستعمراتها. انها تتجاهل ثقافتهم وتحاول اعادة تكييفهم حسب مفاهيمها. قلت ايضا انه فقط بالتعرف على العالم العربي واحترام ثقافته وتفهم اوضاعه، يمكن لاسرائيل ضمان وجودها في المنطقة. اثار المقال غضب المحرر، الذي شن في نفس العدد هجوما عنيفا عليّ كمن يتنكر للجهود المبذولة في استيعاب هؤلاء المهاجرين. بل انه طلب ردور فعل من اربعة ادباء لتفنيد مزاعمي. من المؤكد ان هذا الحدث في تلك السنوات البعيدة لن يفاجىء احدا اليوم. لم تحد المؤسسة السياسية قيد انملة عن سياستها، وبعد حرب الايام الستة وتعاظم قوى اليمين، نجحت بربط قسم كبير من المهاجرين من البلاد العربية بسياستها الاحتلالية. وفي ايامنا هذه، نرى قادة اسرائيل وعسكرييها يدوسون بفظاظة تطلعات الشعب الفلسطيني الى التحرر من الاحتلال وحياة اللجوء. بل انهم يتجاهلون مقترحات السلام وانهاء الصراع الصادرة عن قادة العالم العربي.
*
والان بضع كلمات عن انتاجي الادبي. تشدني تجربتي كمهاجر نحو اشخاص يعيشون على التخوم الفاصلة بين عالمين، وبين هويتين. صورة الاخر، المختلف عن المجموع رغم جهوده لكي يكون مقبولا بداخله، تعاود الظهور بصيغ مختلفة في كتابتي. هكذا الامر في رواية "غرفة مغلقة"، حيث البطل فيها فلسطيني من سكان اسرائيل، طالب جامعي للهندسة المعمارية، وناشط في اوساط اليسار، ومع ذلك يشعر بانه مختلف عن اصدقائه اليهود ولا ينتمي الى عالمهم انتماء كاملا، وعندما يهاجر الى اوروبا ويقيم صلات بمغتربين فلسطينيين، يجد نفسه مجددا مختلفا عنهم ومتميزا. وهكذا الامر في رواية "سولو"، التي تقدم شخصية كاتب مسرحي يهودي مصري من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، طرد من وطنه بسبب نشاطه السياسي ضد الانجليز، فعاش في باريس كمغترب الى يوم مماته. كذلك هو الحال في رواية "شتاء اخير" التي تدور احداثها في باريس وابطالها مغتربون من اسرائيل والعالم العربي، تتوسطهم شخصية شيوعي مصري قتل سنة 1978.& وهكذا هو الامر بشكل خاص في رواية "وهو اخر"، التي تحكي قصة مثقف عراقي يهودي اعتنق الاسلام في ثلاثينيات القرن الماضي، بدافع من الايمان بانها الطريق الافضل للاندماج التام بالشعب. وقد اصدر كتابا عن ذلك، اعرب فيه عن اعتقاده بأن على الاقليات الدينية في العالم العربي، اليهود والمسلمين، السير في هذا الطريق للحفاظ على وحدة الشعب في بلادهم. ومع ان هذا الشخص حظي بالتقدير والتأييد، لكنه بقي بنظر بيئته، وبنظره هو ايضا، مختلفا ومميزا. نماذج كهذه موجودة في روايات وقصص اخرى لي، لكني لن اتعبكم بذكرها بالتفصيل.
لو عدنا الى مقولة سيوران التي استهللت بها كلامي، فمن الواضح لنا جميعا ان الانسان، خلافا للطائر المهاجر، قادر على تعلم الجغرافيا، بمعنى انه قادر في مرحلة متقدمة من العمر على تعلم قواعد وتراكيب لغة جديدة والالمام بها تماما. السؤال هو هل كتابته باللغة الجديدة، الموجهة قبل كل شيء لجمهور الناطقين بتلك اللغة، قد تختلف عما كان في امكانه ان يكتب لو واصل الكتابة بلغته الام؟ بكلمات اخرى: الا تفرض اداة التعبير الجديدة زاوية رؤية مختلفة، وربما مضامين جديدة؟ اسئلة من هذا النوع اطرحها احيانا على نفسي. على كل الاحوال، ثمت حقيقة في المقولة ان الظروف توجه خطوات المرء، وهي، كما يتضح، تصوغ عالم الاديب ايضا.
&
شمعون بلاص روائي وناقد عراقي&هُجّرَ إلى إسرائيل أوائل خمسينات القرن الماضي. هنا نص كلمته التي ألقاها في "لقاء مع ثلاث كتاب" تم في جامعة نيويورك، في بداية أيار من العام الجاري،&شارك معه في اللقاء&الياس خوري وخوان غويتيسيلو. ننشرها بالاتفاق معه ومع مجلة "قضايا إسرائيلية" الصادرة في رام الله التي ستنشر الكلمة في عددها القادم.&
&
&
ثقافة إيلاف