فتحي بن سلامة
&
مثّلت هجمات 11 سبتمبر في أمريكا وأوروبّا ثغرة في الزّمن وعلامة على الانتقال من عصر إلى عصر. هذا الشّعور الذي عقب الحدث مباشرة ولّد جدلا واسعا حاول الكثيرون من خلاله قراءة هذا الانقلاب وتعليله، وتبيّن الخطوط التي ينبئ بها. ولا شكّ أنّ في استعمال موضوع "القطيعة" شيئا من المبالغة، فالمستجدّات المذكورة لم تكن إلاّ تسارعا في مجرى أمور موجودة سلفا. إلاّ أنّ& تكوّن شبح بن لادن كشف عن الأمر التالي: وهو استعداد الغرب، مرّة أخرى، لأن يتصوّر نفسه هشّا ضعيفا، في اللّحظة نفسها التي يصل فيها إلى قوّة لا تضاهى، كما لو أنّه يشعر بنفسه معرّضا باستمرار إلى نهاية وشيكة. فهوسه بانفلات الزّمن منه، وبموت الحضارات جعله يهتمّ اهتماما مفرطا بمقروئيّة المستقبل. وتبعا لذلك فليس الخوف والتّشاؤم إزاء الحدث إلاّ الوجه الآخر من إرادة السّيطرة. إلا أنّ هذه القابليّة للشّعور بالضّعف فتحت الباب أمام إمكانيّة رهيبة هي تبرير ما لا يمكن تبريره، وذلك أنّ منطق الهشاشة في القوّة يسمح بكلّ التّجاوزات، ومن بين هذه التّجاوزات عمليّة دفاع عن الذّات مضخّمة ومبالغ فيها.
أمّا في الفضاء الذي نشأ فيه بن لادن وتنظيمه، فإنّ المنطق المعاكس هو الذي طغى إزاء الحدث.& لقد اتّسم عيش الحدث بالقوّة في الضّعف، وبلامقروئيّة المصير والانغماس في ضباب اللاّتاريخيّ. فاليوم وقد مضى عام على هذا الحدث، يمكن أن نذهب إلى أن لا شيء حدث في العالم العربيّ سوى وثبة من وثبات فارس انبثق من ذاكرة بلا عمر لكي يقوم بفعل صاعق يريد به تحقيق عدالة ما، ثمّ سرعانما انكفأ على نفسه منتقلا إلى عالم شبحيّ، في مكان ما بين الحياة والموت، لا يمكن للأشباح فيه أن يهزموا. فالجماهير العربيّة المنهارة على نفسها، الرّازحة تحت الخراب الطّبيعيّ والاقتصاديّ والسّياسيّ والرّوحيّ، لم يبق لها سوى اللّجوء إلى القداسة الانتقاميّة للأشباح، عسى أن تجد لنفسها نموذجا أو مثالا يمكّنها من البقاء. ومن حين لآخر تتعالى أصوات خافتة لا تكاد تسمع، تحاول إيقاظ الضّمائر أمام الحساب الختاميّ الكارثيّ: انظروا نتيجة هذه الطّلعة المتهوّرة التي قام بها الشّبح : كلّ القضايا اللّصيقة بقلوبنا تجري إلى موتها: الشّعب الفلسطينيّ، والشّعب الشّيشانيّ والشّعب العراقيّ سيدفعون الثّمن غاليا، وكذلك معارضو الأنظمة المتسلّطة والفاسدة التي ضاعفت شراستها باسم مقاومة الإرهاب. ولكنّ القوّة في الضّعف لا تهتمّ بأيّ حساب، فهناك درجة من الشّعور بالضّياع والخذلان لا يمكن معها أن نبقى على قيد الحياة إلاّ إذا لجأنا إلى الهذيان.&&&&&&&
أمّا في الفضاء الذي نشأ فيه بن لادن وتنظيمه، فإنّ المنطق المعاكس هو الذي طغى إزاء الحدث.& لقد اتّسم عيش الحدث بالقوّة في الضّعف، وبلامقروئيّة المصير والانغماس في ضباب اللاّتاريخيّ. فاليوم وقد مضى عام على هذا الحدث، يمكن أن نذهب إلى أن لا شيء حدث في العالم العربيّ سوى وثبة من وثبات فارس انبثق من ذاكرة بلا عمر لكي يقوم بفعل صاعق يريد به تحقيق عدالة ما، ثمّ سرعانما انكفأ على نفسه منتقلا إلى عالم شبحيّ، في مكان ما بين الحياة والموت، لا يمكن للأشباح فيه أن يهزموا. فالجماهير العربيّة المنهارة على نفسها، الرّازحة تحت الخراب الطّبيعيّ والاقتصاديّ والسّياسيّ والرّوحيّ، لم يبق لها سوى اللّجوء إلى القداسة الانتقاميّة للأشباح، عسى أن تجد لنفسها نموذجا أو مثالا يمكّنها من البقاء. ومن حين لآخر تتعالى أصوات خافتة لا تكاد تسمع، تحاول إيقاظ الضّمائر أمام الحساب الختاميّ الكارثيّ: انظروا نتيجة هذه الطّلعة المتهوّرة التي قام بها الشّبح : كلّ القضايا اللّصيقة بقلوبنا تجري إلى موتها: الشّعب الفلسطينيّ، والشّعب الشّيشانيّ والشّعب العراقيّ سيدفعون الثّمن غاليا، وكذلك معارضو الأنظمة المتسلّطة والفاسدة التي ضاعفت شراستها باسم مقاومة الإرهاب. ولكنّ القوّة في الضّعف لا تهتمّ بأيّ حساب، فهناك درجة من الشّعور بالضّياع والخذلان لا يمكن معها أن نبقى على قيد الحياة إلاّ إذا لجأنا إلى الهذيان.&&&&&&&
وقد يتّهم بعضهم الدّين مرّة أخرى، مستعرضا صورة "المسلم" التّأليفيّة، مذكّرا بقابليّته للاستسلام إلى القدر وإلى قوى المخيّلة، وبعنفه الانفعاليّ، وباختصار : قد يعود بعضهم إلى محاكمة الإسلام باعتباره مصدر اغتراب. إنّ هذا الميل إلى اتّهام الإسلام يصل إلى درجة من الحمق الذي يعمي عن رؤية القوى المادّيّة والتّاريخيّة المتحكّمة في منزلة النّاس، بحيث أنّ الدّين لا يعدو أن يكون عنصرا في سلسلة متكاملة من السّببيّات (وهذا مفهوم فرويديّ). فعلا، يريد بعضهم أن يقنعنا بأنّ الدّين أمر مستقلّ، موجود خارج لعبة القوى الاقتصاديّة والعلاقات الاجتماعيّة والسّياسيّة والصّراعات من أجل السّلطة. ولا شكّ أنّ هذه الرّغبة في تعليل كلّ شيء بميتافيزيقا الإسلام تعود إلى نظريّة ميتافيزيقيّة للعالم. فمتى سندرك أنّ هذا الفضاء الواسع من القمع والحرمان &المسمّى بـ" العالم العربيّ" هو عرضة إلى تدمير صامت، تنظّمه آلات متعة بالسّلطة تنشر منذ عشرات السّنين& التّعتيم والتّفاهة وتصرّ على إعاقة الذّكاء والفهم في الفضاء العموميّ، وهي في كلّ ذلك تنتج أجيالا من النّساء والرّجال الأمّيّين عن عالمهم، الخاضعين له وكأنّه دوّامة من اللاّمعقول؟ متى سنكفّ عن اللّجوء إلى أوّليّات علم النّفس الأخلاقيّ (الإهانة، الحقد، إلخ..) لتفسير تحوّل&الانتحار إلى سلاح سياسيّ، والحال أنّ إلغاء الأنظمة القاسية للمطامح السّياسيّة المشروعة هي التي تدفع هذه الذّوات إلى الفناء من أجل أن تعيد الاعتبار، في فعل جنونيّ أخير، لما ينقصها حتّى تشعر بالكرامة : السّياسيّ، وإن مرّ هذا السّياسيّ عبر نحو دينيّ؟ وليكن الأمر واضحا: لا يوجد في التّراث الإسلاميّ أيّ تبرير للانتحار باعتباره فعلا حربيّا، وحركات التّحرير في هذا العالم لم تلجأ أبدا إلى هذا السّلاح في مقاومتها للاستعمار. ما نشهده الآن جديد جدّة الرّهيب الذي لا ذاكرة له.
إنّ تغريب العالم الذي قد حصل مبدئيّا، يتحوّل إلى فاجعة في العالم العربيّ لأنّ نظام حكاّمه لم يمنع انتفاع الشّعوب بثرواتها فحسب، بل منعها كذلك من اللّغة التي تجعل واقعيّ هذا التّغريب معقولا. هناك مؤشّر على هذا الأمر في التّقرير الأخير الصّادر عن صندوق الأمم المتّحدة الإنمائيّ : العالم العربيّ الذي كان في السّابق ناقلا للمعرفة اليونانيّة، لم يترجم طيلة القرون الخمسة الأخيرة (بما في ذلك الخمسين عاما من التّحديث المزعوم) إلاّ ما يقرب من عدد الكتب التي تترجمها إسبانيا في عام واحد! مؤشّر آخر: منذ ثلاث سنوات، عقد وزراء الثّقافة العرب مؤتمرا حول "الأمن الثّقافيّ" ! ولنترجم العبارة الأخيرة : إنتاج الجهل بخليط من الجهل والهويّة. ألم يبلغ هذا النّظام حدّا من التّهريج الجشع والباعث على الجنون لا يمكن أن يتصوّر؟ وإلاّ فبم نفسّر لجوء التّمرّد ضدّه إلى لغة القداسة الهذيانيّة؟
في كلّ مكان ترتفع الأصوات المنادية بإصلاح إسلاميّ، ولا شكّ أنّ هذا الأمر ضرورة تستدعي وقتا طويلا. ولكن توجد غاية أقرب إلى التّحقيق : ليعرف ذوو العقول النّيّرة من الغربيّين مع من نتحالف حكوماتهم، ليفتحوا أعينهم على مصدر الخطر الذي يهدّدنا جميعا، وباختصار، لتكن الحرّيّة في العالم العربيّ القضيّة التي ندافع عنها دون مراوغات ميتافيزيقيّة. وعندئذ، لن يكون من العسير علينا& تجاوز ردود أفعال مهرّجي الإله الغاضب.
إنّ تغريب العالم الذي قد حصل مبدئيّا، يتحوّل إلى فاجعة في العالم العربيّ لأنّ نظام حكاّمه لم يمنع انتفاع الشّعوب بثرواتها فحسب، بل منعها كذلك من اللّغة التي تجعل واقعيّ هذا التّغريب معقولا. هناك مؤشّر على هذا الأمر في التّقرير الأخير الصّادر عن صندوق الأمم المتّحدة الإنمائيّ : العالم العربيّ الذي كان في السّابق ناقلا للمعرفة اليونانيّة، لم يترجم طيلة القرون الخمسة الأخيرة (بما في ذلك الخمسين عاما من التّحديث المزعوم) إلاّ ما يقرب من عدد الكتب التي تترجمها إسبانيا في عام واحد! مؤشّر آخر: منذ ثلاث سنوات، عقد وزراء الثّقافة العرب مؤتمرا حول "الأمن الثّقافيّ" ! ولنترجم العبارة الأخيرة : إنتاج الجهل بخليط من الجهل والهويّة. ألم يبلغ هذا النّظام حدّا من التّهريج الجشع والباعث على الجنون لا يمكن أن يتصوّر؟ وإلاّ فبم نفسّر لجوء التّمرّد ضدّه إلى لغة القداسة الهذيانيّة؟
في كلّ مكان ترتفع الأصوات المنادية بإصلاح إسلاميّ، ولا شكّ أنّ هذا الأمر ضرورة تستدعي وقتا طويلا. ولكن توجد غاية أقرب إلى التّحقيق : ليعرف ذوو العقول النّيّرة من الغربيّين مع من نتحالف حكوماتهم، ليفتحوا أعينهم على مصدر الخطر الذي يهدّدنا جميعا، وباختصار، لتكن الحرّيّة في العالم العربيّ القضيّة التي ندافع عنها دون مراوغات ميتافيزيقيّة. وعندئذ، لن يكون من العسير علينا& تجاوز ردود أفعال مهرّجي الإله الغاضب.
&
ملاحظة:
د. فتحي بن سلامة مفكر ومحلل نفساني تونسي مقيم بباريس. والمقال أعلاه نشر بجريدة اللوموند الفرنسية يوم 9-سبتمبر 2002. مع العلم ان الترجمة الى العربية مقترح بامضاء د. رجاء بن سلامة وهي أستاذه في الجامعة التونسية، وهي تخصّ بها "ايلاف" بعد اذن كاتبها.
د. فتحي بن سلامة مفكر ومحلل نفساني تونسي مقيم بباريس. والمقال أعلاه نشر بجريدة اللوموند الفرنسية يوم 9-سبتمبر 2002. مع العلم ان الترجمة الى العربية مقترح بامضاء د. رجاء بن سلامة وهي أستاذه في الجامعة التونسية، وهي تخصّ بها "ايلاف" بعد اذن كاتبها.
التعليقات