القاهرة-ايلاف:تنظم وزارة الثقافة المصرية الأسكندرية خلال الأسبوع الأخير من شهر أيلول (سبتمبر) الحالي احتفالا فنيا بمناسبة ذكرى فنان الشعب سيد درويش يقام بمسقط رأسه في حى كوم الدكة بوسط مدينة الأسكندرية الساحلية.
تشارك فى الاحتفال فرق قصور الثقافة المختلفة حيث تقوم بتقديم نماذج من ألحان وأغانى سيد درويش، ويشارك فى تقديم تلك الأغانى كل من حفيديه الفنان ايمان البحر درويش ومحمد البحر درويش.
وسيد درويش& مرحلة مهمة في تاريخ الموسيقى العربية، فهو مؤسس حركة إحياء وتطوير الموسيقى العربية، وواضع الصفحات العلمية المدونة بالموسيقى والايقاعات الشعبية، والأكثر حساسية وتواصلاً في اللغة المعاصرة.
فنان الشعب
ويعتبر كل من محمد عبدالوهاب، ورياض السنباطي ، والأخوين رحباني والعديد العديد من الأسماء الرائدة في الموسيقى العربية من تلاميذ سيد درويش ، فهو أحد رواد مرحلة التأسيس الحقيقي للفن الغنائي والموسيقي العربية التي حررها من المؤثرات التركية ، وقد تناول في مسرحياته الغنائية قضايا الشعب وأوجاع المجتمع وهموم وفرح الناس في قالب فريد أطلق عليه الأوبريت المأخوذة أصلا من الغرب والمسكونة عند سيد درويش بأبناء الحتة والناس الغلابة والفلاحين والارستقراطيين معاً في نفس العمل الفني .
ويعتبر مؤرخو الموسيقى العربية أنها أشرقت مع سيد درويش لتصبح حاضرة بين الجميع من مثقفين وبسطاء وسذج، فالكل يفهم ما يريد، وكيف انه سار في ثورة التغيير وثورة بلاده التي ترجمها من خلال النشيد الوطني المصري "بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي".
ومما يحسب لسيد درويش انه تعامل مع الشعر الشعبي "الزجل" في إطار فني رائع ، ومنه استقى أهم وأشهر أعماله الغنائيه التي عرفت بـ "أغاني الحرفيين" كالسقايين والنجارين والشيالين وغيرهم.
كما وضع ألحان عدد من الأوبريتات ليبلور مدرسة مصرية وعربية متطورة جيدة في التأليف الموسيقي والغناء، كما ازدهرت على يديه "اقتصاديات الموسيقى" حتى انعكس ذلك على شركات تعبئة الاسطوانات التي انتعشت حينئذ في مصر .
سيرة ذاتية
وفي السيرة الذاتية لفنان الشعب سيد درويش حكاية دراماتيكية ثرية ، فرغم عمره القصير الذي لم يتجاوز 31 سنة ، فقد قدم ما لم يقدر أن يقدمه جيل بكامله من الألحان والأعمال الغنائية والأوبريتات وغيرها .
ولد سيد درويش في 17 مارس العام 1892 بحي "كوم الدكة" ، وهو حي شعبي ومتواضع في مدينة الاسكندرية ، وتلقى تعليمه البسيط في كُتاب الحي ، ثم عمل في المقاهي ومن ثم في البناء، وذات مرة سمعه صاحب فرقة من المطربين والراقصات والممثلين يدعى المعلم أمين عطا الله، سمعه يغني لرفاقه البنائين أغاني الشيخ سلامة حجازي فأعجبه صوته وطريقته في الغناء ودعاه على الفور ليعمل معه مطربا بالفرقة.
وبالفعل بدأ سيد درويش مشواره ، وأخذ صاحب الفرقة يلقنه أصول الغناء العربي التقليدي.
ثم سافر سيد درويش مع الفرقة للمرة الاولى الى لبنان وبر الشام حيث كانت الموسيقى العربية التقليدية أكثر رسوخا وسمع هناك عازفين ومطربين متمكنين، ورغم فشل الرحلة تجاريا الا انها كانت مكسبا لسيد من الناحية العملية والعلمية ، عاد الى الاسكندرية بوصفه مغنيا محترفا وبدأت أصداء الشهرة القليلة تلمع في المقاهي والحانات لمدة قصيرة، ولكن ظلت رحلة لبنان في فكره، وفي العام 1912 اتيحت له فرصة السفر على حسابه الى لبنان وسورية ليحرص هذه المرة على ان يتعلم فعلا أنواع الغناء العربي ومقامات موسيقاه، كي يؤسس وفقا لها تصنيفه الخاص لأنواع ومقامات الموسيقى والغناء الشعبي في مصر والشام وبالفعل كان اكتشافه هذا دقيقاً للغاية .
وبعد عودته الى الاسكندرية زاد من كمية التمثيل المصاحب للغناء الى ان أصبح الغناء هو الأساس في العمل التمثيلي (ولم يكن هناك مصدر علمي يحدد له اصول المسرح الموسيقي، ولم يكن يعرف لغة أجنبية تساعده على معرفة تلك الأصول)، ومع تزايد شهرته، ويسره المالي نسبيا ، بدأ يتعرف على مثقفين مصريين كان أكثرهم أهمية مهندس يهوى الموسيقى يدعى ايمن العريان، شجعه على تطوير البيانو بحيث يضيف اليه "المازورة" الرئيسية للموسيقى العربية، أو "الربع تون" ومن جانبه علمه المهندس أيمن العريان قراءة النوتة، فطلب منه الشيخ سيد ان يسجل له "نوتات" الألحان الشعبية الشائعة في حواري الاسكندرية وفي ريف محافظة البحيرة والصحراء الغربية ، وفي الوقت نفسه تعلم القراءة والكتابة مع العزف على العود (الآلة الموسيقية العربية الأساسية) وبدأ أيمن العريان يكتب له ألحانه التي يؤلفها بنفسه بالنوتة الموسيقية.
في القاهرة
وفي العام 1917 انتقل سيد درويش من الإسكندرية إلى القاهرة، فلم تستقبله كما كان يتوقع ولكن ثورة 1919 فتحت أمامه المسارح المتطورة وتفتحت عنده الرغبة في تطوير جميع قوالب الغناء المعروفة آنذاك لتظهر في شكل المسرح الغنائي الزاخر بالحس الوطني.
وقد أشعلت الثورة الحس الوطني وعبر عنها بحنجرته الماسية، وفجر أحاسيس الشعب بأغنيات رائعة جعلت المطرب المغمور أفضل مطرب وملحن في مصر، وجاء ذلك لأنه الوحيد الذي أدرك ما كان يحتاجه الشارع والناس في تلك المرحلة فقدم المسرحيات والموشحات والطقاطيق، وقدم خلال خمس سنوات فقط 250 مسرحية غنائية وهذا شيء لا يحدث أبدا ولن يحدث ومن مسرحياته نذكر "البروكة" و"شهر زاد" بالاضافة الى ألحان كبيرة مثل "أنا هويت وانتهيت".
الرحيل
رحل سيد درويش عن سن مبكرة "31 سنة" وتحديدا في 15 سبتمبر من العام 1923، واللافت ان المزاج العام آنذاك كان يتغير مرة أخرى، نحو إهمال الأصول التراثية العربية والشعبية جميعا، ونحو مزجها باستعارات من الموسيقى الغربية الملونة باللون (التون) العربي أو المحلي، ورغم ضعف تيار التطوير الحقيقي للتراث الموسيقي - عن طريق توظيف علوم التأليف والعزل بهدف تقنين التأليف وضبط العزف وفقا لـ "نص" متفق عليه مع المحافظة على روح الموسيقى القومية:
أي الارتباط بالمقام مع تحرير النغم وتركه لمبادرة العازف ، أو المغني وارتجالاته ، رغم ضعف هذا التيار بعد سيد درويش واتجاه التطوير الى الأخذ مباشرة من الأنغام الغربية أو التراثية أو الشعبية وانقسام التأليف الموسيقي والتلحين بين هذه المصادر الثلاثة فإن تأثير سيد درويش واتجاهه نحو التقنين العلمي للموسيقى القومية (العربية والشعبية) ونحو تلوينها بأساليب التأليف الكبير (البوليفوني والهارموني) - هذا التأثير لم يندثر، وإنما كان هو الأساس حين انشئت المعاهد الموسيقية الحديثة في الخمسينات ويظل هو الأساس الذي تنطلق منه أعمال "الموسيقى الكبرى" المصرية والعربية المعاصرة.