عماد سمير عوض
&
الدكتور محمد عمارة، شخصية غنية عن التعريف، يعرفه القاصى والدانى.. مما يتحدثون العربية، وقد كتب سيادته مقالا للتأكيد على اسلامية القدس فى عدد الأخبار يوم الجمعة الأول من نوفمبر، التبس الأمر فيه بالنسبة لي لاحتوائه على بعض المعلومات التى وجدت أن الفائدة العامة تقتضى تصويبها، حيث أن أخطر شىء على المواطن فى أى مكان هو أن يكون هناك بعض الشخصيات ذات النجومية الجارفة عند البسطاء، يقرأ لها المواطن العادى فينبهر ويصدق.. وللأسف المضمون غير صحيح، لذا وجب التنويه.
&أولا: ذكر الدكتور فى مقاله "عامل صلاح الدين الايوبي (533-589هـ/ 1137-1193م) هذه المدينة المقدسة معاملة الحرم الذي لا يجوز ولا يحل فيه القتال.. فحاصرها )583هـ - 1187م( حتي صالح الصليبيون فيها علي التسليم" و للأسف، أعتقد أن الدكتور خانه التوفيق فى هذه العبارة تماما، لأن ابن كثير فى مؤلفه الشهير "البداية و النهاية" يذكر لنا فتح بيت المقدس على يد صلاح الدين كما يلى: "لما افتتح السلطان تلك الأماكن المذكورة فيما تقدم، أمر العساكر فاجتمعت ثم سار نحو بيت المقدس، فنزل بيت غربي المقدس في الخامس عشر من رجب من هذه السنة - أعني سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة - فوجد البلد قد حصنت غاية التحصين، وكانوا ستين ألف مقاتل، دون بيت المقدس أو يزيدون، وكان صاحب القدس يومئذ رجلاً يقال له: "بالبانبن بازران، ومعه من سلم من وقعة حطين يوم التقى الجمعان". فأقام السلطان بمنزله المذكور خمسة أيام، وسلم إلى كل طائفة من الجيش ناحية من السور وأبرا ثم تحول السلطان إلى ناحية الشام لأنه رآها أوسع للمجال، والجلاد والنزال، وقاتل الفرنج دون البلد قتالاً هائلاً، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في نصرة دينتهم، واستشهد في الحصار بعض أمراء المسلمين، فحنق عند ذلك كثير من الأمراء والصالحين، واجتهدوا في القتال ونصب المناجنيق والعرادات على البلد، وغنت السيوف والرماح الخطيات. فبادر السلطان بأصحابه إلى الزاوية الشرقية الشمالية من السور فنقبها وعلقها وحشاه وأحرقها، فسقط ذلك الجانب وخر البرج برمته فإذا هو واجب. فلما شاهد الفرنج ذلك الحادث الفظيع، والخطب المؤلم الوجيع، قصد أكابرهم السلطان وتشفعوا إليه أن يعطيهم الأمان، فامتنع من ذلك وقال: "لا أفتحها إلا عنوة، كما افتتحتموها أنتم عنوة، ولا أترك بها أحداً من النصارى إلا قتلته كما قتلتم أنتم من كان بها من المسلمين".فطلب صاحبها بالبان بن بازران الأمان ليحضر عنده فآمنه، فلما ترقق للسلطان وذلذلاً عظيماً، وتشفع إليه بكل ما أمكنه فلم يجبه إلى الأمان لهم. فقالوا: "إن لم تعطنا الأمان رجعنا فقتلنا كل أسير بأيدينا - وكانوا قريباً من أربعة آلاف - وقتلنا ذرارينا وأولادنا ونساءنا وخربنا الدور والأماكن الحسنة، وأحرقنا المتاع وأتلفن بأيدينا من الأموال، وهدمنا قبة الصخرة وحرقنا ما نقدر عليه، ولا نبقي ممكناً في إتلاف ما نقدر عليه، وبعد ذلك نخرج فنقاتل قتال الموت، ولا خير في حياتنا بعد ذلك، فلا يقتل واحد منا حتى يقتل أعداداً منكم، فماذا ترتجي بعد هذا من الخير"؟ فلما سمع السلطان ذلك أجاز الصلح وأناب، على أن يبذل كل رجل منهم عن نفسه عشرة دنانير، وعن المرأة خمسة دنانير، وعن كل صغير وصغيرة دينارين، ومن عجز عن ذلك كان أسيراً للمسلمين، وأن تكون الغلات والأسلحة والدور للمسلمين، وأنهم يتحولون منها إلى مأمنهم وهي مدينة صور". فكتب الصلح بذلك، و من لم يبذل ما شرط عليه إلى أربعين يوماً فهو أسير، فكان جملة من أسر بهذا الشرط ستة عشر ألف أسير من رجال ونساء وولدان، ودخل السلطان والمسلمون البلد يوم الجمعة قبل وقت الصلاة بقليل، وذلك يوم السابع والعشرين من رجب". أعتقد أن الكلمة واضحة و لا تحتاج لابن كثير لتوضيحها "لا أفتحها إلا عنوة، كما افتتحتموها أنتم عنوة"، و القصة مذكورة فى تاريخ أبى الفداء أيضا.. لمن يريد أن يتأكد.
& ثانيا: ارتكب الدكتور خطأ كبيرا عندما قال: "ولان الاسلام وحده هو الذي جعل الايمان بالنبوات والرسالات السابقة جزءا من عقيدته تميزت السلطة الاسلامية عبر تاريخ السيادة السياسية للدولة الاسلامية علي مدينة القدس باشاعة قدسيتها لكل اصحاب المقدسات من ابناء كل الديانات السماوية.. فكانت الدولة الاسلامية وحدها والسلطة الاسلامية دون سواها هي المؤتمنة والامينة علي المقدسات غير الاسلامية في هذا الحرم القدسي الشريف.. بينما كان العكس- اي الاحتكار- هو موقف كل السلطات غير الاسلامية التي استولت علي مدينة القدس.. فالرومان قد احتكروها لانفسهم دون اليهود والنصاري في حقبة الوثنية الرومانية وبعد ان دخلوا في النصرانية احتكروها دون اليهود..وعندما فتح المسلمون القدس كان من مطالب اهلها - النصاري - الا يسكن فيها احد من اليهود ولا احد من اللصوص!.. وصنع هذا الاحتكار ايضا الصليبيون الذين احتلوها تسعين عاما فبعد ان ذبحوا اليهود مع المسلمين، احتكروا مقدسات المدينة حتي لقد حولوا المسجد الاقصي الي كنيسة لاتينية والي اصطبل لخيول فرسان الاقطاع اللاتين!.. " والخطأ هنا أن الدكتور يجعل من الدين الاطار والمرجعية التى بسببها يتصرف المرء، وأن السلوك كان بسبب أوامر دينينة وتنفيذها هو الذى أدى لذلك، و هو أمر خطير لست أدرى كيف توصل اليه الدكتور، و قبل أن أوضح هذه الجزئية من وجهة النظر الاسلامية أحب أن أوضحها من وجهة النظر المسيحية:
&1- الحملات الصليبية كانت حملات سياسية تتستر بالدين، حيث أن المبادىء المسيحية فى المحبة و بذل الذات عن الآخرين- و التى أتصور أن الدكتور يعرفها جيدا- تدين تماما الحروب الصليبية و تعتبرها تاريخ سياسى لا علاقة له بالدين، و اذا كان الأستاذ عمارة لم يسمع حتى الآن عن شخص مسيحى أدان الحروب الصليبية من وجهة نظر مسيحية فها أنا ذا أعلن عن ذلك.
& 2- أحد الحملات الصليبية انتهت فى القسطنطينية، و بالرغم من أن القسطنطينية كانت عاصمة الدولة الرومانية الشرقية المسيحية فى ذلك الوقت الا أن جنود الحملة أعملوا السلب و النهب فيها دون أى مراعاة لا لمبادىء المسيحية، ولا لنظرية الدكتور عمارة فى التحليل التاريخى، أى أن الحملة لم تحترم أن القسطنطينية مدينة مسيحية.
3 - لعل الدكتور عمارة يعلم كم قاسى الأقباط من الحملات الصليبية، و هو الأمر الذى يؤكد على أن هذه الحملات كانت صادرة عن أناس لا أخلاق لهم، وبالتالى أخذهم كمعيار لاثبات عظمة الحكم الاسلامى للقدس يعتبر غير دقيق، و لمزيد من المعلومات بامكان القارئ الرجوع الى كتابى تاريخ الأمة القبطية ليعقوب نخلة روفائيل و كتاب قصة الكنيسة القبطية لايريس حبيب المصرى - هذا عن وجهة النظر المسيحية، والتى أتصور - قد أكون مخطأ - أن الكثيرين يتفقون معى فيها، فماذا عن وجهة النظر الاسلامية؟ أعتقد أن هذه نقطة محسومة فالاسلام يدعو لمكارم الأخلاق، و ربطه بسلوك بعض الأفراد جريمة، و لكن ماذا لو طبقنا نظرية دكتور عمارة؟ هل سنصل لنفس النتيجة؟ تعالوا بنا نستعرض بعض الأحداث من التاريخ السياسى للاسلام و ندينها قبل أن نقع فى المأزق الذى أوصلنا اليه الدكتور عمارة:
1- موقعة أليس على نهر الفرات، ذكرت فى عدة مصادر تاريخية، انتصرت فيها الجيوش الاسلامية بقيادة خالد بن الوليد، و كان خالد بن الوليد قد أقسم أن يجرى النهر بدمائهم اذا مكنه الله من النصر و قد كان، استمر القتل ثلاثة أيام حتى أن النهر ارتفع بالدم، و سمى بنهر الدم و هو سلوك بشرى محض لا يصح أن ننسبه للاسلام، و هو مشابه لما فعله الصليبيون فى فظائعهم فى بيت المقدس وقد يرد البعض أن ابن الوليد لم يفعل ما فعل فى المسجد الحرام، و لهؤلاء أقول أن منطقة بيت المقدس لم تكن حصنا لأى قوة سياسية اسلامية فى التاريخ الاسلامى و شقت عن عصا الطاعة، و هذا ما حماها و ليس منطق الدكتور عمارة هو الذى حماها، و لاثبات ما أقول سأتحول للنقط التالية:
2- موقعة الحرة، فى عام 63 هـ، جيوش الخليفة يزيد بن معاوية تستبيح المدينة المنورة لثلاثة أيام، و أعملوا فيها السلب و النهب و هتك الأعراض، لأن أهل المدينة رفضوا أن يبايعوا الخليفة يزيد.
3- بعد أن فرغت جيوش الخليفة من المدينة توجهت الى مكة المكرمة فى عام 64هـ بقيادة حصين بن نمير، و ذلك لامتناع عبد الله بن الزبير بن العوام عن مبايعة الخليفة يزيد بن معاوية، و حاصرت جيوش الخليفة الكعبة و ضربتها بالمنجانيق )راجع تاريخ الطبرى وبن كثير وغيرهما( الى أن جاء الخبر بوفاة يزيد ابن معاوية، و لو كان ابن الزبير متمركزا فى القدس بدلا من مكة المكرمة لكان قد وقع لمقدسات القدس ما وقع للحرم المكى.
4- فى عام 73هـ حاصرت جيوش الخليفة عبد الملك بن مروان الكعبة على يد الحجاج بن يوسف وضربتها بالمنجانيق مرة ثانية، و انتصرت على عبد الله بن الزبير و قتل وأرسلت رأسه للخليفة فى دمشق بينما بقى مصلوبا حتى انزل ودفن.
5- مغامرات تيمور لنك فى حلب و دمشق و غيرهما، و ابن تغربردى يقول فى ذلك "وعمل تيمور من رؤوس المسلمين منابر عدة مرتفعة من الأرض نحو عشرة أذرع في دور عشرين ذراعًا حسب ما فيها من رؤوس بني آدم فكان زيادة على عشرين ألف رأس ولما بنيت جعلت الوجوه بارزة يراها من يمر بها". و فى ناحية أخرى يقول "وكان تيمور - لعنه الله - سار من دمشق في يوم السبت ثالث شهر شعبان بعد ما أقام على دمشق ثمانين يومًا وقد احترقت كلها وسقطت سقوف جامع بني أمية من الحريق وزالت أبوابه وتفطر رخامه ولم يبق غير جدره قائمة". كل هذا سلوك بشر لا علاقة له بالدين و لا يمكن لنا أن نستعمل منطق الدكتور عمارة فى تحليله الا اذا كان الدكتور عمارة يريد تشويه الاسلام، و هو الأمر الذى أربأ بالدكتور عمارة عنه.
& فى موقع آخر يقول سيادته "والفارق بين المسلمين وغيرهم في هذه القضية - اشاعة قدسية القدس او احتكارها - ليس مجرد تسامح يقابل التعصب.. ".. و قبل أن يكمل سيادته أحب أن أوضح أن الأديان لا يوجد فيها تعصب و انما المؤمنين بالأديان هم الذين يوجد لديهم التعصب، و مثل هذا الكلام يا دكتور بعيد عن الموضوعية و هو التعصب بعينه، ولا يصح أن يصدر لا عن سيادتكم و لا غيركم. و يستمر مسلسل المغالطات والاستخفاف بأن يقول سيادته "والنصرانية تتخذ نفس الموقف من الآخر الديني ومن مقدساته" من قال لك ذلك يا دكتور؟ ألم تسمع عن "تحب قريبك كنفسك" وكيف أن السيد المسيح فسر هذه الوصية فى مثل السامرى الصالح؟ و جعل بذلك المحبة غير مشروطة بجنس أو بلون أو بدين؟ ألم تسمع عن "من قال لأخيه رقا يكون مستوجب نار جهنم"؟ و الأخوة هنا أخوة انسانية تتخطى الحواجز العقائدية التى يحاول ان يكرس لها الدكتور عمارة فى منشوره، و هل الذى سيكون ممنوعا عليه أن يقول لفظا بذيئا لأخيه فى الانسانية -أيا كان دينه - سيكون مسموحا له أن يضطهده ويستحل ماله ودمه ومقدساته؟ للأسف مقال الدكتور عمارة ليس سوى سلسلة من المغالطات، و هو يتبنى آراء مدرسة تاريخية تقرأ سطرا و تتجاهل صفحات.. وتقرأ ما تريد حتى لو كان غير مكتوبا!!!، ولست أدرى ما الذى يريد الدكتور أن يقوله بالتحديد؟ و هو يسوق المغالطة تلو الأخرى ليخرج علينا بهذا السخف الذى يدمر و لا يعمر؟ هل مصلحة القدس و الاسلام و العرب أن يقول "ليس مجرد تسامح يقابله تعصب" و هل مصلحة الاسلام و القدس لا يمكن اثباتها الا عن طريق هذا الهراء الذى نشره سيادته فى جريدة من كبرى الجرائد اليومية فى مصر اشعالا لمناخ البغضاء والكراهية؟ و هل الأستاذ و هو النجم التليفزيونى الشهير يستعمل هذا الأسلوب العدائى فى أى حديث أو مقال يصل للملايين أم هى كبوة مردها ما حدث لاخوتنا فى فلسطين، أفقدته وابه فخرج علينا بمثل هذا الكلام؟ و هل الطريق الى القدس لا بد أن يبدأ بالربط بين المسيحية و الصليبيين و التعصب و دماء المسلمين السائلة فى المسجد الأقصى؟ أعتقد أن الدكتور عمارة جفت أفكاره - و أستحى أن أقول أفلس - فخرج علينا بمثل هذا السخف الذى لم يراجعه رقيب أو حسيب، اتق ربك فى دينك و بلدك يا دكتور عمارة هدانا الله و اياك الى ما فيه خير وطننا.
-نيوجيرسى