زياد الصالح
&
بعد استقالة وزراء حزب العمل من الحكومة الاسرائيلية وتعيين بنيامين نتنياهو وزيراً للخاريجة وشاؤول موفاز وزيراً للحرب يطرح التساؤل التالي نفسه: ما العمل وكيف ينبغي التصرف إزاء سياسات حكومة الحرب الاسرائيلية وممارساتها؟
إن التحدي الأساسي الكبير الذي يواجه العرب اليوم لا يتعلق بقدرتهم على عقد قمة عربية شاملة - التي طالبت بها السلطة الفلسطينية - أو بعجزهم عن تأمين الظروف الملائمة لعقد هذه القمة في مواجهة الممارسات اليومية الاسرائيلية ضد الفلسطينيين، بل يكمن في قدرة الدول العربية على التأثير في حكومة شارون وإدارة الرئيس بوش لاخراج عملية السلام من جمودها ووضع حد لسياسة القتل والتدمير المنظم للفلسطينيين وفرض الأمر الواقع الاسرائيلي على الفلسطينيين خصوصاً وعلى العرب عموماً.
وتنطلق التساؤلات التالية: هل تستطيع الدول العربية تغيير مجرى الأمور على صعيد تسوية الصراع مع اسرائيل فلا يبقى هذا الصراع رهينة سياسية قائمة على فرض السياسة الاسرائيلية بوسائل مختلفة ورهينة تساهل وتكيف أمريكيين مع هذه التوجهات الاسرائيلية؟ هل يلجأ العرب الى خيار المواجهة مع اسرائيل؟ وهل هم راغبون وقادرون على ذلك؟ هل يلجأ العرب الى خيار المواجهة مع الادارة الأمريكية وخيار الضغط عليها لحملها على اعتماد سياسة الحزم مع حكومة شارون بما يجعل هذه الحكومة تنفذ الاتفاقات الموقعة وتحترم قرارات الشرعية الدولية ومبادىء مؤتمر السلام؟ وهل العرب راغبون وقادرون فعلا على الدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة وعلى ممارسة ضغوط عليها؟ ثم ما هي مصلحة العرب فعلا؟ هل أن المصلحة العربية تقضي بالبقاء ضمن عملية السلام على الرغم من كل ما يجري أم أن المصلحة تقضي بالانسحاب من العملية السلمية والتخلي عن اعتبار السلام هدفاً وخياراً استراتيجياً على أساس انه لا جدوى من التمسك بالسلام طالما أنه ليست هناك عملية سلام حقيقية؟ أم أن الأفضل والأنسب في النهاية ترك الأمور تسير على ما هي عليه والاكتفاء بالشكوى والتذمر والتعبير عن خيبة الأمل بتوجيه الانتقادات القاسية واللاذعة للسياسة الأمريكية وللممارسات الاسرائيلية من دون الاقدام على أي عمل يدعم هذه القسوة الكلامية؟
هذه هي الأسئلة بل التحديات الحقيقية التي تواجه العرب اليوم: ما العمل فعلا بعيدا عن المزايدات اللفظية والشعارات الفارغة والتظاهرات الكلامية؟! هناك حقائق أساسية تفرض نفسها ولا يمكن تجاهلها وتجعلنا ندرك بوضوح أكبر ما هي قدرات العرب الفعلية وامكاناتهم إزاء أمريكا واسرائيل وعملية السلام، وماذا يمكن توقعه من العرب، سواء عقدت القمة أم لم تعقد، وسنتوقف عند كل من هذه الحقائق.
الحقيقة الأولى ان الدول العربية متمسكة بعملية السلام ولا تريد الخروج منها ومتمسكة بالسلام كهدف وخيار استراتيجي ولا تريد التراجع عن ذلك ولو أدت سياسات وممارسات حكومة اسرائيل الى تجميد العملية السلمية واخراجها عن مسارهاالطبيعي الذي حددته لها الاتفاقات الموقعة وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة ومبادىء مؤتمر مدريد، وتمسك العرب بالسلام هو التزام عربي - دولي وليس التزاما عربيا تجاه اسرائيل، وهو أساس التوجه العربي نحو المجتمع الدولي والدول الكبرى والمؤثرة إذ لا تمكن مطالبة هذه الدول بالعمل على تحقيق السلام إذا لم يكن هذا هو خيار العرب وهدفهم الاستراتيجي.
والاتفاقات والانجازات القليلة التي تحققت في عهد حكومتي رابين وبيريز تشجع العرب، ولو لم يعترفوا بذلك علناً، على مواصلة التمسك بخيار السلام والتعامل مع شارون على أساس أنه لا يمثل جميع الاسرائيليين إذ ان هناك خمسين في المائة من الاسرائيليين على الأقل يريدون انهاء النزاع سلميا فلا بد إذن من تشجيعهم وترك باب السلام مفتوحا أمامهم.
وهذا هو موقف المجتمع الدولي ولابد ان يأخذه العرب في الاعتبار، وما يعطي التمسك العربي بالسلام متانة واستمرارية هو ان الأطراف المعنية مباشرة بالنزاع متمسكة بالعملية السلمية ولا تريد التخلي عنها، بغض النظر عن استيائها المعلن من سياسات شارون وحكومته وبغض النظر عن بعض التصريحات العلنية الغاضبة التي تصدر بين الحين والآخر نتيجة ممارسات وأعمال الحكومة الاسرائيلية، فمصر والأردن تعتبران معاهدتي السلام الموقعتين بينهما وبين اسرائيل بمنزلة التزامين دوليين اتخذهما البلدان تجاه المجتمع الدولي والدول الكبرى وأقاما على أساسهما علاقات متعددة الجوانب مع هذه الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، لذلك فلا مجال للتخلي عن هاتين المعاهدتين والغائهما لأن ذلك يسيء الى علاقات مصر والأردن الدولية والى سمعة ومكانة البلدين في الساحة الدولية.
السلطة الفلسطينية متمسكة بقوة بعملية السلام والاتفاقات الناتجة عنها والتي أتاحت وللمرة الأولى قيام حكم فلسطيني على أرض فلسطينية، ولو كانت صغيرة الحجم، تمهيداً لقيام دولة فلسطينية ولو في ظل هيمنة اسرائيلية.
وسورية متمسكة بعملية السلام ولا تريد الخروج منها ولو كانت مواقف قيادتها العلنيةوتصريحاتها العنيفة ضد سياسات شارون ومن قبله باراك ونتنياهو وضد الادارة الأمريكية توحي عكس ذلك، والحقيقة ان القيادة السورية متمسكة بالبقاء ضمن عملية السلام لأن ذلك عامل أساسي لابد منه للمحافظة على علاقة جيدة أو طبيعة مع الولايات المتحدة، ولأن التمسك بالسلام يؤمن حماية لسورية في مواجهة أي مخططات اسرائيلية عدوانية، وهو ما يحرص المسؤولون الأمريكيون على التذكير به في أحاديثهم الخاصة. ولبنان بالطبع متمسك بعملية السلام سواء نتيجة ارتباطه الوثيق بسورية أو الأهم من ذلك لعدم قدرته على مواجهة اسرائيل إلا بالتمسك بالسلام المستند الى الشرعية الدولية وقراراتها.
وحين تكون كل الأطراف العربية المعنية مباشرة بالنزاع مع اسرائيل حريصة على البقاء ضمن عملية السلام برغم كل شيء، فإن ذلك يعطي التمسك العربي بالسلام متانة وقوة واستمرارية، يضاف الى ذلك ان الخروج العربي من عملية السلام يخدم تماما مصالح شارون الذي يردد باستمرار "ان العرب أعداء دائمون لاسرائيل ولا يمكن الوثوق بعودتهم والتزامهم"، ورغم أن شارون أيضا قد ألغى اتفاقية أوسلو وما تبعها من اتفاقيات عمليا على الأرض..!!
الحقيقة الثانية هي ان الدول العربية لا تسعى الى حل النزاع مع اسرائيل عن طريق الحرب والمواجهة العسكرية ولا تعدّ ان جمود عملية السلام وتصرفات حكومة شارون يجب ان تدفع العرب الى اعتماد الخيار العسكري، وهذا الأمر ناتج خصوصاً عن أن مقومات وظروف الحرب مع اسرائيل لم تعد متوفرة كما كان الحال في السابق.
فمصر والأردن مرتبطتان بمعاهدتي سلام مع اسرائيل تمنعهما من استخدام القوة العسكرية ضد الدولة اليهودية وتجعلهما في حالة مواجهة مع الدول الكبرى وليس فقط مع اسرائيل في حال قامتا بخرق هاتين المعاهدتين، وجمود عملية السلام مهما طال ولو كان نتيجة سياسات شارون، لا يبرر في نظر القانوني الدولي والدول الكبرى، اللجوء الى الخيار العسكري وخرق معاهدتي السلام، وسورية ليست قادرة بالطبع على ان تخوض وحدها أو مع لبنان حرباً ضد اسرائيل بسبب التفوق الحربي الهائل للدولة اليهودية على الدول المجاورة له، والعراق محاصر ومعزول وتحت الرقابة الدولية الصارمة ولا يستطيع ان يقوم بأي شيء على صعيد المواجهة مع اسرائيل، خصوصا ان أولوياته ليست الدخول في حرب مع الدولة اليهودية بل انقاذ نفسه من الحصار والعقوبات الدولية ومن التهديد الأمريكي - البريطاني بتغيير النظام.وإيران لديها حسابات مختلفة عن حسابات العرب في تعاملها مع اسرائيل ولو أوحت تصريحات قادتها العلنية عكس ذلك.والساحة الدولية انقلبت رأساً على عقب في السنوات القليلة الماضية فلم يعد هناك اتحاد سوفياتي أو كتلة شرقية، وبالتالي فقد العرب حليفا عسكريا واستراتيجيا حقيقيا في الوقت الذي أصبحت الولايات المتحدة حليفة اسرائيل الأولى، هي القوة العظمى الوحيدة في العالم، وهذا الواقع الجديد لا ينعكس فقط على شؤون التسلح، بل ينعكس أيضا على مختلف المجالات السياسية والدبلوماسية والاستراتيجية والأمنية والاقتصادية، مما يجعل العرب في موقع أضعف تجاه اسرائيل مما كانوا عليه قبل بضع سنوات، اضافة الى ذلك كله يجب التذكير بأن آخر حرب خاضها العرب ضد اسرائيل هي حرب 1973م لم تكن حرب تحرير بالمعنى الحقيقي الكامل، بل تمت هذه الحرب في ظل الحرص العربي على حل النزاع مع اسرائيل سلميا واستعادة الأرض المحتلة والحقوق المشروعة عن طريق المفاوضات، لكن بعد تعديل ميزان القوى مع اسرائيل وتقوية الموقع العربي التفاوضي معها، لكن ظروف حرب 1973م العربية والاقليمية والدولية، لم تعد متوفرة اليوم للأسباب التي أشرنا اليها.
الحقيقة الثالثة هي ان الدول العربية ليست قادرة على التأثير مباشرة في اسرائيل، وليست قادرة على التأثير في مجرى المفاوضات وفي مجرى الصراع مع الدولة اليهودية، فسواء استخدم العرب الخيار العسكري مع اسرائيل، كما حدث العام 1973م، أو استخدموا الخيار السلمي التفاوضي معها، فإنهم يحتاجون الى طرف ثالث للتعاطي مع اسرائيل وايجاد الحلول لهذه المشكلة أو تلك، والطرف الثالث هو بالطبع الولايات لا سواها.. فليست هناك آلية دولية للتعامل مع اسرائيل، وليس هناك مجتمع دولي قادر على التأثير فعلياً في اسرائيل، وليس مسموحاً لمجلس الأمن ككل أو لدول الاتحاد الأوروبي أو لروسيا أو لأي جهة دولية التعامل فعليا مع الدولة اليهودية أو لعب دور الوسيط الحقيقي بينها وبين العرب، هذا الدور هو للولايات المتحدة وحدها، كل الاتفاقات التي وقعت في اطار النزاع العربي - الاسرائيلي منذ عام 1948م والى اليوم كانت نتيجة مشروعات أو اقتراحات أو أفكار أمريكية أو اسرائيلية أو أوروبية تبناها الأمريكيون.
ولم يتم توقيع أي اتفاق، ولو كان صغيراً ومحدوداً، في اطار هذا النزاع، على أساس مشروع سلام عربي أو اقتراحات عربية، ويعني ذلك ان الدول العربية تحتاج الى أمريكا بل إنها مضطرة الى الاعتماد على أمريكا وعلى دورها لكي يتم تحريك عملية السلام ولكي يحدث تبدل ما في مجرى ومسار الصراع.هذه الحقائق تظهر بوضوح ان قدرات العرب على تغيير مجرى الأمور على صعيد عملية السلام والتأثير فعلا في أمريكا واسرائيل، محدودة للغاية في الظروف والمعطيات الراهنة، وانها أضعف من أن تتمكن من وضع حد لسياسات شارون الخطرة ولتساهل ادارة بوش معها، فعملية السلام هي في النهاية حصيلة موازين القوى بين مختلف الأطراف المعنية بها،وحصيلة مجموعة عوامل ومعطيات ووقائع ومصالح محلية واقليمية ودولية، اقتصادية وعسكرية وأمنية واستراتيجية وسياسية.
ولا يمكن تغيير مجرى الأمور فعلا، على صعيد عملية السلام بما يؤمن الحقوق والمطالب العربية المشروعة إلا بإحداث تغييرات كبيرة وجذرية في موازين القوى وفي المعادلة القائمة حاليا بحيث لا يظل الطرف العربي أضعف أطراف هذه المعادلة، ومن ثم الأقل تأثيراً في مسار الأحداث واتجاهات عملية السلام.
لكن تحقيق هذه التغييرات الجذرية والكبيرة يتطلب استراتيجية عربية طويلة الأمد وخططاً عربية واقعية ومدروسة وغير متهورة، للتعامل مع الولايات المتحدة واسرائيل والدول الكبرى بما يضمن في وقت واحد مصالح العرب ومطالبهم المشروعة في الصراع مع اسرائيل، ومصالح العرب ومطالبهم المشروعة في مجالات وساحات أخرى غير ساحة الصراع مع اسرائيل.
وهذه قضية تتطلب أكثر من قمة عربية واحدة، وأكثر من قرارات عربية تتناول جزئيات الأمور، فلا تؤثر فعلياً في مسار عملية السلام أو في مستقبل العلاقة العربية - الاسرائيلية ككل.
هذا هو التحدي الحقيقي الأكبر الذي يواجه العرب اليوم.
(*) كاتب ومحلل سياسي - لندن