قصة قصيرة لكامل السعدون
&
تناهى لسمعه صوت أبواق السيارات وأصوات نواحٍ وعويل .... أبتسم بلطفٍ لضيفه ونهض ليرى ذلك الذي يجري تحت النافذة .
كان سربٌ يكاد لا ينتهي من سيارات الأجرة العتيقة بلونيها البرتقالي والأبيض تتهادى على مهل تحت شرفة البيت الذي أنتخبه سراً ، لاستقبال ضيفه القميء ذو الكرش الصغير ... عد .... عشرة ... عشرون .... خمسون .... مائة ... أبتسم لنفسه سراً..
ارتدى على عجلٍ قناع الحزن ... كادت غدد الدمع الطيعة للقناع المتقن أن تنفجر ماطرةٍ لو لم يلجمها بكفاءته التي لا يجاريه أحد بها وألتفت لضيفه الذي لكان لما يزل جالساً بغير استرخاء ... وهو يشد ركبتيه إلى صدره بكفين يغمرهما الشعر الأبري الأسود ..
- تعال وأنظر ..." قالها بصوت متهدج"
* يا إلهي ... ما هذا ..." قالها الضيف وقد صعقه المشهد ..."
* كما ترى ، ضحايا الحصار .... نعوش أطفالي ... ضحايا يومٍ واحد فقط .... مائة في يومٍ واحدٍ فقط ، في مدينةٍ حبيبةٍ واحدة من أصل عشرون .... تخيل ....
* الله أكبر ...
* نعم ....نعم .... الله أكبر على الأمريكان والصهاينة والمتخاذلين من الـ .......كلا .....لا أطيق الاستمرار بمشاهدة هذا المشهد... لا أستطيع ... إني أتمزق .... أتمزق في داخلي .... تصور كل يومٍ مثل هذا ... كل يوم ... لقد جف ريقي ... اللعنة ... خذ .... خذ يا رجل وأشرب ... لقد نسينا أن نضيفك ... وقدم بنفسه كأس الويسكي لضيفه ...
* أعانكم الله يا سيدي على هذه المصيبة...
* آه .... " " قالها وهو ينظر لضيفه بازدراء واضح .."
* ألو .... سيدي ... لقد خرج الموكب ...
* بلا رأيته.... أحسنتم ... " وخفض صوته...حتى غدا همساً .." كما اتفقنا ... مائة دولار لكل أسرةٍ شاركت في العرض ... والدفن علينا .... أريدهم أن ينصرفوا إلى بيوتهم بعد انتهاء التشييع ، ليأخذوا نقودهم ويتركوا أبنائهم ويرحلوا ...
* أمرك سيدي ... لكن ...
* ....
* ماذا بشأن مواكب المدن الأخرى ...
* ماذا ... ومن قال إننا نريد مواكب في المدن الأخرى ...؟ .... أخشى أن هؤلاء ال ... قد توهموا أنفسهم قادةٍ ويريدون أن يستعرضوا جثث الناس ، تلفن في الحال وأوقفوا أي استعراضات للموتى ، أريد أن يأتيني أولاد ال.... صباح الغد الباكر لألعن أسلاف أسلافهم ... يريدون أن يهيجوا الناس علينا في تلك المدن التي سميناها المدن السوداء ... أنسيتم... أنسيتم ما فعلوه بنا في هوجة شعبان عام ...
* لا يا سيدي لم أنسى ، أنا شخصياً لم أنسى ...
* حسناً أذهب أنت الآن ... أسمع ... كلمة شخصياً لن أسمعها منك ثانية وإلا ...
* أمرك سيدي ... كانت زلة لسان ...
* وهذا اللسان سأقطعه بيدي ... إن لم يتهذب في حضرتي ...
* ....
* ...
وألتفت إلى ضيفه الذي بان عليه بعض الاسترخاء إثر احتسائه الكأس الأول ... كانت عيناه تطالعان الزجاجة ذات اللون الأرجواني باشتهاء ...
* تفضل ... اشرب ... أنا اكتفيت ... ولنعد إلى موضوعنا .... قلنا خمسة عشر ألف ... أليس كذلك ...
* نعم سيدي ... اقترحت سيادتك خمسة عشر ألفاً لمن يفجر نفسه .... وأنا أرى ... أعني ...الرفاق هناك يرون إن من يحمل رشاشاً أو قنبلة يدوية ، ثم يستشهد يستحق أهله لا شك مكافأة الشهادة ...ذاتها ..
* ذاتها... ولماذا ... هل تحسبوني مغفلاً... " أنتفض كيانه كله من الحنق ..." ، كم تقتل الرشاشة أو القنبلة اليدوية ... واحد .... أثنين .... عشرة .... وكم تجرح ... هه... ثم .... أما رأيت بعينك جنازات أبنائي ... أما رأيت ... أما رأيت قتلى الجوع والمرض .... نحن ..." وضرب على صدره ..." نحن نموت كل يوم ... وأنتم تريدون الحياة وتلهثون خلفها .... ربما تحلمون بدولة ديموقراطية على النمط الصهيوني ...." وقهقه بصخب ..." ، لا ... لن أدفع قرشاً واحداً إلا لمن يستشهد بحزام ناسفٍ ، يقتل من الصهاينة أكبر قدرٍ ممكن ويجرح العشرات و...
" وتابع ..." ثم يا أخي أنت من تنظيمنا ... وتعرف كيف نفكر وماذا نريد .... فلا حاجة لتكرار ما سلف ترديده في اجتماعات ....القومية ...
* طبعاً .... طبعاً سيدي ... نحن وبحمد الله رفاق التنظيم الواحد ... وتجمعنا العقيدة الواحدة ...
" قالها الرجل القميء ذو الكرش المشدود بعناية ، بزهو "
نظر الآخر إليه باحتقار .... خذ .... " وأشار إلى الزجاجة " ، خذ هذه معك وأذهب الآن ولا تنسى .... خمسة عشر ألف دولار لمن يفجر نفسه ..
صفق الباب خلف ضيفه .... أبتسم إذ تعالى إلى وعيه صوت النواح آتيا من أسفل الشارع