كتب نبيل شـرف الدين: فضة المعداوي في "الراية البيضاء"، نفيسة في "بداية ونهاية"، زوجة العمدة في "الزوجة الثانية"، وغيرها من مئات وربما آلاف الأدوار التي جسدتها باقتدار الراحلة الكبيرة سناء جميل، لا تساوي لحظة واحدة من تألقها على خشبة المسرح، ولا يمكن لأي كائن من كان أن يزعم ملامسة هذه الموهبة المتألقة من دون أن يراها ولو مرة واحدة متوهجة على خشبة المسرح.
في الستينات أطلق عليها نقاد المسرح ـ حين كان هناك نقاد ومسرح ـ زهرة المسرح العربي، وقبل رحيلها بشهور كان تكريمها بمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي تقديرا لمشوارها الطويل مع المسرح وعطائها الذي امتد أكثر من نصف قرن قدمت خلاله العديد من الأدوار المتميزة، وتعد سناء جميل الوحيدة التي حصلت على وسام الدولة للفنون مرتين، وفضلاً عن تكريمها مراراً في مصر وخارجها، إلا أنها همست باكية أمام عدد من الصحافيين بعد استلامها جائزة المسرح قائلة إن تكريم المسرح هو لحظة التتويج الحقيقية في حياتها، انه شئ يشبه تصفيق جمهور المسرح، تصفيق من لحم ودم.. وكانت صادقة كما عهدناها دائماً، متألقة في حزنها كما هي متألقة في فرحها.
سألتها قبل شهور من وفاتها،& لماذا ابتعدت عن عشقك الأول .. المسرح؟
فأجابت: ابتعدت رغما عني وبأوامر صارمة من الاطباء، لأن قلبي لم يعد يحتمل الجهد الكبير الذي يحتاجه المسرح، وأنا للأسف أعاني من ضعف شديد في عضلة القلب والأطباء أكدوا أن قلبي لا يحتمل إجهاد العمل المسرحي.
.....
في فيلمها "أضحك تتطلع الصورة حلوة" مع أحمد زكي وليلى علوي، عملت على نص وحيد حامد، الذي أخرجه شريف عرفة، وكانت جدة لحفيدة حطم الحب قلبها بعدما أجبر زميلها في الجامعة على هجرها للزواج من ابنة وزير ليؤمّن مصالح أسرته، ويتسق مع طبقته الاجتماعية، ولم يبدُ على قسمات وجه سناء أي افتعال حين تدفق ذلك السيل الجارف من الحنان الذي تحمله لحفيدتها، فقط حبست دمعتين في مقلتيها، وذهبت بكل القسوة بعيداً حين قالت :" يا ابنتي. بنات الأغنياء يتزوجن بفلوس أهاليهن. وبنات الفقراء يتزوجن بالشرف. وبالشرف وحده"، موجهة رسالة لكل فقراء العالم، أن تسلحوا بالشرف، فهو السلاح الوحيد الذي يمكنهم إشهاره دفاعاً عن وجودهم وتأكيداً له.
اقتحمت سناء جميل عالم النجومية، لتمزج باقتدار منذ بداياتها بين شراسة الأنثى وحنان الأم، وأرسلت جذورها عميقاً جداً في وجدان المسرح والدراما المصرية، وعلى الرغم من افتقادها لمواصفات "الدلوعة"، لكنها أرست تاريخاً من الفن الجميل، الأصيل، الذي سما بها، فزادها سناءً وجمالاً.
.....
في الأيام الثلاثة الأخيرة ظلت سناء في حالة غيبوبة تامة وكان يرافقها في رحلة علاجها زوجها الكاتب المعروف لويس جريس الذي صرح أن آخر كلمة قالتها قبيل وفاتها‏: "آخر شئ أريده ان يقوم زوجي بدفني‏"،‏ وحكاية ارتباطها برفيق عمرها طويلة وجميلة، وتستحق أن تروى، وأن يتفضل الأستاذ لويس بذلك حين يتجاوز محنته، وفاء لرفيقته الرائعة، وقصتهما الأروع.
ما يعرفه الكثيرون إن سناء جميل ولدت في ‏27‏ نيسان (ابريل) من العام ‏1930‏ ـ واسمها الحقيقى ثريا يوسف عطا لله ـ وحصلت على بكالوريوس الفنون المسرحية عام 1953، لكن تبقى في مخيلتي صورة روتها ذات مرة في حضوري بأسلوبها البديع في تجسيد كل ما ترويه، صورة تلك الفتاة النحيلة التي لم يدر في خلدها حين تسللت يوماً من منزل ذويها ميممة وجهها صوب المسرح، أنها ستصبح ذات يوم جوقة انفعالات تنتزع التصفيق والاعجاب من جمهور راق حضر خصيصاً ليغسل روحه في المسرح بكل هذا السناء والجمال.
.....
ورغم انها لم ترزق بأبناء، إلا انها تركت لنا ما سيخلد ذكراها، بالعديد من المسرحيات العالمية والمصرية منها الدخان، والناس اللى فوق، شقة للايجار، شمس النهار، شهر زاد، الحصان، وجميع أعمال موليير المترجمة.
وقدمت سناء على مسرح بيير كاروان بفرنسا مسرحية بالفرنسية عام 1976 ثم أعادت تقديمها في مصر ضمن برنامج التبادل الثقافى بين مصر وفرنسا.
وفي السينما قدمت الراحلة الكبيرة العديد من الادوار المتميزة فى عدد كبير من الافلام التي صارت علامات في تاريخ السينما منها (بداية ونهاية) و(الزوجة الثانية) و(المستحيل) و(فجر يوم جديد)، كما أدت باقتدار دور سميه أول شهيدة فى الاسلام فى الفيلم العالمى الشهير (الرسالة).
كما قدمت سناء جميل للتلفزيون العديد من التمثيليات والمسلسلات ومنها تمثيلية رنين التى قامت ببطولتها منفردة لمدة نصف ساعة وحصلت على الجائزة الثانية فى التمثيل فى مهرجان موسكو عام 1961 كما حصلت على جوائز عديدة من وزارة الثقافة ووزارة الاعلام وجائزة مهرجان بعلبك عن المسرح وحصلت على وسام العلوم والفنون عام 1966 ووسام الفنون عام 1976.
أخيراً أذكر أني سألتها أيضاً عن رأيها في حال المسرح الآن، فأجابت وقد اكتسى وجهها بملامح حزن نبيل قائلة : "حال المسرح لا يسر أحدا وفي المرات القليلة التي أذهب فيها أبكي ويكفي أن ترى الإعلانات عن المسرح في التليفزيون لتتأكد أن ما يقدم ليس مسرحا وإنما هو كباريه وللجمهور الحق في أن ينصرف عن المسرح لأن المسرح الجاد أصبح عملة نادرة"..
ليس المسرح الجاد وحده يا سيدتي، بل يبدو ان الزمن كله صار عبثاً، رحم الله الرائعة سناء، وألهم رفيق رحلتها لويس جريس، وكل محبيها ـ إنسانة وفنانة ـ الصبر على فراقها، واحتمال كل هذا العبث وذلك الجنون.