&
بقلم: ظافر جلود: نعم تكفي النيات السليمة وحدها في تقديم رؤيا إبداعية في الأعمال الدرامية التلفزيونية بالتوافق مع الحقائق والوثائق القادرة على تحقيق المصداقية في النقل الحرفي لاصل الصراع وخاصة حينما تؤسس الأحداث على تاريخ شريحة كبيرة من فضاءات متعددة الجوانب وبشمولية واسعة لكن بالمقابل أيضا لا يستسيغ المتلقي التحجر عند تقليب الأوراق في متاحف التاريخ الإنساني دون انعكاسها على حاضر ومستقبل هذه الرقعة الجغرافية بحضاراتها وتطورها وتطلعها أي إن تعي الدرس جيدا فالماضي في كثير من الاحيان صورة تعبئ في الذاكرة وتنشطر لتدور في الفلك الكبير للوعي البشري .
وبين هذه المتناقضات فجر مسلسل هولاكو حتمية الرؤيا بمنظار واع لهذه الأحداث الدموية في تاريخ امتنا العربية والإسلامية انه التقاطه في الوقت الضائع والصعب بحيث من هول الوقائع الميتافيزيقة ومجرى الدم وتخثر الضمير وفقدان المناعة وتفكك السلطة وهيمنة الخيانة ولمعان السيوف بتنا نتحسس أعضائنا في كل لحظة خوفا من تسربها إلى المجهول القادم الذي يفرضه علينا هولاكو المتبلد الشعور والساقط في لذة التدمير والخراب والقتل انه نموذج حي لكل الطغاة الذين ينفذون من علب الخرائب للعب فوق مقدرات رقاب الناس فلا فرق واضح بين من جاء من مرامي البراري والقفار يحمل لغة الدم ومن تبنى استباحة حرمة أهله وشعبه تحت سطوة ملذاته وفساده انهما وجهان لعملة واحدة .
هكذا يكشف مسلسل هولاكو باستحياء أحيانا وبالجهر الصريح مرة أخرى ملامح فكرته المتداخلة في تشابك الوثيقة مع الواقع والمتوقع برؤيا معاصرة غلبت عليها الحكاية التي كتبها مؤلف ومخرج مسرحي د. رياض عصمت نقف عند إعماله بكثير من التأمل فهو من القلة الذين يذهبون إلى التاريخ لكشف عورات الحاضر فلديه من الجرأة إن يتنبأ بما ستؤل الأمور وفق رؤيا بصرية حاذقة يستمد قدرته الأخبارية من كثافة الإيحاء عبر اختراق لطبقات التاريخ والبحث عن معطيات ممكنة تتموضع في الحدث المركزي وتتداخل دون التأثير في التحليل الأخير لاصل الفكرة .&
هذه النقطة أو المحاولة أسقطت في يدنا منذ البدء مصداقية أحداث هولاكو فهو ترك هذه الفجوة بوعي مقصود الغرض منها تشكيل تضاد فكري متناقض من داخل التتار فاقحم إحداث مفبركة كان يرمي عبرها تأسيس نسق قائم على الفعل الداخلي للكل من خلال العلاقات المتبادلة بين أجزائه فقط متجنبا التوافق بل كان يعتمد على التناقضات والتوتر والصراع حتى بدا التشتت على النص والمعالجة في الحلقات الأخيرة واضحا مما افقد أهمية التعاطف مع القضية باعتبارها صراعا يجري بين قوى محتلة ومدمرة لكل تلك الحضارات فيأتي بابن هولاكو روميو التتري إلى معسكر العرب ليلتقي بجوليت الدمشقية نادما على فعلة قومه وأبيه وفي حقيقة الأمر انه يبطن شئ أخر كذلك هذا التحدي السافر من قائد تتري خسر المعركة للسلطان قطز حاكم مصر المنتصر في عين جالوت تركت انطباعا لم نقل سلبيا على مجمل الأحداث بل كان ممكن تداركه في مسلسل مع هنته أستطيع إن اعتبره من افضل الإعمال التلفزيونية التي قدمت خلال الفترة الأخيرة تأليفا وإخراجا وتمثيل وإنتاجا.
وحين نعود للوثيقة التاريخية في سردها الموجز فان هولاكو أو ( إيلخان ) كما يسميه التتار هو الأخ الأصغر من الأحفاد الثلاثة لجنكيز خان مؤسس إمبراطورية المغول التي أقيمت على استباحة الدم واتسمت بالعنف والقسوة فيقود بنفسه حملة عسكرية بأمر من أخيه منكوفا الذي اصبح وريث العرش لغزو بلاد فارس والقضاء على حكم الاسماعليين لكن في حقيقة الأمر كانت إطماع المغول السيطرة على معالم الشرق وعواصم المسلمين المتحضرة فوجدا بوحشية هولاكو وتلذذه بالقتل وسيلتهم التنفيذية فسار بجيش جرار قوامه 120 ألف مقاتل وثني لا تعرف قلوبهم الرحمة فاخضع الدول المجاورة في طريقه ليصل إلى قلاع الإسماعيلية& ويدكها بالمجانيق والسهام الحارقة لتهوى تحت سطوتهم ليزحف بجيشه نحو عاصمة الخلافة العباسية بغداد درة الدنيا ومركز الحضارة في العلم والأدب والفن والطب لكن من سؤ طالعها إن يتولى الخليفة المستعصم اضعف خلفاء بني العباس زمام الأمور في السلطة والحكم تاركا لملذاته وفتوره وانفلات الأمور من بين يديه لقمة سهلة للخونة والمترددين في الدفاع عن الخلافة الإسلامية أمثال ابن العلقمي الذي كان وزيره ومرشده ودليله في الحكم والمشورة بإطماعه ودهائه الخبيث إن يغيره بكثير من الحجج بدأت من تخفيض الجيش إلى مستو متدن رغم معارضة قائد الجيش العربي المخلص مجاهد الدين ايبك الذي كان يرفض المهدانة والتفاوض ويشجع الخليفة على التصدي والمقاومة حتى قتله المغول في أول معركة عند أسوار بغداد ولكي يتخلص من المستعصم أشار عليه للتفاوض مع هولاكو في إشارة خفية لتعاونه سرا على الخيانة حيث مالبث إن أخرجه من بغداد بموكب مع أولاده وحاشيته ووجهاء قومه نحو معسكر المغول فكانت الفرصة سانحة للسفاح وبمشورة خائن أخر هو العلامة نصير الدين الطوسي بضرب أعناقهم و ترك الخليفة ملفوفا داخل بساط تدوسه الخيول في الصحراء حتى مات غما بعد إن شاهد بأم عينيه القتلة البشعة لولديه .
دخل هولاكو بغداد عام 656 هجرية الموافق 1258 م بجيش جرار همجي فأوقعوا فيها مليون قتيل فلن ينجوا من شرورهم الشيوخ والنساء والأطفال والمكاتب والمساجد والقصور أربعون يوما اصبح لون نهر دجلة بين احمر قاتم وبين سواد الحبر وطوفان الكتب فيما تلذذت الكلاب بلحوم البشر المتروكة في الطرقات والأزقة دون إن تجد من يواريها التراب لينتهي عصر الخلافة العباسية وتضيع معها آلاف الكتب التي دونت العلوم والأدب والطب والفن والتاريخ وغيرها دون إن يتحرك العرب لنصرة خلافتهم بل سارعوا لتقديم الولاء والطاعة لهولاكو الذي أذلهم حتى وصل الحال بهم إن يرسم أحد الولاة صورته على حذاءه للتعبير عن امتنانه للنصر الذي حققه والرعب الذي استولى عليه والخوف من ضياع الملك في حين يرسل الملك الناصر ولده العزيز لحث هولاكو بمساعدته لقتل المسلمين فخرج بجيشه إلى ميافارقين عاصمة الملك الكامل الأيوبي التي قاومت حتى نفاذ المؤن فدخلها السفاح فقتل بوحشية جميع المقاومين ثم وضع راس الملك فوق الرمح ليشيع الهلع ويسير به جنده بين المدن حتى وصلوا إلى ماردين وكانت بحكم الملك السعيد فحاصرها ثمان اشهر ثم استمال ابن الملك فأغراه بالحكم فقتل هذا والده الملك وأباح لهولاكو دخول المدينة بعد أن ضعف إرادة المقاتلين نتيجة الخيانة .
بعد هذه الانتصارات اسقط المغول نصيبين وحران والرها واتجه نحو حلب فحاصرها بعد إن رفض السلطان المعظم الاستسلام وضربها بالمنجنيق حتى سقطت واستباحها هولاكو بجنوده فقتل ونهب حتى تركها بقعة من الدخان والرماد متجها إلى دمشق التي استسلمت بعد معارك شرسة كان أبطالها أبناء دمشق اثر هروب الملك الناصر ليترك المدينة والجميع لمصيرهم المحتوم مما سهلت له الأرض بالتقدم نحو نابلس وغزة فاستولى عليهما دون مقاومة ليعسكر بجيشه استعدادا للهجوم على مصر وهي في عهد المماليك .
وفي هذه الأثناء طلب الإمبراطور منكوفا الذي كان يصارع الموت من هولاكو العودة مسرعا لحل الخلاف الحاصل بين أخويه للاستئثار بالحكم لكنه قبل إن يقدم على السفر أرسل برسله إلى السلطان قطز حاكم مصر يطلب منه الاستسلام فما كان منه ألا إن قتل رسل هولاكو وارسل برؤسهم لمعسكره وجمع جنده بقيادة بيبرس واتجه إلى عين جالوت بفلسطين ليبادر بالهجوم على المغول دون انتظار المساعدات بعد إن جزع من خوف الأخريين فحقق النصر المؤزر وسحق قادة هولاكو جميعا حتى طرد المغول من الشام ووصل إلى نهر الفرات يتعقب فلولهم فما كان من هولاكو ألا تجهيز حملة أخرى نحو حلب لكنه هزم قرب حمص لتنتهي إلى الأبد أسطورة السفاح هولاكو الذي أذاق البشرية الدمار والخراب والقتل .&
إذ فان مساحة وفضاء هذه الأحداث الواسعة تحتاج بالتأكيد إلى تمرس ذهني حاد وصياغات نبه لصيرورة الوقائع ودموية المواقف لان الإفادة من غلالة التاريخ عند المؤلف تمثلت في قدرته على طرح إشكاليات الواقع بكل عمق ووضوح عبر إقامة مساجلة مع الشخصيات بمواقفها وأفكارها وافعالها وتناقضها فيحشد لهذه الفسيسفاء الملونة لغة وخطاب مشترك أخيار واشرار وبمصالح متناقضة ورؤى متقاطعة وبثنائيات متعددة الجوانب يجمع بينهما عامل التورية كلن حسب حضوره التاريخي فيجهز بالتالي على الخروج من شرنقة السرد إلى شحنته التخيلية بنفس الوعي الجمعي فيجعل المشاهد ليس مراقبا فحسب بل مشارك بكل جزئيات هذه الأحداث فالأمكنة والشخوص هم ضمن سياق الفضاء الموجود فيه .
ومع كل هذه الحرفية فان المؤلف لم ينجو من تكرار تناقض الثنائيات التي كانت أحيانا خارج نطاق السياق والفضاء وعذره بالتأكيد مط المسلسل إلى هذه المساحة ليكون كافيا لسهرات ليالي رمضان الكريم فيما كان يجب التركيز على اعظم واشمل للدمار الذي أحاط المدن الإسلامية على يد المغول واذكر منها قصة الشاب المسيحي وعلاقته مع الغجرية كذلك الشاب نزار الذي كان مهموم بزوجته اكثر من قضيته .
وقد أكون منصفا حينما اعترف باني لم أشاهد سابقا عملا دراميا للمخرج المبدع باسل الخطيب وهذا تقصير مني بالطبع بعد إن وجدت فيه فنان بحرفة عالية استطاع إن يلملم هذه الأحداث الكبيرة وبمساحة مكانية وزمنية متعددة الرؤى والأشكال ويخرج من الوحدات الدرامية المعروفة إلى التفسير المنطقي لجميع أحداثه دون إن يهمل الحقيقة التي تبنى عبر ذاكرة الشخصيات بحيث لا يجعل منها راوية ضمن مستويات السرد المتعدد في النص بل تبدو وكأنها تجري ألان أمامنا.
وهذه الحقيقة وان افتقرت إلى تحقيق جمالية المعارك واحتدام القتال فانه كمخرج محترف كان يتدارك ضعف التوصيف بالذاكرة الانفعالية للمشاهد فيلجا للحيل البصرية التي تعطي هذا الانطباع فيما منح المشهد تدفقا حسيا وجماليا بفوضوية قادرة على التنظيم واعادة السكون الرمزي إلى النظارة وهو بذلك يحقق معادلة التمايز بين كثافة الإيحاء والأخبار والدلالات اللغوية في بنائية المسلسل .
قد لا اتفق مع أداء الفنان ايمن زيدان بدور هولاكو الذي بالغ كثيرا في تحقيق التكامل النفسي والجسماني للشخصية وغرق في تخدير نفسه طوال أحداث المسلسل في حين إن إرادة هولاكو كانت واعية للتدمير والخراب والموت مع انه قادر على مسك زمام الشخصية فيما كان غيابه عن المشاركة في المعارك ثلما المسلسل , إن ايمن زيدان فنان كبير لكن يبدو أن انشغالاته المتعددة بدأت تأخذ حيزا من موهبته لقد ترك انطباعا لدي انه كان يقرا المشهد إثناء التصوير ،لكني اقف عند أداء هاني الروماني& وحسن عويتي وزياد سعد والفنان التونسي المتألق فتحي الهداوي وزوجتي هولاكو جيانا عيد ونورمان اسعد كذلك الفنان داوود بدور مجاهد الدين الذي جسد كل ملامحه .
نعم آن مسلسل هولاكو كان الأفضل ويستحق كل الإشادة رغم هذه الملاحظات التي أشرنا أليها انه امتلك حرفيته وحاول بكل أمانة إن يوصل رسالته للمشاهد العربي ويملئ علينا دفع فاتورة الخدر والتشتت .&