الحب كله‏..‏ إنت عمرى‏..‏ حيرت قلبى‏..‏ ليلة حب ‏..‏ ودارت الأيام‏..‏ الأطلال‏..‏ أمل حياتى‏..‏ يامسهرنى‏ .. هوا صحيح الهوى غلاب .. الحب كله‏..‏ حبيته فيك‏..‏ وزماني كله أنا عشته ليك زماني كله‏..‏ حبيبي قول للدنيا معايا‏..‏ ولكل قلب بدقته حس‏..‏ يا دنيا حبي وحبي وحبي‏..‏ ده العمر هو الحب وبس‏.
بهذه الكلمات وعشرات غيرها شدت بها أم كلثوم لتصل إلي ملايين القلوب ويرددها العشاق في كل أنحاء الوطن العربي‏.‏ وكانت ولازالت بصوتها تحلق بالروح إلي عالم ساحر من المشاعر‏.‏ والحديث عن كوكب الشرق لن ينتهي‏,‏ ودارت الأيام ومرت ألف ليلة وليلة ظهر خلالها أجيال جديدة من المطربين لكن لم يعش أي منهم في وجداننا كما عاشت أم كلثوم‏، ولم يتفق العرب على شخص مثلما اتفقوا على هذه الفلاحة الدؤوب التي تبدو مثل جبل يغني، قامة تتضاءل أمامها كل الأصوات والكلمات ومحاولات نبش القبور.
فلم تعد (الست) مجرد مطربة، بل صارت دنيا كاملة عاصرت عهودا ثلاثة، الملكية والثورة وعبدالناصر والسادات، غنت للملك وغضب عليها، وغنت للثورة ومنعوا اغانيها، ورغم ذلك لم يرتبط نجاحها بالحكام من قريب او بعيد، بل ذهبوا جميعهم وبقيت (ثومه) حية رغم الغياب، وشريكاً فاعلا في كل قصة حب وكل لحظة يرق فيها القلب او يدق.
صناعة نجم
وأم كلثوم حالة نموذجية لصناعة النجم بجهود ذاتية يقف وراءه شيخ فقير كل ما يملكه في الحياة هو كرامته وإصراره علي النجاح‏,‏ وهو والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي‏.‏ وأم كلثوم ولدت كما أجمع عدد كبير من المؤرخين يوم‏30‏ ديسمبر عام‏1898,‏ بقرية طماي الزهايرة مركز السنبلاوين محافظة الدقهلية‏.‏ وهناك روايات أخري تقول أن تاريخ ميلادها هو‏4‏ مايو عام‏.1904‏ وإسمها الحقيقي فاطمة وأطلق عليها والدها إسم أم كلثوم تيمنا بإسم إحدي بنات النبي‏(‏ص‏).‏ والتحقت بكتاب القرية وعمرها خمس سنوات وقضت به ثلاث سنوات اتقنت خلالها حفظ القرآن وتجويده‏,‏ وقد ساعدها ذلك علي سلامة النطق وفصاحة اللسان‏.‏ واكتشف والدها الذي كان يقوم بغناء التواشيح الدينية في المناسبات المختلفة بالقرية موهبة أم كلثوم المبكرة‏,‏ وأدرك أنها هبة من السماء‏.‏وأصبحت بالفعل فيما بعد هي نجمة فرقة الإنشاد الديني المكونة من الأب والأخ خالد والعم وبعض الأقارب‏.‏
وبدأت أم كلثوم رحلة الفن من السفح وشقت طريقها في الصخر بأظافرها‏,‏ وانتقل صيتها من القرية إلي المركز إلي المديرية حتي طافت كل قري مصر علي ظهر حمار للغناء‏.‏ ثم وصلت إلي العاصمة واستقرت بها نهائيا عام‏1923‏ بناء علي نصيحة الشيخ أبو العلا محمد أشهر مطربي عصره والذي كان قد سمع أم كلثوم قبل ذلك باحدي الحفلات في مركز السنبلاوين‏، وتعهدها الشيخ أبو العلا بالرعاية ودربها علي الغناء ولحن لها أكثر من‏50‏ لحنا وظل يرعي خطواتها الأولي حتي توفي.
ويرجع للشيخ أبو العلا الفضل في انتقال أم كلثوم من مرحلة غناء القصائد الدينية إلي الغناء العاطفي الراقي‏.‏ كما عرفها علي شاعر الشباب أحمد رامي عام‏1924‏ ومنذ ذلك الوقت لم يفترقا وكتب لها رامي حوالي‏30‏ أغنية‏,‏ عكست قصة حبه العميقة تجاه أم كلثوم‏.‏ كما يرجع الفضل إلي رامي في تثقيفها وامدادها بما يلزمها من كتب الأدب ودواوين الشعر ووصل تذوقها للشعر إلي حد أنها كانت تستطيع ببراعة كاملة استبدال الكلمات الثقيلة علي الأذن بكلمات أخري بسيطة‏.‏
نقلة نوعية
واذا رسمنا صورة كلية لما قدمته أم كلثوم للغناء العربي فإننا نستمدها مما قالته هي بنفسها (اعتقد أن اهم ما يمكن ان يكتب عني بعد موتي انني نقلت الجمهور من أغاني (ارخِي الستارة اللي في ريحنا أحسن جيرانا تجرحنا) الى مستوى رباعيات الخيام, وأم كلثوم صادقة جدا في مقولتها لانها ساهمت في الارتقاء بالوجدان العربي, وعلى مستوى الكم قدمت أم كلثوم 289 أغنية, وكانت أول أغنية (الصب تفضحه عيونه) عام 1924 من تأليف أحمد رامي ولحن أبو العلا محمد, أما آخر أغنية فكانت عام 1973 بعنوان (ليلة حب) تأليف أحمد شفيق كامل ولحن محمد عبد الوهاب وقد غنت أم كلثوم للعديد من الشعراء العرب وكتب لها بيرم التونسي 33 أغنية وأحمد رامي 152 وأحمد شوقي 15 وغنت لابراهيم ناجي وجورج جرداق والأمير عبد الله الفيصل ومرسي جميل عزيز وحافظ ابراهيم وغيرهم
أما الملحنون الذين وضعوا ألحان أغانيها فعددهم كبير إذ لحن لها السنباطي 12 أغنية ومحمد القصبجي 89 وزكريا أحمد 72 وداوود حسني 15 وبليغ حمدي 15 ومحمد عبد الوهاب 11 وأبو العلا محمد 10 ومحمد الموجي 9 وكمال الطويل ,3 وأم كلثوم شاركت بالتمثيل والغناء في ستة أفلام هي (وداد) عام 1936 و(نشيد الأمل) 1937 و(دنانير) 1940 و(عايدة) 1942 و(سلاّمة) 1945 و(فاطمة) ,1947 وكانت آخر حفلة قدمتها أم كلثوم مساء الخميس 7/12/1972 في سينما قصر النيل بعدها بثلاث سنوات رحلت عن الدنيا, وكتب الدكتور طه حسين ان أم كلثوم بصوتها النادر في امتيازه سواء في الجمال أو في سلامة نطق العربية ساهمت عندما غنت القصيدة في اثبات جمال اللغة وطواعية موسيقاها حتى في أصعب الكلمات لموسيقى الغناء
وكان لصوتها فضل في انتشار الشعر العربي على ألسنة العامة والخاصة, وكتب نجيب محفوظ (كانت أم كلثوم فنانة عبقرية وانسانة عظيمة, تتبين عظمتها الانسانية في التزامها بالمبادئ السامية مثل الأخلاق والوطنية والقومية والانسانية, وهذا تفسير للزلزال الذي احدثه موتها والذي لايكون عادة إلا للقادة والزعماء وهي بذلك تمثل خير ما أعطته للتاريخ ألا وهو الفن الخالد والضمير الحي) وكتب شارل ديجول يقول : " لقد لمست بصوتك أحاسيس قلبي وقلوب الفرنسيين جميعاً ".
مراحل فنية
ومراحل أم كلثوم الفنية تنقسم إلي مرحلة مبكرة لحن لها فيها الشيخ أبو العلا محمد وأحمد صبري النجريدي ومحمد القصبجي‏,‏ ثم مرحلة متوسطة في الأربعينيات وأوائل الخمسينيات وهي المرحلة التي تولي التلحين لها فيها زكريا أحمد ورياض السنباطي‏.‏ أما المرحلة الفنية الحديثة فغنت فيها أم كلثوم ألحان الموسيقار محمد عبد الوهاب ومحمد الموجي وبليغ حمدي وكمال الطويل وسيد مكاوي‏.‏
وكان أول لقاء لأم كلثوم وعبد الوهاب عام‏1964‏ في أغنية إنت عمري‏,‏ كلمات أحمد شفيق كامل وأطلقت الصحافة علي هذا اللقاء لقاء السحاب‏,‏ ويقال أنه كان بأمر رئاسي من الزعيم الراحل جمال عبد الناصر الذي ابدي رغبة قوية في أن يجمعهما عمل فني واحد‏,‏ وقد نجحت أغنية أنت عمري نجاحا منقطع النظير ولازالت حتي الآن تتصدر قائمة أفضل الأغاني‏.‏
وكان موسم سيدة الغناء يبدأ بالخميس الأول من ديسمبر وينتهي بالخميس الأول من يونيو اي‏7‏ حفلات سنويا‏,‏ وقد بدأت هذا النظام منذ عام‏ 1935‏ عندما افتتحت الإذاعة المصرية حفلاتها الخارجية بنقل حفل لأم كلثوم‏,‏ واستمر حتي آخر حفل أحيته يوم‏7‏ ديسمبر عام‏ 1973‏ وانسحبت بعد ذلك من الساحة الفنية بعد أن اشتدت وطأة المرض عليها حتي وفاتها في‏3‏ فبراير عام‏1975‏
صوت العرب
وكانت حفلات أم كلثوم يوم الخميس تعتبر حادثا وطنيا في مصر وكل أنحاء الوطن العربي‏.‏ وكان يحضر إليها الجماهير العرب خصيصا للإستماع إليها‏، فالذين فرقتهم السياسة أحيانا جمعتهم أم كلثوم دائما حول صوتها‏,‏ وكأن للوجدان كما للأرض قانونا للجاذبية‏، وهناك ظاهرة رئيسية تستوقف الذين عاصروا أم كلثوم وكتبوا عنها‏,‏ الا وهي حسها الوطني
الذي ترجمته عملياً في كثير من الأغاني الوطنية التي غنتها قبل وبعض الثورة‏.‏ وتجلت وطنيتها في أورع صورها عندما أصابت الجراح مصر بعد نكسة‏1967‏ واعتصرت الأحزان قلب أم كلثوم ورأت أن لاتقف عند حدود التبرع بالمال وقادت حملة لجمع التبرعات من أجل المجهود الحربي وإعادة تسليح الجيش المصري‏.‏ وفي بداية عام‏1968‏ أقامت أم كلثوم الحفلات من أجل هذا الغرض وخرجت تطوف الدنيا من المحيط إلي الخليج وغنت في معظم الدول العربية حيث كانت تستقبل استقبال الملوك‏,‏ كما كانت أول مطربة عربية تغني علي مسرح أوليمبيا أشهر مسارح باريس‏,‏ وتمكنت خلال عام واحد من جمع مليون جنيه
حياتها العاطفية
وحياة أم كلثوم العاطفية تلخصها كلماتها لأحمد رامي وهي علي فراش الموت‏:‏ لقد وجدت دائما صعوبة في الخضوع للرجال لأنهم كانوا دائما عند قدمي‏.‏ و كان في حياتها أربعة رجال هم أحمد رامي ومحمد القصبجي وكان حبهما من طرف واحد‏.‏ وفي عام‏1946‏ أعلنت خطبتها علي الملحن الشاب محمود الشريف والذي يؤكد البعض أن زواجهما تم بالفعل‏,‏ ولم يستمرسوي عدة أيام بسبب استنكار الرأي العام له بشدة‏,‏ والحقيقة أنه كان الحب الحقيقي في حياتها‏.‏ وفي عام‏1952‏ تعرفت علي الدكتور حسن الحفناوي وأحبته وتزوجته وكان متزوجا ويصغرها بـ‏17‏ عاما‏,‏ ولم يعلن زواجهما سوي في عام‏1954‏ واستمر حتي وفاتها‏.‏
وعظمة أم كلثوم ترجع إلي موهبتها الفطرية وصوتها الذهبي الذي وهبها لها الله وتؤكد الأبحاث العلمية أنه فريد من نوعه من حيث القوة وتعدد طبقاته‏,‏ كما برعت في فن التمثيل ومثلت ستة أفلام ناجحة من عام‏1936‏ حتي عام‏.1945‏
متحف الست
وبعد مرور 28 عاما على رحيلها، واكثر من مائة عام على مولد سيدة الغناء العربي التي أبصرت النور في 30 ديسمبر 1898 بقرية طماي الزهايره بمحافظة الدقهلية ورحلت في الثالث من شباط (فبراير) 1975 عن 79 عاما , وإذا كان العمر الانساني يقدر بميزان السنين فإن أم كلثوم قد طبعت اسمها على صفحة الخلود بما قدمته من فن خالد يضم بين جناحيه أسرار الجمال والجلال, وبهذه المناسبة أقامت دار الأوبرا متحفا فنيا يضم 41 صورة فوتوغرافية نادرة لها, وتنقسم الصور الى عدة أقسام فهناك قسم خاص بالبوتريهات التي تمثل حياة أم كلثوم في مراحلها العمرية المختلفة ويضم هذا القسم بورتريهات, وصورا خاصة لأم كلثوم مع رؤساء مصر محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات
أما صورها مع الفنانين فلها مذاق خاص فها هو عبد الحليم حافظ يقبل يدها وتقبلها فاتن حمامة من خدها بينما تنحني عليها فيروز في بسمة فرح بارزة وتحتضن وجهها بيديها, وصورة لها مع محمد عبد الوهاب يضحكان ضحكة مشتركة, أما فريد الأطرش فتبدو صورتها معهه وكأنهما في حديث جاد, وفي صورة مع الفنان التشكيلي صلاح طاهر تبدو أم كلثوم من خلفه بينما يمسك بريشته ويرسم بورتريها لها, وتستمر الصور النادرة مع فاتن حمامة وسليمان نجيب وعباس فارس وأنور وجدي وعبد الوارث عسر وماري منيب, اضافة الى صورة نادرة لأم كلثوم مع فريق المكياج الخاص بها وهم يضعون لمساتهم الجمالية, ونراها ايضا وهي تصلي وأخرى مع طه حسين وزوجته والملك حسين وغيرهم.
ثومة والملوك
وفي رحلات ام كلثوم الى البلاد العربية وتحديدا في عام 63 كما يروي محمد نصر الدين عازف الكمان بفرقتها: قامت بزيارة الى دولة الكويت واستقبلها الامير الدعيج الصباح وزوجته في قصرهما لشدة اعجابهما بها· وفي تونس كان الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة يحرص على استقبالها وزوجته، ولشدة اعجابه وتقديره لها قام باطلاق اسمها على شارع رئيسي بتونس· ويضيف نصر الدين: ولا انسى زيارتها الى ليبيا وقت حكم الملك السنوسي وكان في استقبالها بالمطار وزير الاعلام، وقام وقتها بالسير امامها تاركها تمشي وراءه وهنا تأثرت نفسيتها كثيرا من هذا الموقف.
أما عن رحلات ام كلثوم الى المغرب فحدث ولا حرج، فقد كانت تلقى ترحيبا كبيرا من الملك الراحل الحسن الثاني، وفي احدى المرات اراد الملك الحسن سماعها هو وأسرته وفي فندق ضخم قدمت أم كلثوم وصلتها الغنائية وكانت الصالة مظلمة لان العائلة المالكة جلست في البناوير وفوجئنا برجل يرتدي قميصا وبنطلونا يجلس في الصف الاول، وعندما دققنا النظر وجدناه الملك الحسن الثاني وعند انتهاء وصلتها الغنائية كانت تستعد لارتداء كاب بعد مجهود الغناء ففوجئنا بالملك الحسن فجأة قافزا لاخذ الكاب من الكرسي ومساعدتها في ارتدائه· وقالت وقتها: "المقامات محفوظة ياجلالة الملك".واذكر في هذه اللحظة ان المصور فاروق ابراهيم التقط صورة للملك في هذا الوضع ولحظتها قفز احد الواقفين بجوار الملك وهو الجنرال بوفقير، واشار للحرس فقاموا بحمل المصور والكاميرا وابعدوه خلف الستار· فقالت ام كلثوم للملك الذي أمر باعادة المصور الذي عاد بالكاميرا لكنها كانت بدون الفيلم.
اما العاهل الأردني الراحل الملك الحسين بن طلال فقد كان يحرص على حضور حفلات ام كلثوم بمصاحبة الرئيس عبدالناصر ولما كانت الحفلات تستمر حتى الرابعة صباحا فقد كان الملك يظل على شغف بالاستماع حتى هذا الوقت لدرجة ان عبدالناصر لفت نظر الملك الى ان عينيه احمرتا من كثرة الاستماع.
وأخيراً ..لاتزال أغنيات أم كلثوم والتي يصل عددها إلي‏300‏ أغنية هي النبع الصافي فقد غنت للحب فأبدعت وانتزعت الآهات من الصدور‏,‏ وغنت للوطن فشمخت بها الأغنيات الوطنية وقدمت الكلمة العامية فخلبت ألباب السامعين‏,‏ وشدت بالفصحي فجعلت منها لغة بسيطة يرددها رجل الشارع‏,‏ ولذلك استحقت عن جدارة صيحة الجماهير الموحدة والتي كانت تنطلق بعفوية في كل حفلاتها‏:‏ عظمة علي عظمة يا ست‏.‏
رحمنا الله يا ثومه بعدك.. كم صارت آذاننا يتيمة