عبد المنان خلباش
&

قبل انجاز ومشاهدة العمل الجديد لمنصور الرحباني تحت عنوان"ملوك الطوائف" ذهب الكثيرين الى التوقع ان ما يتناوله العمل المزكور تيضمن بعض ما اصاب لبنان من نزعات سادت المجتمع البناني في العقود الاخيرة. ولكن سرعان ماتبين ان منصو الرحباني يأخذنا الىالأندلس من خلال "ملوك الطوائف"بكل اجوائه الشاعرية والغنائية والحضارية، مسلطاً الاضواء على مرحلة تاريخية حرجة ودقيقة سادت الدويلات العربية في الاندلس التي بلغت نحو 22 دويلة والتي تعرضت لحا لات من الابتزاز وسياسات شبيهة ما تتعرض لها الدول العربية الآن. وذلك من خلال سياسات و دهاء ملك كاسيتيليا الفونسو الساد س الذي كان يتمتع بنفوذ و سلطة واسعة، مدركاً في الان ذاته، كيف يستأثر بملوك الدويلات العر بية في الأندلس التي كانت تسيطر على أجزاء واسعة وسلطة قوية في تلك البلاد.
هذا المسار، في اعمال منصور الرحباني والعا ئلة الرحبانية ليس بجديد من خلال تاريخهم الفني العريق طيلة عقود طويلة من الخلق الفني والابداع .اذ كثيراً ما لاحظنا اعمالاً لهم في الشأن ذاته، حيث يتم استحضار التاريخ بأحداثه و عناصره و دلا لاته و رموزه في قراءات لحالات راهنة بكل ابعادها وتعقيداتها واشكالاتها المختلفة.ولكن كيف يمكن للتاريخ ان يفرض نفسه و بقوة كما يحصل في "ملوك الطوائف"والتي تشكل مثار اهتمام شعبي واسع؟ والى اي حد يمكن ان يتشابك او يتاقطع التاريخ مع الواقع الراهن بكل خطوطه وتجلياته؟ ولطا لما ان هكذا أمور تم اثارتها كثيراً مع منصور الرحباني فانه نفسه لا يدري، كيف يفرض موضوعا أو مادة تاريخية يفرض نفسه في فترة من الفترات عليه بقوة و يبدأ العمل به عندما يرى نفسه فيه؟
ويتميز الأعمال التي قدمتها العا ئلة الرحبانية في هذا النطاق، مدى قدرتهم علىالأمتلاك والتشبث بعناصر وشروط الأمانة التاريخية و كذالك تناول التاريخ بحساسية وأمانة فائقة, من دون العبث بالتاريخ وخطوطه العريضة كما يحصل عند البعض من القائمين على الساحة الفنية وبذالك فانهم يرمون التاريخ في حبال و شباك "الفنتازيا التاريخية" كهروب من المواقف والمسؤلية التي تقع على عاتقهم في مقاربة القضايا المصيرية والحساسة في و جدان الانسان والمجتمع.
والملا حظ، أن استحضار بعض الفترات التاريخية، لا يمنع من الخلق والابداع الفني بمعانيه السامية وخاصة في هامش تاريخي أو "ظلال تاريخية" في مجال بناء العمل الفني و تقديمه بشكل ابداعي لائق وكما يجب أن يكون. ويشار ان استحضار التاريخ لا يشكل ها جساً أو هدفاً ملموساً وانما يكون بالقدر ذاته كوسيلة يبرز من خلالها ابراز العناصر الجمالية والغنائية والحضارية كما لا يتم التردد مطلقاً في جعل ذلك كمرأة لرؤية الواقع الراهن بكل عيوبه و نواقصه وعلاته ومن دون الوقوع في مطبات تاريخية تشكل كعائق من العوائق في وجه العمل الدرامي أو الفني بل يصح عنصراً فاعلاً في اللعبة الفنية ضمن اطار العمل المسرحي بشكل عام ,كما هو حاصل في"ملوك الطوائف". ان الادراك العميق والواسع للمعاني التاريخية والجمالية لمرحلة الأندلس بطبيعتها الساحرة والشاعرية ومدى تأثيرها على الطبيعة البشرية والتي انعكست على التراث الأدبي والفني العربي بأسره، ساعد الى حد ما منصور الرحباني في استملاك العناصر الضرورية للنجاح في خلق الأجواءو ابراذ الشخصيات المختلفة بأقوى صورها وابعادها . كما هو الحال مع ملك اشبيلياالمعتمد بن العباد ثالث و اخر سلاطين بني العباد (1040-1095) الذي يمثله غسان صليبا و الذي يكون حاكماً لا شبيليا وعاشقاً وشاعراً وكذلك شخصية الملكة والتي تمثلها كارول سماحة التي تجمع صفات الرقة والشاعرية والعذوبة والقوة من دون أن تنسلخ عن ما ضيها الاجتماعي قبل أن يغرم بها الملك والتي كانت خادمة أو غسالة في البيوت.
وباعتبا ر ان العمل المسرحي يدور في لحظة تاريخية حرجة من التاريخ العربي فا ننا نصادف الكثير من الحوادث والمؤمرات والخيانات والهزائم وما الى ذلك ...ومن دون أن ننسى، اننا نقف احياناً كثيرة وجهاً لوجه امام مسائل و أمور ذات اهتمام آني ,كحالات الشقاق الداخلي والنفوذ الخارجي والألا عيب والدسائس السرية ضمن أساليب فنية راقية تجمع بين الطرافة أحياناً والمتعة والاندهاش أحياناً أخرى. ورغم كل الانتصارات التي يحصدها المعتمد بن عباد آنذاك، فانه لا يسلم من ثقل ووطأة الظروف المحاطة به من كل جانب وبالرغم من مقدرته غلى تحرير قرطبة والسيطرة عليها الا انه سرعان ما يصطدم بالبربر المغاربة الذين يستميلون الى جانب الملك الفونصو الساد س في وجه العباد. عندها تتجه الأحداث الى أن يجبر المعتمد بن عباد ان يترك اشبيلية للرحيل عنها وبذلك يعجز معظم ملوك الدويلات، عن الوقوف في وجه الملك الفونسو السادس ويتم اخضاعهم جميعاً واحداً تلو الآخر كثمن لتشتتهم واغراقهم في النزاعات الهامشية العقيمة والتي نشبت فيما بينهم في تلك الفترة.
ويقنعنا منصور الرحباني, سبب ما آ لت اليه الأمور في الأندلس عبر مشهد مثير و هو مشهد "القمة"الذي له الكثير من الدلالات و الا شارات والمعاني التي تتجسدها، عندما تتحول "القمة" الى مشهد شبيه لحفلات الزجل وذلك بعد الفشل الذي يصيب "ملوك الطوائف" في التوصل الى حلول عبر منا قشا تهم وأحاديثهم في "القمة"
ويتفاعل كل عناصر المسرح التاريخي الغنائي من الاخراج المتألق لمروان الرحباني وكذلك الاضاءة التعبيرية المستمدة مادتها من كل ما له علاقة بالأ ندلس والتي وفرها بكل جدارة و دراية بالتلاؤم و الانسجام عبر الاضاءة الشعرية لكل المواقف ولحالات التي تطرأعلى أجواء العمل.وهنا لا يمكننا أن ننسى الأهم هو التلاقي الرائع بين كاتب العمل و المخرج و كثير من الرموز الفنية في لبنان و المعروفين في ساحة المسرح الغنائي مثل غسان صليبا وكارول سماحة ونادر خوري و زياد سعيد و و بول سليمان و ريتا دكاش و ما الى ذلك...
وبذلك، طالما أن العائلة الرحبانية مازالت تزدهر بالعطاء الفني و الابداعي, كما كانت من قبل، وبمقارباتهم الرائعة لموضوعات, تستأثر باهتمام الانسان العربي .فمن الطبيعي أن يبقى الجمهور العربي، كما كان متعطشاً للفن و الابداع الرحباني وكل فن أصيل و راقي يكتسب مستوى عال من المسؤولية التاريخية لدى مقاربة القضايا التي يتم طرحها و التي تلقى اهتماماً بالغاً وشعبية واسعة من المجتمع بأسره.