عبد الله كمال
&
&
&&& لو أننى أعيش خارج مصر، وقرأت ما كتبه الدكتور سليم نجيب، أحد أقباط المهجر، مقرونا بصفته الحالية كأستاذ للقانون فى كندا وبصفته السابقة كقاض، لصدقته وربما سقطت فى فخ الخديعة .. وتصورت أن هناك تحريضا عنصريا منظما يتم فى هذا البلد، وأن القاصرات القبطيات لا يستطعن أن يقبضن على دينهن، وأن الناس فى هذه الدولة يختطفون الفتاة قبل أن تبلغ سن الرشد.. لكى تتحول عن عقيدتها وتؤمن بغيرها إجبارا «!!»
&& لكننى والحمد لله أعيش فى مصر، وأرى بعينى ما يجرى فى بلدى، لا أطالع وقائعه من خلال البريد الإلكترونى، ولا أعرف ما يدور فيه من شرنقة بعيدة ومعزولة، ولا أضيف إلى ما أسمعه خيالات غير حقيقية، ثم أبدأ فى الكتابة عن كل هذا وكأنه وقائع ثابتة وموثقة لا تقبل النكران .. ولا أتوقف عند هذا الحد .. بل أوجه نداءات صاخبة إلى رئيس الجمهورية وأطرح فى أسى مفتعل على الجميع تساؤلا عجيبا عنوانه «أين ضمير مصر؟».
&&& ضمير مصر لم يضع، ولسنا فى حاجة إلى خطب رنانة أو بلاغة إنشائية لإثبات ذلك، فوعيها الليبرالى قائم، وروحها المتسامحة ثابتة، ومبادئ حرية العقيدة راسخة فى وجدانها ويعبر عنها سلوك مواطنيها فى& كل لحظة، ولا شك أن مقالا هنا أو هناك لن يؤثر فى هذا السياق الحضارى الممتد تاريخيا والضارب بجذوره فى أعماق السنين. لكن تفجير بعض القضايا المختلقة من فراغ يطرح تساؤلات عديدة حول صدق ونزاهة نوايا بعض الأصوات، فيما إذا كانت تريد فعلا أن تشارك فى بناء هذا الوطن .. أم أنها تصر على أن تقذف بلادها بالطوب من خارجها.. بدعوى حماية العقيدة الدينية التى لم تمس من الأصل.
***
&& هناك خطأ منهجى أساسى وثابت فى طريقة تعامل بعض الأصوات الزاعقة التى تقدم نفسها على أنها متحدثة باسم أقباط المهجر .. ورؤساء هيئاتهم المتنوعة .. وهى هيئات لا نثق حقا فى أن لها وجودا تنظيميا شاملا .. بالمعنى التنظيمى الحقيقى الذى يتجاوز حدود هؤلاء الأشخاص، وهم بالمناسبة لم يتغيروا منذ سنوات .. ولا يتجاوز عددهم بضعة أسماء هنا وهناك. هذا الخطأ هو أنهم يتصورون أن ما يقومون به إنما يساهم فى فرض مناخ التسامح فى حين أن ما يفعلونه إنما يؤدى إلى بث بذور الفرقة والكراهية .. لو لقى خطابهم هذا أية استجابة، لكنه بالفعل لا يلقى .. وبياناتهم ورسائلهم ومقالاتهم لا تؤثر فى أحد.
&& على سبيل المثال ، لو أننى - افتراضا - مواطن قبطى، وقرأت بعض ما يقال لأدى هذا إلى استفزاز شعورى الدينى، ورسخ داخلى إحساسا بالاضطهاد، بنى على أساس غير سليم. ولو أننى مواطن صعيدى وصدقت مثل هذه المعانى غير الموثقة عن اختطاف قاصرات صعيديات لتولد لدى شعور معاد للآخر.. وهو مما لا شك فيه ما يؤدى إلى عكس ما يقول هؤلاء المدافعون عن أقباط مصر من خارج مصر.
&& لا توجد أى شرعية قانونية أو سياسية تدعم هؤلاء فى أن يتحدثوا باسم أقباط مصر .. وحتى تصديهم للموضوعات المختلفة باعتبار أنها شأن عام أو أنهم نشطاء فى مجال حقوق الإنسان لا يستند إلى معلومات دقيقة .. وكل ما يرددونه يفتقد إلى التوثيق وترد عليه حقائق الواقع.
&& وفى هذا السياق فإننى لا أظن أن قاضيا سابقا مثل الدكتور سليم نجيب، وخبيرا فى القانون يمكن أن يستند إلى قصص خيالية غير موثقة.. وإذا كان الحال كذلك فما بالنا بالأحكام التى كان يصدرها.
وكمثال بسيط فإننى منذ قرأت مقال د. سليم نجيب «أين ضمير مصر؟» على موقع «إيلاف» بالإنترنت، فى منتصف الشهر الماضى.. ثم بعد ذلك متناثرا فى مواقع أخرى.. مصحوبا بعنوان بريده الإلكترونى لكى يرسل إليه الأقباط معلومات عن الفتيات القاصرات المخطوفات، منذ هذا الوقت انتظرت أن يطالعنا الموقع ـ أو غيره ـ بأسماء وصور وشهادات ميلاد من يتحدث عن أنه تم اختطافهن.. وتحويل ديانتهن، إلا أن هذا لم يحدث وكل الذى تم أن عددا من أقلام الموقع قد بدأوا فى تصديق الرواية والكتابة المتسائلة: «هل هذا يحدث فى مصر؟!» ثم يرد آخرون بناء على نفس الانطباعات غير الموثقة: «نعم.. هذا يحدث فى مصر»!
&& لا، إن هذا لا يحدث فى مصر، فضلا عن أن عدم وجود توثيق وأسماء ومعلومات يكفى ردا على التساؤل، وبالإجمال فإن قضايا الحرية الدينية والإيمان بها، والحوار الإيجابى الوطنى بين& عنصرى الأمة المصرية، لإزالة أية شوائب يمكن أن تسبب أى عائق فى التواصل العام والمشاركة بين أبناء بلد واحد هى أمور تناقش بالفعل داخليا .. وبأسلوب ديمقراطى.
***
&& فى زمن مضى، كانت هناك وقائع تتسبب فيها جماعات التطرف وتنظيمات الإرهاب التى كانت تستغل ملف العلاقة بين عنصرى الأمة لإحداث أكبر قدر من الصخب الذى يمكن أن يتجاوز الحدود.. وقد كانت بعض أصوات المهجر تستغل هذا متخيلة أنها تحقق مكاسب من نوع ما .. فى حين أنها عمليا كانت تخدم جماعات التطرف الدينى، بترويج ما تتصور أنه نجاح لإثبات وجودها على حساب الأقباط .. ولتكريس مناخ الكراهية.. والاستقطاب .. بجعل كل عنصر من عنصرى الأمة فى جانبى مواجهة .. بدلا من بقائهما فى مزيج واحد.. عريق وصامد.
&&& ومن عجب أن تلك الجماعات الإسلامية المتطرفة كانت تستثير الناس بإطلاق شائعات حول ما يحدث للمسلمات.. مثل تلك السخافة التى كانت تقال عن «بودرة الصلبان» التى تلقى على حجاب الفتيات.. وهاهو الأسلوب نفسه يعود عكسيا وفى اتجاه مخالف ومن خلال حديث وهمى عن اختطاف فتيات.. قبطيات هذه المرة.
الآن، اختفت هذه الجماعات الدينية المتطرفة، وتم القضاء عليها، والأمر المؤكد أن الجماعة الوطنية بكل تنوع فئاتها واتجاهاتها وعقائدها، إنما تقف وقفة موحدة ضد تلك الاتجاهات لمنع أى ظهور لأفكارها .. أو أفكار التطرف من أى نوع .. وترسيخ التسامح ومبادئه فى الثقافة المصرية العامة، وهو ما كان يحدث من قبل فى وقت الأزمة.
&& إذن، لماذا تعود بعض أصوات المهجر، إلى حديث مثل هذا الآن، واجترار وقائع فردية - نقصد كلمة فردية بكل معناها - مضى عليها سنوات، ولماذا نتمسح الآن فى قصة إسلام القاصرات القبطيات .. وادعاء اختطافهن وهى تدرك تماما أن ذلك لا يحدث.
&& إن السؤال هنا يلقى بظلال كثيفة من التساؤلات حول صدق نوايا هذه الأصوات، ورغبتها الحقيقية فى إرساء قواعد التواصل - وهو موجود بالفعل - ومدى التزامهم بحوار وطنى بناء بدلا من بث بذور الفرقة والنفخ فى رماد نيران تم إطفاؤها.&
&&& مبدئيا، وبناء على واقعة أو أكثر، تمت منذ سنوات بعيدة، كان قد تم الاستقرار على أنه& لا يجوز أن يتم أى تحول دينى قبل بلوغ سن الرشد، ففى هذه السن يكون صاحب قرار التحول راشدا عاقلا يعرف ما الذى يفعله.
فى هذا السياق من المعروف أنه قبل أن تتم إجراءات التحول يجلس رجل دين مسيحى مع هذا الشخص الراغب فى التحول ـ ذكرا أو أنثى ـ لإقناعه وتوجيهه دينيا قبل أن يأخذ قراره الأخير .. فضلا عن أنه حين كانت تلك القضية مثارة منذ سنوات صدرت فتاوى وآراء دينية إسلامية تؤكد على مبدأ حرية العقيدة .. التزاما بنص الآية «لكم دينكم ولى دين».. وفى رصيد الثقافة المصرية الليبرالية مئات من المقالات والمواقف التى تتحدث عن هذا درءاً لأى خطر محتمل .. وتأكيدا على مبادئ وطنية مهمة.

&&&&&& الآن، حتى هذه الوقائع الفردية غير موجودة، فلماذا يأتى أحد من هنا أو هناك ليصب زيتا على ما يعتقد أنه نار، وإذا كان التمسح بما يدعى حول اختطاف القاصرات القبطيات إحدى وسائل صب هذا الزيت، فإن هناك وقائع أخرى تشبه ذلك، مثل الحديث عن «الكشح» من حين لآخر رغم أن القضية أخذت مسارها القضائى المعروف.
&&& ربما يبدو من هذه الاختلاقات أن بعض أقباط المهجر يعانون فراغا من نوع ما، وبالتالى لا يجدون قصصا يمكن أن يثيروها بعد أن هدأت الأمور فإذا كان الأمر كذلك فإننى أقترح عليهم بعض الأمور، ربما تشغل وقت فراغهم بدلا من هذا الافتعال المتسبب فى أضرار أتمنى ألا يرغبوا فيها.
&&&& يستطيع أقباط المهجر أن يتوحدوا مع أبناء وطنهم من المسلمين فى الخارج فى هيئات مصرية تحمل اسم «المصريون فى المهجر»، على أن تبدأ هذه الهيئات فى العمل الجماعى المشترك من أجل مصالحهم أولاً فى المهجر .. ومن أجل مصالح بلدهم ثانياً.
&&& لا أشك لحظة فى أنه يمكن لهذا العمل الجماعى أن يقوم بتوثيق علاقة أبناء المهجر ببلادهم، لغة ودينا، وبدلا من أن يستقل هذا فى مسجد وذاك فى كنيسة فإنه يمكن أن يجتمعا فى كيان مصرى بغض النظر عن العقيدة، ويقدما لغيرهما نموذجا للتسامح .. والبناء المتكامل.
&&& ثم، أليس ممكنا أمام مصريى المهجر أن يعملوا معا من أجل مكافحة التمييز الذى يتعرضون له.. وأحيانا لا يفرق بين دين هذا وذاك. وكلنا نذكر واقعة المصرى القبطى الذى تم الاشتباه فيه فى الولايات المتحدة .. رغم ديانته.
&&& ننتظر منهم أن يدافعوا عن الثقافة المصرية، وعن رسالة مصر، باعتبارها ذات مضمون حضارى مستقل وواع، ومختلف عن الانطباعات العامة عن حضارات الشرق الأوسط بعد أحداث 11 سبتمبر.
&&&& يستطيع هؤلاء أن يوثقوا شعبيا علاقة بلدهم الأم بالدولة الأقوى فى العالم وأن يكونوا جماعة ضغط لصالحها لا عليها.. وأن يوظفوا إمكانياتهم من أجل رخاء بلدهم فقد بلغوا مستوى علمى وفكرى يمكن أن يدركوا معه أن نجاح التنمية الاقتصادية يقضى على أية فرص لنمو التطرف.
&&& وبهذه المناسبة، أتساءل: ما هو حجم استثمارات بعض أقباط المهجر فى مصر، ومسلمى المهجر أيضا، أليس علينا أن ندرك أن خلق فرصة عمل يمكن أن يحجب أية ذريعة للمشاكل الاجتماعية .. أليست السلوكيات المرفوضة ضد التسامح نتاج واقع يحتاج للعون؟!
&& إن القضية المصرية الأهم الآن هى أن تساعد وطننا فى أن يتجاوز أزمته الاقتصادية.. لأنها هى التى يمكن أن تسبب مشاكل اجتماعية عديدة.. قد يكون التطرف إحداها.. وبجانبه يمكن أن تظهر مسالب وسلبيات أخرى. وبالتالى فإن الجدل الذى يجب أن نخوضه هو كيف يمكن أن نعين هذا الوطن عمليا.. واقتصاديا وماليا.. وكيف نوفر له مناخ الرخاء.. فهو أساس تثبيت واقع التسامح.
***
& إن الأعمال كثيرة، ولو أراد بعض أقباط المهجر أن يشغلوا وقتهم فى عمل مفيد بدلا من اختلاق قصص القاصرات، سوف يجدون. ولا أعنى بهذا التوقف عن إثارة أية قضايا داخلية .. فالمناخ حر .. والمناقشة عامة .. والكل يقول ما لديه.. لكن الشرط الأساسى فى أى حوار بناء هو ألا يكون مثيرا للفتنة أو باعثا لها.
&&& ولا أظن أن هذا يمكن أن يتحقق إذا ظلت بعض الأصوات فى الخارج تتفاعل مع قضايا الوقت الحالى.. بنفس الأسلوب الذى كانت تعالج به الأمور فى الماضى.. الواقع الآن أصبح مختلفا.. وإذا كانت هناك جهات دولية وأجنبية كانت تجد فى هذا الكلام - وقتها - ما يمكن أن يخدم أهدافها فإن هذا لم يعد موجودا الآن.. الأساليب تغيرت.. والقضايا اختلفت.. والأجندات تبدلت.. والأولويات صارت أمورا أخرى.
&& والأهم ليس هو هذا التغير الدولى.. وإنما كذلك أن الواقع الوطنى أيضا تغير.. وصارت القضايا الوطنية محل نقاش علنى ومفتوح ومستمر فى الداخل.. ليس خشية ضغط.. أو خوفا من أحد.. وإنما حرص على مستقبل هذا البلد. (عن"روزاليوسف القاهرية")

نائب رئيس تحرير مجلة روزاليوسف
Email:[email protected]