تحقيق- نبيل شـرف الدين: رغم كل الأحداث الجسام التي تشهدها المنطقة على أكثر من صعيد وجبهة الآن، ورغم منعطف الاحتقان الحاد الذي قسم الشعوب العالم والمنطقة إلى "فسطاطين"، وربما أكثر، رغم هذا وذلك ـ وغير ذلك أيضاً ـ تراجعت أو بالأحرى توقفت تماماً، الأغنية السياسية في مختلف الدول العربية، وهو أمر يستحق أن نبحث أسبابه، وندرس دلالاته، وننبش جذوره، ونتساءل : لماذا وكيف كانت الأغنية قادرة على التحريض والحراك في زمن ولى، بينما انحصرت الآن في ما يمكن وصفه بكثير من التحفظ بشخص شعبان عبدالرحيم، الشهير بشعبولا، الذي تنحصر مؤهلاته في كونه "بيكره إسرائيل، ويحب عمرو موسى"، ووعده بأنه "هيبطل السجاير، ويكون إنسان جديد".
....
الحكاية ـ وما فيها ـ لم تبدأ بعد 11 سبتمبر، ولا بيد "المحافظين الجدد"، ولا انطلقت من "تورا بورا"، ولا اشعلتها "الجزيرة"، بل بدأت في القاهرة وعمان وبيروت وبغداد والخرطوم وطرابلس والدار البيضاء، وتونس وصنعاء .. حين تحولت أحلام جميلة إلى& كوابيس مفزعة، ماتت معها أشياء كثيرة، وولدت من رحمها مخلوقات لم نعهدها، أصبحت الآن نجوم المرحلة، ولأن هذه الكائنات لا تستمع إلى الموسيقى، وتعتبر الأنغام جميعها "معزوفات الشيطان"، لهذا صار "الكلاشينكوف" قيثارتهم، وأصبحت الألغام أكثر إيقاعاتهم طرباً، وبالتالي أنتجت جمهوراً من "قدامى المحاربين"، يدركون جيداً أنه لم يعد بوسعهم الحرب، لكنهم لا يكفون حديثاً عنها، واجترار ذكرياتها، وربما ممارستها في خيالاتهم، أو عبر واقع افتراضي، مثل ألعاب "الفيديو جيمز".
لنبدأ السرد .. وكفى تنظيراً،،
......
الحمد لله خبطنا .. تحت بطاطنا
يامحلا رجعة ظباطنا .. من خط النار
هتقولي (سينا) وما سيناشي .. ماتدوشناشي
ما ستميت أتوبيس ماشي .. شايلين أنفار
إيه يعني لما يموت مليون .. أو كل الكون
العمر أصلاً مش مضمون .. والناس أعمار
إيه يعني في (العقبة) جرينا .. ولاّ ف (سينا)
هي الهزيمة تنسينا .. إننا أحرار!
بهذه الهجائية التي تقطر سخرية مريرة، استقبل أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام هزيمة حزيران (يونيو) 1967، التي اصطلح على تدليلها بـ"النكسة"، والتقطها ملايين الشباب العرب لتتحول من مجرد "أغنية سرية" تطاردها المباحث، إلى نشيد وطني تصدح به الجامعات، وتهتز له زنازين السجون العربية المتحدة، لتؤكد حينئذ أن هذا الطراز من الغناء قادر على أن يفضح، وقادر على أن يذبح، ويمتلك ناصية التعبير بأعلى صوت عن حالة الانتكاسة التي أصابت الجميع .. بكلمات حادة ومفجعة، تعلن تواطؤ الجميع، وتؤكد أن الهزيمة ابن شرعي للفساد وانعدام العدل، وشيوع الدجل السياسي، وخوض الحروب بمنطق الأمنيات والخرافات.
وبصريح العبارة حملت الأغنية مسئولية هذا كله لشخص "عبد الجبار"، والمقصود هنا بالطبع هو "عبد الناصر" تحديداً، حيث تقول كلمات الأغنية:
وكفاية أسيادنا البعدا
عايشين سعدا
بفضل ناس تملا المعدة
وتقول أشعار
أشعار تمجد وتنافق .. حتى الخاين
وإنشاء الله يخربها مداين .. عبدالجبار
فلا يهم كل ما خسرناه بفضل أو بفعل هؤلاء الذين تركوا جنودهم في سيناء والجولان والضفة الغربية، كل هذا لا يهم، يكفي أن عاد ضباطنا الأحرار ويكفي أن يعيش السادة سعداء، وأن ينافقهم شعراء السلطة ولتذهب كل المدن والقرى والأحلام إلى الجحيم.
هكذا كانت الأغنية السياسية في تلك الأيام، تولد من صلب الإحساس العميق بالألم والوجع، ذلك لأنها أغنية ـ رغم مرارتها ـ وقفت خلفها فكرة وحلم ومشروع، وارتبطت دوماً ببصيص أمل، مهما كان خافتاً، ذلك لأنها لا تنبعث من العدم ولا اليأس، بل بدأت كصوت سري، أطلقه فنانون حقيقيون، ثابتو العزم، أصيلو الموهبة، قادرون على ازدراء التفاهة والزيف والابتذال، متشبثون بإنسانيتهم.
كان هذا في "هزائم الماضي"، أما في هزائمنا وخيباتنا المعاصرة، فهناك غياب واضح لحالة "الغناء السياسي"، وإن اختلف البعض على تفسير أسباب هذا الاختفاء، فثمة من يرى أن الاغنية السياسية غابت بغياب الظرف السياسي الملائم، وغياب القوى الحاضنة لها، وغياب الأفق والتطلعات وحتى القدرة على الحلم، لهذا أصبحت أغنية يتيمة بلا دعم ولا داعم، بعد أن تضعضعت وتداخلت الرؤى لدى قطاعات عريضة من الناس، ولم يعد هناك من يرغب في ركوب المغامرة، ضاقت الاماكن الفسيحة الوعرة، وآثر الجميع السلامة، لتصبح الأغنية السياسية في عهدة شخص أميّ، أسمه شعبان عبد الرحيم، ليس عيبه أنه كان "مكوجي" قبل احترافه الغناء، لكن العار أنه أصبح رمز طبقة "التافهين الجدد"، وفئة "الجهلة العصاميين" المتنفذين في عموم المشهد العربي، وليس داخل مصر وحدها.
مارسيل ودرويش
مرسيل خليفة
وعلى إيقاع "الغضب الساطع آت" ومسرح الأخوين رحباني، وأغنيات عبد الحليم حافظ، وأناشيد محمد عبد الوهاب الوطنية الناعمة، انطلقت كل الحروب العربية، وماتت بعد سلسلة مـن الهزائـم
العربية المتلاحقة، التي شملت كافة الميادين، الجغرافية، السياسية والثقافية والاقتصادية والمعنوية، وقد ترافقت هذه الهزائم، مع بحر هائج من الأناشيد التعبوية الهادفة إلى زلزلة الأرض تحت أقدام الغزاة، إلا أن أغنيات من وزن "يا بلدنا لا تنامي" و"شام يا ذا السيف" و"خللي السلاح صاحي" و"فدائي يا أهل العروبة فدائي" لم تنجح في حفظ ماء الوجه، ولا في وقف انهيار الحلم العربي، لكن رغم هذه السوداوية في التعاطي مع (الاغنية السياسية) لا يمكن تجاهل بعض التجارب الناضجة كتجربة الشيخ امام عيسى وتجربة زياد الرحباني وكذلك التجربة الاكثر تميزاً جماهيريا وفنيا تلك التي خاضها الفنان اللبناني (مارسيل خليفة) التي تعرضت لعثرات عدة، اعتبرها بعض النقاد بأنها تمثل خرابا للبنية الموسيقية والغنائية العربية، بإنفلاتها من القواعد الموسيقية الرزينة التي عرفتها الموسيقى العربية الكلاسيكية وتقديمها القصائد بقالب يلامس الروح الغربية باسلوب تقديمها للكلمات المغناة، و في اكثر من مناسبة أكد خليفة أنه متمسك بهذا (الخراب) الذي يسميه "الخراب الجميل"، باعتباره الامتداد الوحيد والجسر الواصل للبذرة التي اودعها سيد درويش المؤسس الوحيد لاغنية عربية حقيقية بالمفهوم الاصطلاحي للأغنية انفلتت من نسق القصيدة وتواصلت مع واقع ونبض الكادحين.
ودون ثنائية مارسيل خليفة والشاعر الفلسطيني محمود درويش لما كانت لتكتمل تجربة خليفة الابداعية التي كان للكلمة سطوتها عليها، وسطوة الكلمة كانت في بعض الاعمال على حساب الموسيقى وحرمت خليفة في بداية تجربته وبأوج شعبيتها من اعطاء الحيز المناسب للابداع الموسيقي، الامر الذي تداركه خليفة، ربما متأخرا بتجسيد للنقد الذاتي بعمله الموسيقي المهم (جدل) حيث قال حينها خليفة (اندثر زمن الكلمة) وكان هذا الموقف ناتجا من تبعيات الانهيارات السياسية التي شهدها العالم، وصمتت الكلمة وجف لسان خليفة ليطلق العنان عبر (جدل) لاحاسيس وهواجس الموسيقى المجردة وحدها القادرة على استنطاقها. ومع التحولات الجذرية في مسار الحياة العربية خلت الساحة الغنائية من التجارب المعنية بالحدث السياسي او القضايا المصيرية ورغم تحسس الاعلام العربي الرسمي من هذا المصطلح تبقى الاغنية التي يفرزها اي مجتمع هي حياة قائمة تشكل طقوسنا ووعينا وقدرتنا في الانخراط بالركب الحضاري الانساني الذي سيحمله التاريخ الذي لن ينصف سوى المنتصرين، وبإطلالة على الطرف الاخر ترى تفاوتا ملحوظا لدى الغرب بين انهماك تلك المجتمعات مؤسسات وافراد في خوض غمار مرحلة العولمة وما بعد الحداثة، ترى نخبة من الاعمال الغنائية تبشرر بالافكار الليبرالية والراديكالية وتمجد الرموز الثورية في زمن يفترض به فناء هذه التوجهات.
إمام ونجم
وإلى مصر، وتجربة الشيخ إمام عيسى، ذلك القديس الحقيقي الذي عاش قابضاً على إنسانيته ووطنيته، وتحمل ـ طائعاً مختاراً ـ ضريبة هذا العشق طوال حياته، وقد لا يعرف الكثير من أبناء هذا الجيل الشيخ إمام عيسى، المغني والملحن الضرير الذي عاش ومات في إحدى حواري القاهرة، ولم يكن من نجوم التليفزيون أو مقاعد الأمراء، لكنه بعوده المليء بالشجن وبكلمات شاعر ضال ويتيم في أحد شوارع القاهرة استطاع أن يحرض الجميع، فمن هو إمام عيسى، الذي أصبح أهم مغنٍ تحريضي في تاريخ مصر؟
في قرية (أبوالنمرس) التابعة لمحافظة الجيزة ولد إمام محمد أحمد عيسى لأبوين فقيرين، كان أبوه بائع زجاج مصابيح بلدية التي يطلق عليها في مصر "اللمبة السهاري"، كان يجوب القرى والنجوع والكفور حاملاً على رأسه هذه البضائع الرقيقة، التي كانت منتشرة قبل دخول الكهرباء، وفي العام الأول أصيب إمام (بالرمد الحبيبي) ولجأت أمه كالعادة الى (الداية) التي عالجته بحشو عينه بروث البهائم عدة مرات حتى فقد البصر تماماً، وفي الخامسة من عمره ذهب إمام لحفظ القرآن في كتاب القرية وبعد أن أتمه أخذه أبوه الذي كانت تدهورت صحته ولم يعد قادراً على الكسب بالمرة، وتوجه به إلى الى القاهرة، حيث أودعه في ملجأ تابع للجمعية الشرعية الاسلامية، حيث أكمل الصبي تجويد القرآن، فغادر الملجأ ليعمل مقرئا للقرآن ومؤذنا في المساجد.
ويروي الشيخ إمام ذكرياته عن تلك الأيام قائلاً : " ظللت في الجمعية الشرعية 4 سنوات، وكان الراديو في ذلك الوقت حديثا وكان الشيخ محمد رفعت العلم الوحيد للاذاعة يقرأ مرتين كل أسبوع وكنت أحرص على سماعه بانتظام، أما في الجمعية فكان سماع القرآن في الراديو حرام، وحدث أن ضبطني أحدهم وأنا افعل ذلك ففصلوني، وعندما علم أبوه بخبر فصله لم يمنحه سوى الضرب والكراهية والتأنيب، فأصبحت شريداً بلا مأوى، أجلس نهارا في جامع الحسين وأنام ليلا في الأزهر".
أيام وشهور كثيرة مرت على الصبي الأعمى، حتى قادته الصدفة وحدها إلى حارة (حوش قدم) التي يسكنها شخص من نفس قريته، وبدأ في قراءة القرآن وسكن غرفة في أحد البيوت القديمة بثمانية قروش في الشهر، وذات يوم وهو يقرأ القرآن عند حلاق يدعى محمد بيومي، إذا بالشيخ درويش الحريري يدخل للحلاقة ويستمع الى صوته ويعجب به، وكان الرجل أستاذا يدرس الموشحات في معهد الموسيقى العربية ويعلم القرآن أيضا في معهد فؤاد الأول وغيره.
يقول امام: قال لي الأسطى: هذا هو الشيخ درويش الحريري الذي علم محمد عبدالوهاب وزكريا أحمد.. فقمت وقبلت يديه، وعندما أوصاه الأسطى بي، قال الشيخ: نحن نتعلم منهم (ومنذ تلك اللحظة، لازمت الشيخ مثل ظله، وقلت له أنا قتيلك وأريد أن أتعلم)، ومع الشيخ درويش تعلم كل شيء في حضرة صالح عبدالحي ومحمد عبدالوهاب وأمين المهدي وغيرهم.
أيام النكسة
وهكذا استطاع إمام أن يتعلم العود بعد فترة من صديق له كفيف أيضا أخذ معه خمس حصص وبدأ يمرن نفسه بعدها على العود الذي اشتراه بخمسين قرشا.. يضيف: سكنت مجانا في بيت (علي الشعبيني) وبدأت أغني (محمد عثمان) والشيخ زكريا أحمد، حتى بدأت أمارس الغناء كمحترف وتركت احتراف قراءة القرآن.. وظللت هكذا حتى سنة 1962 حين تعرفت على الشاعر أحمد فؤاد نجم، كان لابد لسماء القاهرة أن تشتعل في هذه الليلة, حيث صرخت صاعقة وطار طائر بمفرده في اتجاه اليقين، ليلة غير عادية تلك التي جمعت الشيخ إمام بالشاعر أحمد فؤاد نجم.. وكأنهما توأم إفترق وعادت الأيام لتجمع كلا منهما تلخيصا لحياة الفقر والجوع والتشرد تلك التي تولد رهافة لايدركها إلا من ذاقها، هم وحدهم يملكون الاحساس والعذوبة والقسوة أيضا.
ويروي الشاعر أحمد فؤاد نجم عن بداية علاقته مع الشيخ إمام فيقول في عام 1962 دعاني صديق اسمه سعد الموجي كان يعمل بوزارة السياحة.. ودعوته كانت لزيارته في بيته في الغورية كذلك لأتعرف على فنان أصيل لايريد أحد أن يعترف به بحجة أنه دقة قديمة "، وفي المكان والزمان المحددين كنت أجلس أمام شيخ ضرير يحتضن عودا قديماً يشبهه، وغنى الشيخ إمام لمشايخ الملحنين وجهابذة الطرب والنغم وأدهشني أنه يعطي الألحان القديمة اضافات لاتقل غنى وأصالة عن الألحان نفسها وهكذا تأكد لي أنني أمام فنان مبدع وسألته: لماذا لا تلحن يا مولانا؟، قال: مش لاقي الكلام الكويس قلت له أنا عندي الكلام.. وأعطيته ما أكتب& وإجتمع إمام ونجم كثيرا في ليالي الشتاء القاسية بعد أن أذهلت الجميع نكسة حزيران، وجعلت هواء القاهرة ملبدا بالغيم والوجع.
وفي ليلة من تلك الليالي تكسرت أحلام الجميع بنكسة يونيو دفعة واحدة، لم يكن يعرف إمام ونجم الفقيرين بحياتهما، والأغنياء بمشاعرهما أنها سيغيران تاريخاً كاملاً، يجلس الشيخ إمام وعوده المليء بالأصداف والمشاعر، وجواره أحد الأيتام الضالين في القاهرة، اسمه أحمد فؤاد نجم (يقول أشعاره الصادمة والكاشفة لهذا الزيف المتسرب في هواء مصر كلها) وربما لم يكونا يعرفان أنهما سيغيران الأحوال ويعيدان للهزيمة اسمها الصحيح، الذي زوره كتبة السلطة ودجالوها، أعادا الأمر إلى نصابه، ووضعا الشعب أمام حقائق صادمة بغنائهما المشحون بتحقق أحلام لم يكن أحد يجرؤ على الصراخ بها، وهذه البداية كانت تحتم عليهما درجة أعلى من الصدق مع النفس، فالكل وقتها كان لايملك القدرة على الاعتراف بالخطأ، واكتفى الجميع بتعليق الخطأ على "رجال عبد الناصر"، رغم انه اعلن مسئوليته عنها، لذا كان للشيخ امام ولنجم رأي آخر فيما يدور، حيث ظهرت لديهما ولأول مرة هذه النغمة القاسية التي تستمد قوة أكبر على التحريض والفعل والتأثير، عن طريق فضح الصوت الرسمي وكلامه.
عم حمزة
ولم تقتصر أغنيات الثنائي إمام ونجم على التوبيخ والنقد الجارح، بل تجاوزت ذلك الى التحريض المباشر على فعل ما، كان وقتها لا بديل عنه وهو الحرب، حرضا شعباً وجيلاً .. فعلها إمام ونجم بعود ممتلئ شجناً، وكلمات حادة مستوحيا قصة (عم حمزة) الذي كان يبيع الشاي أمام "سجن الاستئناف" في ميدان "باب الخلق" بالقاهرة، وكان كلما رأى سيارة السجن محملة بالتلاميذ القادمين، ضرب كفاً بكف قائلاً بحسرة : "رجعوا التلامذة تاني"، مشفقاً على أعمارهم الصغيرة، ومكابدة ذويهم خلفهم في السجون، ويقرر أن يمنحهم الشاي مجاناً حتى يفرج عنهم جميعاً ، ليبقى اسم "عم حمزة" في ذاكرة كل أبناء الحركة الوطنية المصرية في تلك الحقبة، ويخلد اسمه نجم في أغنيته الشهيرة التي صارت ـ كغيرها ـ أنشودة تقول :
رجعوا التلامذة ياعم حمزة للجد تاني
يا مصر إنتي اللي باقية وانتي أصل الأماني
لا كورة نفعت ولا أونطه
ولا مناقشة وجدل بيزنطة
كان هذا زمن السادات الذي شهد المجتمع المصري خلاله تحولات عنيفة وحادة، من أقصى اليسار إلى الانفتاح، ومن أدبيات العدو "الإمبريالي والصهيوني" إلى "صديقي كارتر وبيغن"، ومن هنا التمس إمام وهجه الإنساني في مواجهة دجل لا يمكن احتماله أو التعايش معه بسلام، وانطلق الأعمى الذي بصرته المحن ولم تكسره، ليغني بسخرية حادة من السادات شخصياً:
قوقة المجنون أبو برقوقة
بزبيبة غش وملزوقة
كداب ومنافق وحرامي
ودماغه مناطق موبؤة
وبسبب هذه الأغنية تم اعتقال إمام ونجم وقبلها في تحقيق النيابة كان المحقق يسأله "بمن تقصد هذا الكلام؟"، فأجابه أن الكلام واضح، فرد عليه المحقق، هل تقصد به رئيس الجمهورية؟
فكانت اجابة إمام بصوت مرتفع وواثق لا يعرف تخاذلاً : بالتأكيد أنا أقصد رئيس الجمهورية محمد أنور السادات.
كانت اجابته صدمة حقيقية للمحقق الذي تمنى ساعتها أن ينكرها، كما قال بعد ذلك بربع قرن، واضطر أن يكتب في التحقيق أنه لا يقصد رئيس الجمهورية خوفا على هذا الشيخ الضرير من مصيره المؤلم، وبعد نهاية التحقيق أعاد قراءته على الشيخ إمام الذي فوجئ بأن المحقق لم يكتب كلامه كما قال, فبكى الرجل بعنف وهو يقول للمحقق : لماذا تريد أن تلحق بي العار، هل تستغل كوني أعمى لتسجل أنني جبان في محضر رسمي، وتجعل ذلك وثيقة تاريخية ضدي ؟
جيفارا مات
ولم يكن الشيخ إمام ونجم على محليتهما المفرطة، في الكلمة واللحن والذائقة، بل امتدت بصيرتهما الى العالم المتسع، ليغنيا لثوار العالم جميعاً، في زمن الثورات والتمرد، ويقفز تحريضهما عابراً المحيطات والقارات بعد موت "جيفارا" بكلمات صارت:
جيفارا مات .. جيفارا مات
آخر خبر في الراديوهات
مافيش خلاص غير القنابل والرصاص
ياتجهزوا جيش الخلاص
يانقول ع العالم خلاص
كان إمام يواصل الغناء وسط التجمعات الطلابية والعمالية فكان ضيفا دائما على كل جامعات مصر، من جامعة الإسكندرية حتى جامعة أسيوط، وفي إحدى حفلاته بكلية الزراعة في جامعة القاهرة 1976 تحول الغناء داخل المدرج الى مظاهرة وخرج المدرج بكامله خلف الشيخ مرددا معه المقطع الأخير من أغنية "جيفارا":
ياتجهزوا جيش الخلاص، ياتقولوا ع العالم خلاص.
وكان إمام يفضل انهاء حفلاته بهذه الأغنية، واستمر الطلاب معه أو بتعبير أدق خلفه، بهذه الحالة حتى شارع الجامعة القريب من بيت السادات، وكانت هذه الواقعة هي بداية الحصار الحكومي الذي لازمه حتى قبره.
ممنوع من الغنا
الشيخ امام
وكان طبيعياً أن تضرب السلطات المصرية حينئذ حصاراً حديدياً على الشيخ إمام، ويقول أحد قيادات الطلاب في السبعينيات "إمام ظل طوال السبعينيات ممنوعا من السفر بينما تمكن الكثيرون من السفر والاسترزاق مـن النظـم
العربية الثورية والنفطية على حد سواء، وكانت الدعوات تصل الى امام من الدول العربية، ومن الجاليات العربية في أوروبا، خاصة باريس، وكان المنع مستمرا.. فكان رده بأغنيته الرائعة ذائعة الصيت التي يقول فيها:
ممنوع من السفر
ممنوع من الكلام
ممنوع من الغنا
ممنوع من الابتسام
وكل يوم في حبك تزيد الممنوعات
وكل يوم باحبك أكتر من إللي فات
وفي منتصف الثمانينيات تمكن إمام ونجم من السفر بعد أن تغيرت الظروف السياسية، وامتدت الرحلة من بيروت إلى باريس إلى الجزائر وتونس إلى بلدان أخرى وفيها حدثت القطيعة بين الرفيقين (إمام ونجم) واستمر إمام في عزلته ويقال أن الخلاف بسبب أمور مالية، ولم يعد معه إلا بعض الطلبة في (حوش قدم) حيث واصل تلاوة القرآن والتواشيح بمسجد صغير، وكان يغني أحيانا حتى فاضت روحه الطيبة، وللمفارقة الغريبة كان ذلك في حزيران (يونيو) 1995، وتموت برحيله مرحلة بالغة الأهمية والسطوع لعصر الأغنية السياسية أو التحريضية، أو تتدنى إلى حضيض "شعبولا"، الذي تنحصر كل مؤهلاته في أنه"بيكره إسرائيل، ويحب عمرو موسى"، وحقاً كما تكونون .. يُغنى لكم .. أو عليكم، أو حتى عليكو!.
والسلام عليكو