عبد الله كمال
&
عديد من& قصور الحكم العربية تعانى من تطاحنات عائلية ومآزق صحية مزمنة.. ولا يتحدث عنها أحد.. ولا يكشف الغطاء عن حقائقها المروعة!
&&& كانت النكتة التالية تضحك الكثيرين فى عالم ما قبل انهيار الاتحاد السوفيتى ونهاية الحرب الباردة: وقف أمريكى وروسى يتفاخران بما لدى دولة كل منهما من حرية ومناخ ديمقراطى.. فقال الأمريكى بكل ثقة: أنا أستطيع أن أقف أمام البيت الأبيض فى قلب واشنطن وأنتقد وأشتم الرئيس ريجان.. ثم أعود إلى بيتى دون مشكلة. ورد الروسى متسلحا بقدر أكبر من الثقة ومزيد من التفاخر: وإيه يعنى.. أنا أيضا يمكننى أن أقف أمام الكرملين فى قلب موسكو وأنتقد وأهاجم «الرئيس ريجان» بصوت أعلى.. ثم أعود إلى بيتى بدون أن يقترب منى أحد!!
&& لقد تبدلت الأحوال، وانتهت الحرب الباردة، لكن هذه النكتة لم تزل صالحة لأن تروى فى هذا المناخ العربى.. فنحن لدينا عدد لا بأس به من أمثال هذا الروسى الواثق، الذين يستطيعون بكل شجاعة أن يقفوا أمام عشرات من القصور العربية، وينتقدوا ويهاجموا بكل ثقة وبلا أدنى خوف.. مصر ورئيسها ودولتها وسلوكها السياسى، ومن غير أن يقتربوا بالطبع.. مما يجرى داخل كل هذه «الكرملينات»!
&&& فى عديد من الميادين العربية الحمراء، نزاعات مؤسسية وصراعات حادة بين أطراف متناقضة تدافع عن مصالح شخصية لا قومية، وفى عديد من «الكرملينات» تطاحنات سرية، وقيادات لا تعانى من وعكة صحية طارئة تم الإعلان عن مقدماتها مسبقا، وإنما من مآزق صحية مزمنة، لكن أساطين «الإعلام الحر» لا يمكنهم الاقتراب من مناطق الالتهاب.. فما بالك برفع غطاء الكتمان عن مراجل تغلى بالحقائق المروعة.. وتبقى طاقاتهم حبيسة حتى يعبروا عنها أمام تلك «الكرملينات» بمناقشة حرة وصريحة حول شئون مصر ورئيسها.
&&& حسنا، الآن سوف يتذكرون أن مصر دولة كبيرة، وأن أى& خبر فيها يهم الرأى العام العربى من المحيط إلى الخليج، بينما هم فى أوقات أخرى يتجاهلون تلك الحقائق حين يكون الخبر القادم من مصر مبشرا أو سارا ومعبرا عن ميزات «الدولة المركز».. حسنا أيضا.. سوف ندع هؤلاء يتدربون على الحرية ويتعلمون الديمقراطية من خلال الحديث عن أمة عريقة.. ودولة ثابتة.. ورئيس قوى استنادا إلى واقع دستورى ومؤسسى وملكات شخصية.. ولِمَ لا ندعهم.. إذا كانت مصر تترفع منذ زمن عن أن تسوس الإعلام المضاد بأى من الأسلوبين المعروفين.. سواء كان حصاد التهديد والوعيد أو جزرة الرشوة والإغواء.
&& واقعيا، لا تثير دهشتنا على الإطلاق هذه الحالة الإعلامية العربية التى تعبر عن نفسها من حين لآخر، وبالذات الآن.. ولدى فى ذلك مجموعة من المبررات.. أذكر بعضها هنا:
&&&&
&كيف تريد من هؤلاء ألا تنتابهم حالة من الغيرة وهم يرون أن القاهرة تتمتع بصفة أأمن عاصمة عربية.. متعافية من الإرهاب لا يعكر صفوها طلقة، وبريئة من الانفجارات لا ترهب سكانها قنبلة.. انظر حولك وأنت تعرف قيمة هذه الصفة.. فكافة العواصم العربية - تقريبا - على قلق.. إن لم تكن فوق بركان.
&&&&
&كيف تريد من هؤلاء ألا تنتابهم حالة من الغيرة وهم يرون أن القاهرة تتمتع بصفة أأمن عاصمة عربية.. متعافية من الإرهاب لا يعكر صفوها طلقة، وبريئة من الانفجارات لا ترهب سكانها قنبلة.. انظر حولك وأنت تعرف قيمة هذه الصفة.. فكافة العواصم العربية - تقريبا - على قلق.. إن لم تكن فوق بركان.
&&& فى ظهيرة الأربعاء الماضى، وبينما قلوب وأفئدة 70 مليون مصرى تتعلق بالرغبة فى الاطمئنان على حالة الرئيس، تجلت سمات هذا الوضع الأمنى والدستورى المستقر.. الشوارع هادئة.. وكل شىء عادى جدا.. ونستطيع أن نتحدى بأن هذه الدقائق الخمسين العصيبة قد مرت دون جريمة كبيرة وغير معتادة.. وبلا أى انتهازية من أى أحد.. فى حين أن دولا أخرى سرعان ما تعانى من انفلات طائش فى مثل هذه الأوقات.. راجعوا دفاتر أحوال أقسام مصر فى هذه اللحظات.
&&&& إن هذا لا يعود فحسب إلى حالة من الرقى الأمنى المميز فقط، وإنما لأن هناك قناعة عامة لدى الجميع.. صغيرا أو كبيرا.. عاديا أو من النخبة.. بالاستقرار السياسى العام.. والرسوخ الدستورى الوطيد.. ولعل الصدفة هى التى جعلت هذه الوعكة الصحية الطارئة التى ألمت بالرئيس، تأتى بعد لحظات من حديثه فى خطابه المهم والتاريخى عن «مفهوم دولة المؤسسات، و«اتخاذنا لسيادة القانون كمنهج أساسى للعمل الوطنى والتنفيذى، واعتمادنا على قضاء مستقل، حقق العدالة وضمن المساواة، وشارك فى إثراء تجربتنا الديمقراطية بإشرافه الكامل على الانتخابات».
&&&& لقد صدرت وسائل الإعلام و«الكرملينات العربية» إلى الرأى العام معانى «القلق الدستورى» وهى بضاعة بلا قيمة.. ولا تجد لها صدى فى مصر.. وإن كانت تلهى قطاعات عربية عن أن تنظر إلى ما يدور حولها.. وفى داخل بلدانها.. حيث يندر أن تجد رئيسا يلقى خطابا دستوريا موثقا وملزما.. وحيث يقل أن تجد بالفعل برلمانات بالمعنى الكامل للكلمة.. مع بعض الاستثناءات الفريدة أو الناشئة.
&& إن هذا لا يعفى أجهزتنا من أن تقوم بدور أكبر ومكثف فى هذا الاتجاه، أقصد تدعيم الإحساس بمفهوم دولة المؤسسات، التى تملك آليات واضحة، وتراتبية معروفة، وديمقراطية واعية.. وإذا كنا قد بذلنا جهدا كبيرا فى الدعاية لما لدى «دولة المركز العربى» من بنية تحتية قوية فى الناحيتين الإنشائية والاقتصادية.. فإننا نحتاج إلى مزيد من الجهد للدعاية لما نملكه من بنية تحتية قانونية وقواعد دستورية ثابتة.. لا يهزها ارتباك.
&&& ولاشك كذلك أن هذا يحتاج إلى مزيد من التواجد السياسى والإعلامى المصرى، إقليميا ودوليا، وداخليا.. وألا يعوق حدث طارئ وعابر المسيرة التى تحدث عنها الرئيس فى خطابه قائلا: «لقد بدأت منذ سنوات عديدة لتستمر وتتعمق ممارستها، ولتضيف كل يوم إنجازا جديدا من أجل تغيير وجه الحياة فى مصر، وقد أولينا فى هذه المسيرة أهمية خاصة لوضع الأسس الراسخة للبناء المؤسسى للدولة».
&&& قبل ثمانى سنوات أصيب الرئيس جورج بوش الأب بإغماء، وهو يتناول العشاء مع رئيس وزراء اليابان فى طوكيو، وفيما& قبل ذلك تعثر الرئيس رونالد ريجان بسبب دوار وهو يستعد لركوب طائرة فى سياتل.. ومضى الأمر فى دولة مؤسسات قوية بكل سلاسة.. بدون أن تفرض شائعات فارغة أى ضغوط على أجندة الرئيس الأمريكى.. وقبل أشهر كان الرئيس بوش يأكل بعض المقرمشات أمام شاشة التليفزيون، فتحشرجت فى حلقه إحداها وأغمى عليه، وأصيب بكدمة حين تعثر.. لكن «إعلام الكرملينات» الشجاع.. ينسى هذا.
&&& إن لديهم سببا آخر.. لكى ينسوا.. وهو خطاب الرئيس مبارك نفسه الذى ألقاه يوم الأربعاء.. إذ لم يكن خطابا عاديا وربما يمكن أن تساورنا الشكوك حول هذه الغفلة الإعلامية العربية فى التعامل معه.. والاكتفاء بخبر «الوعكة».. التى جعلوا منها أزمة.. دون تناول مضمون الخطاب.. مع انتباهنا لوجود استثناءات تؤكد هذه القاعدة.
&&& إن رئيس أكبر دولة عربية يصر على أن يؤكد أن الحرية أولى سمات المجتمع المتحضر، والديمقراطية أساس لخلق المناخ الملائم للتنمية، والعدالة هى الضمان الحقيقى لاستقرار المجتمع، وحرية الصحافة تقوم بدورها فى النقد والرقابة وطرح الرؤى ومواجهة السلبيات فى إطار من الشفافية والموضوعية.
&&& إن رئيس أكبر دولة عربية يصر على أن يؤكد أن الحرية أولى سمات المجتمع المتحضر، والديمقراطية أساس لخلق المناخ الملائم للتنمية، والعدالة هى الضمان الحقيقى لاستقرار المجتمع، وحرية الصحافة تقوم بدورها فى النقد والرقابة وطرح الرؤى ومواجهة السلبيات فى إطار من الشفافية والموضوعية.
&&& إنه كذلك يعلن عن «تطوير وتعريف جديد لدور الحكومة، وعن أحدث مفاهيم العصر «تمكين الشباب والمشاركة والعمل التطوعى ودور المرأة والحوار الفعال مع كل القوى فى الداخل والخارج»، وهو أيضا يعلن فى هذا الخطاب عن استمرار البرنامج الإصلاحى.. بكل تنوعاته.. لكن الصخب الذى صاحب ما جرى ظهيرة الأربعاء جعل الآخرين يتعمدون إغفال أهم نقاط الخطاب فى هذا السياق، والتى بدت كأنها توجيهات قانونية ودستورية جديدة.. ومنها «أولويتنا الأولى تعزيز الديمقراطية».. «الديمقراطية ثقافة وسلوك اجتماعى قبل أن تكون نظاما تتبعه الدولة».. «الأحزاب يجب أن تقوم بدور فاعل».. «صياغة ميثاق شرف بين الأحزاب».. «تطوير قانونى الأحزاب والمشاركة السياسية».. «إزالة كافة أشكال التمييز ضد المرأة».. «تعديل قانون الاستثمار».. «مشروع قانون جديد للضرائب».. «إنشاء الهيئة القومية المستقلة لضمان جدوى التعليم».
&&& لقد كان الخطاب عامرا بهذا وبغيره الكثير، مما يثبت جدية الدولة وخطتها الثابتة والراسخة منذ زمن فى اتجاه التطوير والإصلاح متنوع الاتجاهات.. فإذا ما وضعت هذا إلى جانب ما كان قد قاله الرئيس «بوش» عن «اضطلاع مصر بدور قيادى فى التطوير الديمقراطى فى المنطقة كما قادت السلام من قبل».. يمكن أن تفهم ما هو سر حالة الهياج التى أصابت «إعلام الكرملينات العربية».. فهى - أكثر من غيرها - التى استوعبت بالفعل المعانى الكامنة فيما قاله «بوش».. على الرغم من العديد من الانتقادات التى وجهت إلى خطابه وما يمكن أن توجه إليه.
&& هذه «الكرملينات» يثير غيرتها وحقدها أن يبدو العالم داعما لدور «الدولة القدوة»، وتتفجر كراهيتها حين تثق فى أن لدى «دولة المركز» طاقات كامنة تمكنها من أن تمارس دورها.. بثبات.. سواء ديمقراطيا فى اتجاه الإشعاع على الآخر.. أو سياسيا فى اتجاه إثبات توالى الأحداث لصواب رؤيتها فى ملفى العراق وفلسطين.. كما أوضحت مجريات الأمور فى الأيام الماضية.. وهل يمكن أن تسعد بعض الدوائر العربية.. وهى ترى نفسها متهمة بدعم الإرهاب أو تعانى منه.. بينما مصر تعود من جديد إلى الساحة الفلسطينية لتعيد الهدوء وتنشيط عملية السلام.. وتحفز منظمات المقاومة الفلسطينية فى اتجاه مختلف عما تقوم به ويؤدى إلى اتهامها بالإرهاب.
&&&& ثم.. لِمَ علينا أن ننسى مأزق تلك «الكرملينات».. وهى تواجه الأصوات المطالبة بالإصلاحات الداخلية فى دولها؟.. أليس عليها وقتها وهى تعجز عن أن تلبى المطالب الداخلية أن تصنع أكذوبة وتصدر إلى جماهيرها «قلقا دستوريا» توهمت أنه موجود فى مصر.. لكى ينشغلوا به عما يعانون منه؟!(نقلا عن روزاليوسف)
التعليقات