عقدت مؤسسة الفكر العربي مؤخرا مؤتمرها الثاني في بيروت تحت شعار " استشراف المستقبل العربي" بحضور أكثر من ألف مدعو من الساسة والمفكرين والأكاديميين والصحفيين العرب وغير العرب. وكان لي شرف المشاركة في هذا التجمع الضخم كمنسق ومدير للمحور الخاص ببحث مستقبل العلاقات العربية-الآسيوية. ولئن كان إدراج مثل هذا الموضوع ضمن محاور المؤتمر الكثيرة أمراً يحسب للقائمين علي المؤسسة الداعية ويشكرون عليه كثيرا كونه إضافة ثمينة إلي كل الجهود التي بذلت في السنوات القليلة الماضية لتعزيز علاقات العرب بشعوب وحكومات وتكتلات القارة الآسيوية وفق مفهوم التوجه شرقا وانطلاقا مما لآسيا من مكانة حالية ومستقبلية علي الساحة الدولية وما يدور فيها من حراك نهضوي سياسي واقتصادي وثقافي وعلمي وما تراكم لديها من تجارب جديرة بالدرس والتأمل والاقتباس للخروج من حالة الإحباط العربية , فان أمورا أخري تنظيمية حالت دون ايلاء الموضوع الدرجة التي يستحقها من العناية والاهتمام والبحث والمتابعة والتغطية الإعلامية.
والنقاط التي سوف أسوقها فيما يلي، ليست سوي ملاحظات باحث مستقل غيور علي سلامة جسد مؤسسة الفكرالعربي الوليدة من الترهل واللافاعلية التي أصابت مثيلاتها كنتيجة لتحولها من كيان يستهدف صياغة حلول واقعية ومنطقية لمشاكل الأمة الكثيرة إلي مسرح للخطب الجوفاء والشعارات الطوباوية من تلك التي لا تعترف بنواميس العصر ولا تتلاءم مع مستجداته ولا تخاطب عقول العرب وإنما تستجدي عواطفهم.
لقد أكد رئيس المؤسسة الأمير خالد الفيصل لمنسقي محاور مؤتمر بيروت في اجتماع خاص مغلق أنه حريص علي ألا تسبغ أية هوية إيديولوجية علي مؤسسته قائلا أن هدفها مجرد من الأهواء السياسية ومنصب فقط علي استيلاد الحلول الكفيلة بنهضة العرب عبر وضع المال في خدمة الفكر. إلا أن هذا لم يمنع من تسرب شخوص لطالما عرفت بخطابها الإنشائي الانفعالي وبتعلقها بالشعارات الحماسية البالية إلي حفل الافتتاح وغيره محاولة إسباغ هوياتها وطروحاتها الفكرية البليدة علي المؤسسة , الأمر الذي أثار استياء واستغراب بعض الزملاء المشاركين في المؤتمر من غير العرب ممن لم يتعودوا علي مثل هذه الأنماط في اجتماعاتهم الفكرية. هذه ملاحظة أولية نتمني مخلصين من رئيس مؤسسة الفكر العربي أن يوليها اهتمامه الشخصي ولا يتركها تمر دون ترشيد أو محاسبة كيلا تطبع مؤسسته زورا بهوية ما وللحيلولة دون الوقوع في ما وقعت فيه مؤسسات فكرية عربية أخري.
أما الملاحظات الأخري فتتعلق بالمحور الذي كلفت بإدارته , وقد ينطبق بعضها علي محاور المؤتمر الأخري. وأولي هذه الملاحظات أن موضوعا كبيرا ومهما ومتشعبا مثل موضوع العلاقات العربية-الآسيوية لا يمكن أن يختزل في مجرد محور يخصص له اقل من ساعتين من الزمن. إذ أن لهذه العلاقات أوجها متعددة سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية وتاريخية , كما أن لها مستويات متباينة انطلاقا من أننا نتحدث عن أقطار عربية تتفاوت قوة علاقاتها مع آسيا بحسب قربها وبعدها الجغرافي عن المنطقة الآسيوية أو بحسب ما تراكم تاريخيا بينها وبين الأخيرة من روابط ومصالح ووشائج. فروابط منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية التاريخية والحالية بدول جنوب وجنوب شرق آسيا مثلا لا يمكن أن تقارن بعلاقات الأخيرة مع أقطار المغرب العربي كي يتم التعامل معها علي مستوي واحد. هذا فضلا عن حقيقة أن آسيا نفسها لا تمثل كتلة واحدة وإنما مجموعة دول أو كتل متفاوتة في مكانتها العالمية وقوتها ودرجة نهضتها ولكل منها مصالحها وطموحاتها وسياساتها غير المتطابقة حيال الآخر، مما يصعب معه النظر إليها نظرة شمولية.
ولعل مما زاد من أسف المشاركين في هذا المحور - وربما أشاع فكرة أن مؤسسات الفكر العربية مثلها مثل صناع القرار العرب يستخفون بأمر العلاقات مع آسيا ولا يولونه الاهتمام والعناية الكافية مقابل اهتمام بالغ بموضوع العلاقات مع الغرب - أمران:
الأول , أنه علي عكس بقية محاور المؤتمر المخصصة لمستقبل علاقات العرب مع الولايات المتحدة وأوروبا وأفريقيا , لم تطرح في المحور العربي-الآسيوي سوي ورقة بحث يتيمة من إعداد أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة الدكتور محمود عبدالفضيل شابها قصور كبير مما جعلها تتعرض إلي انتقادات كثيرة. وبطبيعة الحال فانه لا يمكن توجيه اللوم إلي الباحث أو الطعن في قدراته الأكاديمية. فهو أكاديمي مخضرم وقدير في مجال تخصصه بدليل آثاره العلمية المنشورة. إنما اللوم يقع علي الجهة المنظمة التي ألقت علي كاهل باحث وحيد مهمة إعداد ورقة شاملة بدلا من أن توزع المهمة علي عدة أشخاص وتكلف كلا منهم بدراسة جانب من جوانب العلاقات العربية-الآسيوية مع اختيار أكاديميين متخصصين في شئون آسيا للاضطلاع بالمهمة , خاصة وأن هؤلاء معروفون وبعضهم دعي إلي المؤتمر كمعقب.
وان كان هناك من نقد آخر يوجه إلي الجهة المنظمة فهو أنها لأسباب غير معروفة أو مبررة أقحمت في المحور العربي-الآسيوي شخصيات إما أن لا علاقة لها البته بموضوع النقاش أو أنها تشغل وظائف رسمية في الأقطار الآسيوية بحيث يجعل حديثها مجرد صدي وتلميع لسياسات حكوماتها. فعلي سبيل المثال اللاحصري , فوجيء المجتمعون في ورشة العمل الخاصة بالعلاقات العربية الآسيوية في اللحظة الأخيرة بوجود سفيرة باكستان لدي لبنان الدبلوماسية القديرة أسماء أنيسا بينهم كمعقبة , مما كاد أن يوقع ورشة العمل في مهاترات جانبية بسبب تلميح السفيرة إلي علاقات الهند بإسرائيل ومحاولتها الدفاع عن ارتباطات بلادها السابقة بالأحلاف الغربية.
الأمر الثاني هو إدراج موضوع العلاقات العربية-الآسيوية في مؤخرة جدول أعمال المؤتمر , أي في التوقيت الذي يكون فيه المشاركون قد نالهم التعب وخف حماسهم أو رتبوا أوضاعهم للعودة إلي بلادهم. وتشاء الصدف أن يكون موعد الجلسة العامة لمناقشة هذه العلاقات في نهاية الأسبوع , أي في اليوم الذي يحتجب فيه بعض الصحف , ولا سيما صحيفة المستقبل التي تطوعت بعمل تغطيات واسعة لجلسات المؤتمر ومناقشاته عبر ملاحق خاصة غنية بالمقابلات والآراء والحوارات. وهكذا حرم محور العلاقات العربية الآسيوية مما تمتعت به المحاور الأخري إعلاميا ليكون نصيبه بضع سطور في صفحات الجرائد الداخلية من ضمن أخبار كثيرة متناثرة , وبالتالي لم يطلع الكثيرون علي التصورات التي خرجنا بها والتي يمكن اختصار أهمها - وليس كلها - فيما يلي:
أولا : إخراج العلاقات العربية-الآسيوية من شكلها الراهن المتمحور حصرا في المبادلات التجارية إلي شكل من أشكال الشراكة الاستراتيجية طويلة الأمد في مختلف المجالات وبخطوط ومعالم واضحة.
ثانيا : ضرورة أن ينطلق صانع القرار العربي في سياساته الخارجية تجاه الآخر الآسيوي من منطلق المصلحة الوطنية وليس من منطلق العاطفة والعوامل الإيديولوجية التي كثيرا ما أعاقت العلاقات العربية مع هذا القطر الآسيوي أو ذاك.
ثالثا : ضرورة تعزيز الاتصالات الثنائية والجماعية مع آسيا علي جميع المستويات بدءا بالقمة ونزولا إلي مستويات الأكاديميين والأحزاب والنقابات و رجال الأعمال وقطاعات الشباب.
رابعا : العمل علي إنشاء مراكز متخصصة في الدراسات الآسيوية ملحقة بالمعاهد والجامعات العربية من أجل فهم أوضح لما يدور في آسيا.
خامسا : ضرورة الاهتمام بترجمة أهم ما يطرح سنويا من عناوين في أقطار آسيا الناهضة من اجل تواصل ثقافي ومعرفي أفضل مع تلك الأقطار وشعوبها وآثارها العلمية والفكرية.
يبقي أن نقول أن مؤسسة الفكر العربي بدعوتها لحشد كبير من الشخصيات من مختلف المشارب والأصقاع أتاح فرصة ذهبية لحدوث الكثير من اللقاءات والحوارات الجانبية في أروقة المؤتمر وخارجها ولنسج المزيد من العلاقات ما بين المفكرين و الأكاديميين والإعلاميين مما قد ينجم عنها ميلاد أفكار وأعمال جديدة في المستقبل تصب في ذات الهدف الذي تعمل من اجله المؤسسة. وهي بتخصيصها جلسة خاصة للشباب من الجنسين لشرح طموحاتهم وأحلامهم وآرائهم بحرية وتلقائية أتاحت لجيل الكبار ما لم تتحه مؤسسة أخري من قبل لجهة الاحاطة مباشرة بما يدور في أذهان الجيل الجديد من آراء ومواقف حول الملفات المطروحة في عالم اليوم وعلي رأسها الديمقراطية وحقوق الإنسان والعولمة والإرهاب والتطرف.