كنت أريد الكتابة هذا الأسبوع عن واقعة جرت لنجيب محفوظ في الاحتفالات بعيد ميلاده، ولكن رحيل شاعرة فلسطين فدوي طوقان فرض نفسه علي، والذي جري أن شهيرة أمين حفيدة أحمد أمين، ومراسلة CNN في القاهرة، جاءت إلينا وسألت نجيب محفوظ أن يقول كلمة في هذه المناسبة، قال عن مصر إنه يتمني أن تخرج من أزمتها، بأقل الخسائر الممكنة، أما عن أمريكا فهو يقول للرئيس جورج بوش، إنه يمكنه أن يقود العالم بالعدل وليس بالظلم، بالضمير وليس بالعضلات، قبل حضورها كان معنا سفير فرنسا في القاهرة، الذي حمل لنجيب محفوظ تحيات الرئيس الفرنسي جاك شيراك وتهنئته بعيد ميلاده، وحمل له أول نسخة للترجمة الفرنسية لأحلام فترة النقاهه، التي صدرت بالفرنسية بالرغم إنها لم تصدر بالعربية بعد، مراسل وكالة الأنباء الفرنسية طير الخبر، قبل أن يعلن تليفزيونيا، تدخل الأمريكان ومنعوا إذاعة التصريح، وغضب المصريون، وعاتبوا بعض القريبين من نجيب محفوظ، فالرجل من وجهة نظرهم، حاصل علي نوبل، وكلماته مسموعة. واقعة تستحق أن تكتب وأن تسجل.
والآن إلي فدوي طوقان التي رحلت بعد أن شاهدت بأم عينيها، دبابات العدو الإسرائيلي، وهي تدنس مدينتها نابلس، وتحطمها، رغم إنها شاعرة فلسطين، التي أنثت المقاومة الفلسطينية والنضال الفلسطيني، في مثل هذه الحالة تكتب المراثي، وقصة الحياة، ويتحول الأمر إلي تكرار من صحيفة إلي اخري، وجدت في مكتبتي كتابا، من أحدث الكتب التي صدرت في المشروع القومي للترجمة، عنوانه في طفولتي: دراسة في السيرة الذاتية العربية تأليف: تيتز رووكي وترجمه : طلعت الشايب وراجعه وقدمه: رمضان بسطاويسي، ويحمل رقم 500، في هذا المشروع، الذي يعد تكمله للمشروع القديم الألف كتاب. والكتاب في الأصل رسالة دكتوراه في الأدب العربي من جامعة ستوكهولم عام 1997، تناولت مرحلة الطفولة لدي طه حسين وتوفيق الحكيم وفدوي طوقان، وجبرا إبراهيم جبرا ومحمد قرة علي. هذه قراءة فيما يخص فدوي طوقان في هذه الدراسة، التي اعتمدت علي كتابها رحلة جبلية .. رحلة صعبة الصادر عام 1985، يقول الباحث إن شخصية الأب الثري "المقصر" أو" الفاشل" موجودة بوضوح في سجن العمر" - السيرة الذاتية لتوفيق الحكيم - وفي "رحلة صعبة .. رحلة جبلية" لفدوي طوقان
في العمل الأول، نجد نقد الأب يمتزج بنوع من السخرية مما يجعل النص مرحا وجاداً في الوقت نفسه. السمة المميزة هي السخرية أكثر مما هي الغضب أو الحزن، قصة فيللا الأسرة في الإسكندرية توضح الصفة الفكاهية للنص عندما تتناول الصراعات داخل الأسرة وهذه الفيللا رمز لحماقات الأب علي وجه الخصوص، فهو أحمق عندما اشتري المنزل بداية وأكثر حماقة عندما يفكر في تجديده، يقول الكاتب إنه لا يعرف من منهما (الأب أو الأم) كان صاحب تلك الفكرة النيرة وإن كان يعرف أن أول خبطة فأس في جدران ذلك البيت كان من المستحيل إصلاح ما أحدثته ولو بكل أموال الدنيا. المشكلة أن الأب لم يستشر مهندسا، بل إنه باشر العمل بنفسه ليفشل كعادته. بالنسبه له كانت المعرفة شيئا والتنفيذ شيئا آخر، وبسخرية شديدة يصف الابن أباه بالمهندس العبقري" الذي كان من الحماقة ليرهن المنزل. ولم تستطع الأسرة أن تتخلص من تلك الخرابة المسماة بالمنزل إلا بعد وفاته، إلا أن المنزل قبل ذلك وبعده، كانت له فائدة كنقطة انطلاق للموكب الجنائزي لصاحبه اللورد المحترم كما يقول الحكيم بسخرية لاذعة وهنا تنتهي قصة "الفيللا" بمشهد الموت ودفن الأب، المنزل أصبح رمزا لسلطة الأب وفشله في أن يفرض إرادته علي ابنه ودفن الأب هو دفن لسلطته ونفوذه علي عقل البطل. والتخلص من المنزل معناه التخلص من النير الأبوي بداخله، أو لعله محاولة لذلك. فدوي مالطي دوجلاس لاحظت أن سيرة فدوي طوقان لا تسير في تسلسل زمني واضح. وتصف النص بأنه متنشظ، وإنه هدم لكتابة السيرة الذاتية بشكل تقليدي، الحكيم أيضا متحرر من سطوة الزمن وكلاهما يصف وفاة والده، بإنها تحرر، بالنسبة لفدوي كانت خروجا من "قمقم الحريم"، لكن سجن الأسرة ليس مجرد موروث داخلي لا يمكن الهرب منه، فهو موجود كحقيقة خارجية أيضا كقسر سلطوي، تكتب فدوي في سيرتها: والنسبة الضئيلة التي تركت لي حرة من حياتي قضيتها كلها في الكفاح والصراع ضد العوائق التي وضعها أهلي أنفسهم في طريقي ومن خلفهم المجتمع كله في ذلك الوقت، فوالدي الذي أورثني حب الأدب هو نفسه الذي يصدني عن الأدب ووالدتي التي أورثتني الإرادة تقف بإرادتها دون رغبتي الفنية. عند الحكيم نجد أن العنوان "سجن العمر" يغطي هذه الجوانب كلها في الحاضر الموروث النفسي عن الوالدين هو عبارة عن سجن يحبس المؤلف داخل أسوار عقلية غير مرئية، في الماضي كانت تعليمات وأوامر الوالدين سجنا يحبسه في داخل أسوار التقاليد، والسعي من أجل التحرر معبرا عنه علي مستويين في السرد. المشاهد المتكررة التي يظهر فيها الطفل مسجونا أو معاقبا أو ممنوعا من قبل والديه من أن يمارس إرادته الحرة، هذه المشاهد سلسلة تصور لقارئ لماذا تبدو الحياة سجنا بالنسبة للإنسان؟.
ان الهجوم علي الأم في مذكرات فدوي طوقان يكشف الغموض شبه المقدس للأمومة، الذي هو حلم حياة كافة نساء الشرق الأوسط. علي ضوء ذلك فإن الإتهام الفعلي الذي توجهه الرواية لأمها هو إنها لم تقدر الأمومة حق قدرها. مرارة "فدوي طوقان" تجاه والديها يمكن مقارنتها بمرارة "طه حسين" تجاه والديه في "الأيام" فإن ذلك الشعور بالمرارة واضح في الجزء الثاني من الأيام علي نحو خاص، وإن كان يمكن ملاحظته في العمل بمجمله "طه حسين" لديه حالة أقوي للشكوي من تلك لدي فدويفهو قد أصيب بالعمي بسبب إهمال أمه، الإهمال نفسه الذي كان سببا في وفاة إحدي شقيقاته فيما بعد، الجزء الأول مترجم هذا الكتاب هو طلعت الشايب، العائد من قطر مؤخراً، بعد فترة طويلة قضاها هناك، ومع هذا إستطاع أن يثبت نفسه، كواحد من أهم المترجمين، وأكثرهم جديه، علي الساحة العربية الآن. ولد في 1942 في البتانون بمحافظة المنوفية، وحصل علي ليسانس في الأدب الانجليزي والتربية عام 1962، يترجم من وإلي العربية والإنجليزية والروسية، عمل بالتدريس والترجمة والصحافة الثقافية في كل من مصر والكويت وقطر (1962- 1992)، عضو اتحاد الكتاب ولجنة الترجمة بالمجلس الأعلي للثقافة، رئيس تحرير سلسلة "آفاق عالمية" التي تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وعضو مجلس تحرير مجلة "أدب ونقد" والفرع المصري لنادي القلم الدولي. الذي لا يحب طلعت عن نفسه، إنه كان يترجم بين قادة القوات المصرية المسلحة، والخبراء السوفيت في مصر، في مرحلة من ازهي وأجمل مراحل النضال المصري ضد العدو الصهيوني. أما ترجماته فهي : حدود حرية التعبير - المثقفون - صدام الحضارات - فكرة الإضمحلال في التاريخ الغربي - الحرب الباردة الثقافية (المخابرات المركزية الأمريكية وعالم الفنون والآداب) ومن الروايات: البطء - الملاك الصامت - فتاة عادية - عاريا أمام الآلهة - الحرير - الحمامة - اتبعي قلبك - الخوف من المرايا - بقايا اليوم. وفي الشعر: أصوات الضمير. وفي القصص القصيرة: أنا القمر - مكتوب وهوس العمق. أمسك الخشب كما يقولون في الأحياء الشعبية، حتي لا نحسد طلعت الشايب علي كل هذه الجهود.