&
كان المشهد سينمائيا بكل المقاييس، حين وقف بول بريمر الحاكم الأمريكي للعراق على مرأى من العالم وهو يتنفس ببطء وعمق وينظر حواليه بتمعن، ثم يسمك الميكرفون قائلا بصوت رخيم مسرحي: لقد "قفشناه"!
وهي عبارة تذكرني بعبارة الممثل الشهير كلينت أستوود في سلسلة أفلامه الشهيرة "هاري القذر" وهو يحدق في عيون مجرميه وفي يده مسدس كولت 38 ويهدد كل من يقع في قبضته: "خللي النهاردة يومي"!.
فيستسلم المجرم على الفور أو ينال طلقة سريعة في الرأس!
السينما هي كلمة السر في الحياة الأمريكية.. اللفتة، الحركة، تسريحة الشعر، طريقة نطق الكلام، العبارة المثيرة المدهشة، لا يختلف الأمر في علاقات الحب العابرة ولا في اختيار رئيس الدولة..ولم يكن غريبا أن يصل ممثل نصف موهوب إلى هذا المنصب هو رونالد ريجان أو يفكر فيه ممثل عضلات هو أرنولد شوارزنيجر!
&وقد تكون السينما أيضا هي كلمة السر في محاكمة الرئيس الأسير صدام حسين!
فصدام حسين هو أضخم" عرض " مسرحي في تاريخ الولايات المتحدة الآن، عرض تتوافر له فرصة نادرة لـ"تكسير الدنيا" بالتصفيق والهتاف والصراخ والهياج والأتوجرافات، وسوف تستغله أو تمص دمه إلى آخر قطرة!
وقد بدأ فعلا..دون أن تطلب الإدارة الأمريكية من جمهور الكرة الأرضية أن يقطع تذكرة دخول، ودون أن تطفئ أنوار الصالة..فالعصر غير العصر و السياسية غير السينما، نحن في عصر كشف المستور على الهواء مباشرة، والسياسة لعب على المكشوف، وإضاعة الوقت رفاهية أكثر من اللازم، خاصة أن الانتخابات الرئاسية على بعد 11 شهرا، والناخب الأمريكي يختار "الصورة" التي تنحتها شاشات التليفزيون في خياله وترسمها كتابات الصحف في عقله!
ولو كانت إدارة المرة جاءج بوش تقدر أن تأخذ الرئيس العراقي في جولة بالمدن الأمريكية لفعلت ألف مرة!
&لكن الواقع هذه المرة& جاء على غير هواها ولا تفلح معه القوة المسلحة الرهيبة في تعديله أو تغييره..وإذا حاولت القفز عليه أو الالتفاف حوله.. قد يربح منه الرئيس الأسير وقد يخرج من محبسه..وهو الواقع القانوني...أي كيف يحاكم الرئيس المخلوع صدام حسين، وما هو القانون الذي ستعلق الإدارة الأمريكية رأس صدام على بنوده؟
المحاكمة السياسية سهلة..عبارات طنانة وعائمة لها ألف وجه وخلفها ألف قناع، والأسود فيها أبيض، والأحمر لا لون له!
لكن المحاكمة القانونية صعبة..إجراءات ومواد وقرائن وأدلة واستئناف ومحكمة دستورية!
هل هو أسير حرب له حقوق الأسير وفق معاهدة جنيف؟!
هل هو مجرم حرب تنظر قضيته المحكمة الدولية؟!
الإجابتان ليسا في صالح الولايات المتحدة..
أسير حرب..هو اتهام بمثابة فرصة لصدام حسين ليصمد أمامه ويخرج من سجنه مثل خروج الشعر من العجين بالقانون والمواثيق والأعراف!
مجرم حرب.. هو اتهام شنيع يمسك بتلابيب صدام حسين ويلف حبل المشنقة حول رقبته، لكن الولايات المتحدة لم توقع على وثيقة المحكمة الدولية لمجرمي الحروب..ولا العراق أيضا وقع عليها!
إذن الإدارة الأمريكية أمام معضلة..لن تحلها إلا بمحاكمته على أرض العراق على جرائم ارتكبها ضد شعب العراق، لكن السؤال الأخطر: من يشكل المحكمة؟!..من صاحب القرار فيها؟! هل قوات الاحتلال أم مجلس الحكم المؤقت؟!
قوات الاحتلال لا تمثل الشعب العراقي الضحية..ومجلس الحكم الانتقالي ناقص الشرعية فاقد الحجة..وأرض العراق نفسها تسكنها الفوضى القانونية..
وأتصور أن هذه المحاكمة لن تنصب قبل ستة أشهر على الأقل وربما سنة، تنقل فيها قوات الاحتلال السلطة إلى إدارة عراقية ولو شكليا، إدارة تنال اعترافا دوليا بوجودها، وهي التي تجرجر صدام حسين إلى ساحة القضاء!
محاكمة على أرض العراق..بقوانين العراق..ولا بديل لها
لكن خلال هذه المدة قبل ولادة "إدارة شرعية ولو مشوهة"..ماذا يحدث؟!
محاكمة على الهواء..
اتهامات ومدعون ودفاع وضحايا وشهود ومرافعات وطلبات تأجيل وانتداب خبراء وتقديم مستندات..تحت أضواء كاميرات الفضائيات وفلاشات المصورين، بالبث المباشر من الاستوديوهات إلي أربعة أرجاء المعمورة!
وقد تكون هذه أول محاكمة في التاريخ تتحول إلى سيرك سياسي بالمعني الفعلي لا يكتفي فيه سكان الأرض جميعا بالجلوس على مقاعد المتفرجين وإنما سيزحفون لحظة بلحظة إلى منصة "المحلفين"!
أيها السادة..لقد دقت طبول رفع الستار..فاستعدوا..
لكن أيضا..قد تحدث بعض المفاجآت المذهلة، فالعمل كله سينما في سينما..مفاجآت على أيدي "المقاومة العراقية"، وينجرف العرض المثير من الهزل إلى الجد ومن الملهاة إلى المأساة، ومن التليفزيون إلى الواقع!
أيا كانت النتائج..نحن أمام فصل جديد في تاريخ البشر:& سياسيا وعلاقات دولية..
فصل تكتبه الكاميرا والشاشة الصغيرة والأقمار الصناعية ومذيع وميكرفون، وتعرضه أولا بأول على الجمهور!
"سيداتي سادتي..مساء الخير..
هذه حلقة جديدة من محاكمة الرئيس العراقي صدام حسين على الهواء مباشرة، فأبقوا معنا بعد هذا الفاصل الإعلاني"!
هذا هو عصر المعلومات وجانب من جوانب العولمة..
ومحكمة صدام حسين على الهواء، لم تكن الأولي من نوعها..لكنها الأخطر والأهم وأكثرها جماهيرية وشعبية وترقبا!
وقد سبق أن شاهدنا محاكمة رؤساء سابقين على الهواء مباشرة، مثل مانويل نورييجا، وأوجست بينوشيه وسولوبدان ميلوسيفيتش!
وأقربهم إلى صدام حسين هو جزار يوغسلافيا السابق ميلوسيفيتش الذي مازال يحاكم الآن أمام محكمة دولية في مدينة هولندية صغيرة اسمها"لاهاي"، دون أن يحس به أحد إلا نادرا، وكانت آخر جلساتها مواجهة صاخبة بالكلمات بينه وبين ويسلي كلارك القائد الأعلى السابق لحلف الأطلنطي، استمرت خمس ساعات، بعد مواجهة دامية بينهما بصواريخ كروز وغارات الطائرات في حرب البلقان صيف عام 1999، ودامت سبعة وسبعين يوما!
في هذه المرة وقف سلوبودان خلف القضبان..متهما حاليا ورئيسا سابقا..
وجلس كلارك على مقاعد الشهود..جنرالا سابقا ومرشحا حاليا في سباق الرئاسة الأمريكية..
لم يكن ممكنا أن يهتم العالم بمحاكمة سلوبودان ميلوسيفيتش، بالرغم من وجود كاميرة تليفزيون وميكرفون في يد مذيع وقناة فضائية وقمر صناعي وبث مباشر، لأن مسلسلا آخر كتبته واشنطن قد بدأت بثه وعرضه على العالم أجمع وله اسم شديد الجاذبية هو "الحرب على الإرهاب"!
ورسميا عقدت أول جلسات محاكمة ميلوسيفيتش في الثالث من يوليو 2001، وكانت عيون العالم أجمع تتابع أول محكمة رئيس دولة في محكمةالعدل الدولية في لاهاي، لتراقب بنفسها تدشين حقبة جديدة في السياسة الدولية أدواتها مزيج من الديمقراطية وحقوق الإنسان!
وقد صاحب العرض كل "عناصر" الإثارة المطلوبة..
أولا..نقل الرئيس الصربي إلى المحكمة في عيد فيدوفان "القديس فيتوس"، أهم أعياد الصرب الدينية!
ثانيا..ترحيله بطائرة أوريون تابعة للسلاح الجوي الملكي البريطاني من السجن المركزي في بلغراد إلى قاعدة فلكنبورج العسكرية الواقعة شمال لاهاي ثم نقله بطائرة أخرى إلى السجن في حي شيفينينجن على بحر الشمال!
ثالثا..فيلم تسجيلي صوره التليفزيون الهولندي من على ارتفاع مئات الأمتار له وهو يتجول في ساحة السجن محني الظهر ومكبلا بالأصفاد!
رابعا..البث المتواصل عن حالته الصحية وأن الفحوصات الطبية أثبتت أنه لا يشكو من علة تعيق محاكمته!
خامسا..إعلان طاقم الدفاع عنه أن المحاكمة باطلة لأن موكلهم قد خطف خطفا من يوغسلافيا إلى هولندا!
سادسا..قائمة اتهامات ساخنة جدا أقلها الاغتصاب وتعذيب النساء في البوسنة وكوسوفا, وأشدها إبادة الجنس البشري!
لكن ..كان القدر يخبئ سيناريو أكثر إثارة..
هجمات إرهابية بطائرات مدنية على برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك ومبني وزارة الدفاع الأمريكية في واشنطن..
فعبرت عيون العالم المحيطين الأطلنطي والهادي إلى بلاد العام سام..ولم تعد بعد إلى المحاجر، وظلت محدقة في مسلسل، كلما اقترب من الحلقة الأخيرة، تجددت أحداثة الغريبة..من أفغانستان إلى العراق، من كهوف بورا تورا إلى ضفاف دجلة والفرات، من كابول إلى بغداد..من أسامة بن لادن إلى صدام حسين!
فكيف يمكن أن يتنبه أحد إلى ميلوسيفيتش؟!..أو إلى ما قاله كلارك عن الجزار الصربي وما قدمه من أدلة؟!
أيها السادة..صدام حسين أكثر جاذبية.. لأنه "جسر" يمكن بناؤه إلى حلقة ثلاثة من الحرب!
بل أن العالم الآن ينتظر نتيجة المطاردة المستعرة الآن بحثا عن أسامة بن لادن، فصائدو الجوائز وهو تراث أمريكي في تعقب المطاردين، يتشممون 25 مليون دولار مع كل "مطلوب" يسلم إلى القوات الأمريكية..لاسيما وأن الرئيس بوش أخذ يضحك مع مذيع تليفزيوني وهو يقول: نعم ..بن لادن هارب الآن ولن يثرثر هذه الأيام، وهو على الأرجح في جحر في مكان ما للإفلات من العدالة..أننا نتعقبه وسوف نعتقله حيا أو ميتا!
هذا مشهد سينمائي..شديد الحرفية!
ولا يقل حرفية عن المشهد الذي أخرجه بوش الأب في عام 1989 حين أرسل بقوات المارينز إلى بنما، فتخطف الرئيس مانويل نورييجا وتأتى به إلى ولاية فلوريدا، وتحاكمه علنا على جرائم جنائية!
ونورييجا مثل صدام حسين بالضبط..صناعة أمريكية من الألف إلى الياء، والتشابه بين الرجلين كبير جدا..فكلاهما جرب أن يعيش على العسل الأمريكي طويلا ثم& يتجرع المر في النهاية!
الفارق أن نورييجا هو رجل وزارة الدفاع الأمريكية منذ أوائل الخمسينيات حين كان مجرد ملازم في الجيش البنامي، وظل على لائحة مرتباتها حسب الوثائق التي أفرج عنها مؤخرا حتى شهور قليلة من الغضب عليه، بل أنه كان عميلا في المخابرات الأمريكية أيضا براتب دائم، وشغل وظيفة "مخبر" حسب ما ورد في تلك الوثائق بالنص!
لكن نورييجا في أمريكا اللاتينية، واللاتين غير الشرق أوسطيين، مغرمون بأخطر أنواع المخدرات وأكثرها ضررا: الكوكايين والهيروين، ولا يوجد جنرال حاكم في أمريكا الجنوبية من أقصاها إلى أقصاها إلا و"المخدرات" جزء من ثروته ونفوذه!
ولم يكن ممكنا أن يخرج نورييجا عن الصف والوراثة والعادات والتقاليد..
لكن من سوء حظه أن معدل الإدمان في الولايات المتحدة في الثمانينيات قد بلغ الذروة، وبات مشكلة مؤرقة تماما، إلى درجة أن وزير التعليم الأمريكي وقتها كتب كتابا شهيرا اسمه "أمه في خطر"، لا يتكلم فيه فقط عن تدهور مستوى التعليم وإنما يركز على وصول المخدرات إلى المدارس الابتدائية لتباع أمام أسوارها عيني عينك!
واستنفر المجتمع الأمريكي نفسه ليدرأ هذا الخطر القاتل..
في ذلك الوقت..كان نورييجا رجل أمريكا القوي يشغل منصب القائد العام للجيش البنامي،& منخرطا في أنشطة سرية عديدة، تهريب المخدرات، بيع الإسرار الأمريكية لكوبا، غسيل الأموال..الخ!
وفي عام 1988 وصلته بالرسالة من الإدارة الأمريكية تأمره أن يكف عن العمل الضار ويتوقف عن نشاط المخدرات تماما!
لكن نورييجا استهزأ بالرسالة ، وسخر من راسلها، فالطغاة من العسكر حين يكبرون ويتوحشون ويذوقون "دم الرفاهية المدنية" وهم في الزى الكاكي، يأخذهم الزهو والغرور كل مآخذ!
وبالرغم من هذا لم تغضب الإدارة الأمريكية..أو غضبت وكتمت رد فعلها في سرها..فتضخم غرور نورييجا وأقدم على الخطوة الخطأ الذي لا يغتفر، وهو تعديل موازين القوى في هذه المنطقة من العالم!
كانت الانتخابات الرئاسية البنامية قد جرت في مايو 1989 ونجح فيها الرئيس نيقولاس بارليتا، فألغاها نورييجا ونصب نفسه رئيسا بدلا منه..
وأرسلت إليه الإدارة رسالة جديدة فيها تهديد ووعيد..فلم يقبل بها، وبل وترك جنوده يقتلون جنديا أمريكيا من المارينز من القوات المتمركزة في قاعدة هناك لحماية الملاحة في قناة بنما!
فأمر الرئيس جورج بوش الأب قواته بأن تغزو بنما وأن تقبض على نورييجا وتأتي به معها!
وأحضر نورييجا إلي فلوريدا مقيدا في سلاسل غليظة..وحوكم على الهواء وعوقب بأربعين سنة سجنا!
لكن المذهل أن شهود الإثبات كانوا من كبار تجار المخدرات أيضا..عقد معهم النائب العام اتفاقا شاذا.. أن يشهدوا ضد نورييجا مقابل أن تسقط بعض التهم عنهم أو ينالوا عقوبات مخففة، فيستطيعون بعدها أن يدخلوا إلى الولايات المتحدة دون عقاب!
وهذه النقطة تحديدا كانت الأضعف في المحاكمة، وقد حاول محامو نورييجا استغلالها في الاستئناف، وقدم دليلا أن واحدا من الشهود قد اخذ مليون وربع مليون دولار رشوة ليشهد ضده، وهذا الشاهد نفسه كان مطلوبا من "العدالة الأمريكية"، وبالفعل استلم مبلغ الرشوة واتفق مع النيابة بأن يشهد وأن يخفف عنه الحكم إلى ثلاث سنوات فقط..
فهل يمكن أن تبحث واشنطن عن شهود من هذا النوع في محاكمة صدام حسين بالعراق؟!
بالطبع..ممكن جدا..فالعدالة الأمريكية قائمة على قاعدة ذهبية "اللي تغلب به ألعب به"، فنجد مجرمين طلقاء، وأبرياء "مساجين"!
وكما الحظ يتفاوت بين المجرمين أنفسهم، فهو يتفاوت أيضا بين الرؤساء..فبينما حوكم نورييجا، ويحاكم الآن ميلوسيفيتش، ويجري الإعداد لمحاكمة صدام.. فقد هرب الرئيس الشيلى الأسبق أوجست بينوشيه من الوقوف خلف الأسوار بمعجزة..وهرب الرئيس الفلبيني جوزيف استرادا من نفس المصير بتواطؤ!
بينوشيه هو نموذج مجسم للديكتاتور العسكري في دولة متوسطة من دول العالم الثالث مثل العراق وبقية الدول العربية، قتل وتعذيب وإعدام وانتهاك حقوق الإنسان، تلك الجرائم الشهيرة المعتادة في ذلك العالم المتخلف!
وهو أيضا صناعة أمريكية لصد المد الشيوعي في شيلي في السبعينيات، فصده بجرائم ضد الإنسانية، وقتل من مواطنيه ما يقرب من أربعة ألاف إنسان، منهم ما يزيد عن ألف ومائتي نفس لا يعرف مصيرها حتى الآن!
14 عاما من 1974 إلى 1988 وبينوشيه يرتكب من الفظائع ما يقتل النور في الفجر الوليد، لكن الولايات المتحدة راضية عنها ولا تسأله عما يفعل!
لكن بينوشيه المولود في عام 1922، كان في أرذل العمر حين زار بريطانيا في صيف عام 1998 طلبا للعلاج من أمراض الشيخوخة، فإذا به يجد نفسه مقبوضا عليه، بقرار من القضاء البريطاني!
كان عدد من ضحاياه قد رفعوا أمام المحاكم الأسبانية دعاوى وأخذوا أحكاما غيابية عليه دون أن تجد طريقها إلى التنفيذ..فكيف تشق طريقها إلى شيلي والجنرال بينوشيه تغطيه حصانة أضفاها عليه النظام هناك ضد أي محاكمة على الجرائم التي ارتكبها خلال حكمه؟!
وانتهز الضحايا فرصة وجوده في بريطانيا وفتحوا الملف مرة ثانية، فأرسل القضاء الأسباني طلبا تسليمه إلى أسبانيا لمحاكمته علانية!
أكثر من عام والقضية في المحاكم حتى اقترب بينوشيه من الترحيل إلى السجون الأسبانية لكن السياسة والحالة الصحية لعبت دورا كبيرا في أن يحاكم في شيلي، وهناك حكمت محكمة الاستئناف بأنه حالته العقلية لا تسمح بمحاكمته، لكن العالم استمتع بالعرض المثير شهورا طويلا!
أما جوزيف استرادا، فقد ترك السلطة مجبرا تحت تهديد المظاهرات والحناجر الغاضبة في شوارع مانيلا..وكانت الجماهير قد وصفته بأبغض الصفات: لص الأموال..المرتشي..زئير النساء الذي يبني لعشيقاته القصور من فلوس الدولة..وهرب استرادا من سلم الخدم في قصره الفاخر بينما كاميرات التليفزيون تتابع خطواته المرتعشة!
بالقطع نحن أمام عصر جديد، يمكن أن نسميه عصر محاكمة الرؤساء على الهواء، لعل هؤلاء الرؤساء وهم من العالم الثالث يرتدعوا عن أكل حقوق مواطنيهم بالباطل!
وهي عبارة تذكرني بعبارة الممثل الشهير كلينت أستوود في سلسلة أفلامه الشهيرة "هاري القذر" وهو يحدق في عيون مجرميه وفي يده مسدس كولت 38 ويهدد كل من يقع في قبضته: "خللي النهاردة يومي"!.
فيستسلم المجرم على الفور أو ينال طلقة سريعة في الرأس!
السينما هي كلمة السر في الحياة الأمريكية.. اللفتة، الحركة، تسريحة الشعر، طريقة نطق الكلام، العبارة المثيرة المدهشة، لا يختلف الأمر في علاقات الحب العابرة ولا في اختيار رئيس الدولة..ولم يكن غريبا أن يصل ممثل نصف موهوب إلى هذا المنصب هو رونالد ريجان أو يفكر فيه ممثل عضلات هو أرنولد شوارزنيجر!
&وقد تكون السينما أيضا هي كلمة السر في محاكمة الرئيس الأسير صدام حسين!
فصدام حسين هو أضخم" عرض " مسرحي في تاريخ الولايات المتحدة الآن، عرض تتوافر له فرصة نادرة لـ"تكسير الدنيا" بالتصفيق والهتاف والصراخ والهياج والأتوجرافات، وسوف تستغله أو تمص دمه إلى آخر قطرة!
وقد بدأ فعلا..دون أن تطلب الإدارة الأمريكية من جمهور الكرة الأرضية أن يقطع تذكرة دخول، ودون أن تطفئ أنوار الصالة..فالعصر غير العصر و السياسية غير السينما، نحن في عصر كشف المستور على الهواء مباشرة، والسياسة لعب على المكشوف، وإضاعة الوقت رفاهية أكثر من اللازم، خاصة أن الانتخابات الرئاسية على بعد 11 شهرا، والناخب الأمريكي يختار "الصورة" التي تنحتها شاشات التليفزيون في خياله وترسمها كتابات الصحف في عقله!
ولو كانت إدارة المرة جاءج بوش تقدر أن تأخذ الرئيس العراقي في جولة بالمدن الأمريكية لفعلت ألف مرة!
&لكن الواقع هذه المرة& جاء على غير هواها ولا تفلح معه القوة المسلحة الرهيبة في تعديله أو تغييره..وإذا حاولت القفز عليه أو الالتفاف حوله.. قد يربح منه الرئيس الأسير وقد يخرج من محبسه..وهو الواقع القانوني...أي كيف يحاكم الرئيس المخلوع صدام حسين، وما هو القانون الذي ستعلق الإدارة الأمريكية رأس صدام على بنوده؟
المحاكمة السياسية سهلة..عبارات طنانة وعائمة لها ألف وجه وخلفها ألف قناع، والأسود فيها أبيض، والأحمر لا لون له!
لكن المحاكمة القانونية صعبة..إجراءات ومواد وقرائن وأدلة واستئناف ومحكمة دستورية!
هل هو أسير حرب له حقوق الأسير وفق معاهدة جنيف؟!
هل هو مجرم حرب تنظر قضيته المحكمة الدولية؟!
الإجابتان ليسا في صالح الولايات المتحدة..
أسير حرب..هو اتهام بمثابة فرصة لصدام حسين ليصمد أمامه ويخرج من سجنه مثل خروج الشعر من العجين بالقانون والمواثيق والأعراف!
مجرم حرب.. هو اتهام شنيع يمسك بتلابيب صدام حسين ويلف حبل المشنقة حول رقبته، لكن الولايات المتحدة لم توقع على وثيقة المحكمة الدولية لمجرمي الحروب..ولا العراق أيضا وقع عليها!
إذن الإدارة الأمريكية أمام معضلة..لن تحلها إلا بمحاكمته على أرض العراق على جرائم ارتكبها ضد شعب العراق، لكن السؤال الأخطر: من يشكل المحكمة؟!..من صاحب القرار فيها؟! هل قوات الاحتلال أم مجلس الحكم المؤقت؟!
قوات الاحتلال لا تمثل الشعب العراقي الضحية..ومجلس الحكم الانتقالي ناقص الشرعية فاقد الحجة..وأرض العراق نفسها تسكنها الفوضى القانونية..
وأتصور أن هذه المحاكمة لن تنصب قبل ستة أشهر على الأقل وربما سنة، تنقل فيها قوات الاحتلال السلطة إلى إدارة عراقية ولو شكليا، إدارة تنال اعترافا دوليا بوجودها، وهي التي تجرجر صدام حسين إلى ساحة القضاء!
محاكمة على أرض العراق..بقوانين العراق..ولا بديل لها
لكن خلال هذه المدة قبل ولادة "إدارة شرعية ولو مشوهة"..ماذا يحدث؟!
محاكمة على الهواء..
اتهامات ومدعون ودفاع وضحايا وشهود ومرافعات وطلبات تأجيل وانتداب خبراء وتقديم مستندات..تحت أضواء كاميرات الفضائيات وفلاشات المصورين، بالبث المباشر من الاستوديوهات إلي أربعة أرجاء المعمورة!
وقد تكون هذه أول محاكمة في التاريخ تتحول إلى سيرك سياسي بالمعني الفعلي لا يكتفي فيه سكان الأرض جميعا بالجلوس على مقاعد المتفرجين وإنما سيزحفون لحظة بلحظة إلى منصة "المحلفين"!
أيها السادة..لقد دقت طبول رفع الستار..فاستعدوا..
لكن أيضا..قد تحدث بعض المفاجآت المذهلة، فالعمل كله سينما في سينما..مفاجآت على أيدي "المقاومة العراقية"، وينجرف العرض المثير من الهزل إلى الجد ومن الملهاة إلى المأساة، ومن التليفزيون إلى الواقع!
أيا كانت النتائج..نحن أمام فصل جديد في تاريخ البشر:& سياسيا وعلاقات دولية..
فصل تكتبه الكاميرا والشاشة الصغيرة والأقمار الصناعية ومذيع وميكرفون، وتعرضه أولا بأول على الجمهور!
"سيداتي سادتي..مساء الخير..
هذه حلقة جديدة من محاكمة الرئيس العراقي صدام حسين على الهواء مباشرة، فأبقوا معنا بعد هذا الفاصل الإعلاني"!
هذا هو عصر المعلومات وجانب من جوانب العولمة..
ومحكمة صدام حسين على الهواء، لم تكن الأولي من نوعها..لكنها الأخطر والأهم وأكثرها جماهيرية وشعبية وترقبا!
وقد سبق أن شاهدنا محاكمة رؤساء سابقين على الهواء مباشرة، مثل مانويل نورييجا، وأوجست بينوشيه وسولوبدان ميلوسيفيتش!
وأقربهم إلى صدام حسين هو جزار يوغسلافيا السابق ميلوسيفيتش الذي مازال يحاكم الآن أمام محكمة دولية في مدينة هولندية صغيرة اسمها"لاهاي"، دون أن يحس به أحد إلا نادرا، وكانت آخر جلساتها مواجهة صاخبة بالكلمات بينه وبين ويسلي كلارك القائد الأعلى السابق لحلف الأطلنطي، استمرت خمس ساعات، بعد مواجهة دامية بينهما بصواريخ كروز وغارات الطائرات في حرب البلقان صيف عام 1999، ودامت سبعة وسبعين يوما!
في هذه المرة وقف سلوبودان خلف القضبان..متهما حاليا ورئيسا سابقا..
وجلس كلارك على مقاعد الشهود..جنرالا سابقا ومرشحا حاليا في سباق الرئاسة الأمريكية..
لم يكن ممكنا أن يهتم العالم بمحاكمة سلوبودان ميلوسيفيتش، بالرغم من وجود كاميرة تليفزيون وميكرفون في يد مذيع وقناة فضائية وقمر صناعي وبث مباشر، لأن مسلسلا آخر كتبته واشنطن قد بدأت بثه وعرضه على العالم أجمع وله اسم شديد الجاذبية هو "الحرب على الإرهاب"!
ورسميا عقدت أول جلسات محاكمة ميلوسيفيتش في الثالث من يوليو 2001، وكانت عيون العالم أجمع تتابع أول محكمة رئيس دولة في محكمةالعدل الدولية في لاهاي، لتراقب بنفسها تدشين حقبة جديدة في السياسة الدولية أدواتها مزيج من الديمقراطية وحقوق الإنسان!
وقد صاحب العرض كل "عناصر" الإثارة المطلوبة..
أولا..نقل الرئيس الصربي إلى المحكمة في عيد فيدوفان "القديس فيتوس"، أهم أعياد الصرب الدينية!
ثانيا..ترحيله بطائرة أوريون تابعة للسلاح الجوي الملكي البريطاني من السجن المركزي في بلغراد إلى قاعدة فلكنبورج العسكرية الواقعة شمال لاهاي ثم نقله بطائرة أخرى إلى السجن في حي شيفينينجن على بحر الشمال!
ثالثا..فيلم تسجيلي صوره التليفزيون الهولندي من على ارتفاع مئات الأمتار له وهو يتجول في ساحة السجن محني الظهر ومكبلا بالأصفاد!
رابعا..البث المتواصل عن حالته الصحية وأن الفحوصات الطبية أثبتت أنه لا يشكو من علة تعيق محاكمته!
خامسا..إعلان طاقم الدفاع عنه أن المحاكمة باطلة لأن موكلهم قد خطف خطفا من يوغسلافيا إلى هولندا!
سادسا..قائمة اتهامات ساخنة جدا أقلها الاغتصاب وتعذيب النساء في البوسنة وكوسوفا, وأشدها إبادة الجنس البشري!
لكن ..كان القدر يخبئ سيناريو أكثر إثارة..
هجمات إرهابية بطائرات مدنية على برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك ومبني وزارة الدفاع الأمريكية في واشنطن..
فعبرت عيون العالم المحيطين الأطلنطي والهادي إلى بلاد العام سام..ولم تعد بعد إلى المحاجر، وظلت محدقة في مسلسل، كلما اقترب من الحلقة الأخيرة، تجددت أحداثة الغريبة..من أفغانستان إلى العراق، من كهوف بورا تورا إلى ضفاف دجلة والفرات، من كابول إلى بغداد..من أسامة بن لادن إلى صدام حسين!
فكيف يمكن أن يتنبه أحد إلى ميلوسيفيتش؟!..أو إلى ما قاله كلارك عن الجزار الصربي وما قدمه من أدلة؟!
أيها السادة..صدام حسين أكثر جاذبية.. لأنه "جسر" يمكن بناؤه إلى حلقة ثلاثة من الحرب!
بل أن العالم الآن ينتظر نتيجة المطاردة المستعرة الآن بحثا عن أسامة بن لادن، فصائدو الجوائز وهو تراث أمريكي في تعقب المطاردين، يتشممون 25 مليون دولار مع كل "مطلوب" يسلم إلى القوات الأمريكية..لاسيما وأن الرئيس بوش أخذ يضحك مع مذيع تليفزيوني وهو يقول: نعم ..بن لادن هارب الآن ولن يثرثر هذه الأيام، وهو على الأرجح في جحر في مكان ما للإفلات من العدالة..أننا نتعقبه وسوف نعتقله حيا أو ميتا!
هذا مشهد سينمائي..شديد الحرفية!
ولا يقل حرفية عن المشهد الذي أخرجه بوش الأب في عام 1989 حين أرسل بقوات المارينز إلى بنما، فتخطف الرئيس مانويل نورييجا وتأتى به إلى ولاية فلوريدا، وتحاكمه علنا على جرائم جنائية!
ونورييجا مثل صدام حسين بالضبط..صناعة أمريكية من الألف إلى الياء، والتشابه بين الرجلين كبير جدا..فكلاهما جرب أن يعيش على العسل الأمريكي طويلا ثم& يتجرع المر في النهاية!
الفارق أن نورييجا هو رجل وزارة الدفاع الأمريكية منذ أوائل الخمسينيات حين كان مجرد ملازم في الجيش البنامي، وظل على لائحة مرتباتها حسب الوثائق التي أفرج عنها مؤخرا حتى شهور قليلة من الغضب عليه، بل أنه كان عميلا في المخابرات الأمريكية أيضا براتب دائم، وشغل وظيفة "مخبر" حسب ما ورد في تلك الوثائق بالنص!
لكن نورييجا في أمريكا اللاتينية، واللاتين غير الشرق أوسطيين، مغرمون بأخطر أنواع المخدرات وأكثرها ضررا: الكوكايين والهيروين، ولا يوجد جنرال حاكم في أمريكا الجنوبية من أقصاها إلى أقصاها إلا و"المخدرات" جزء من ثروته ونفوذه!
ولم يكن ممكنا أن يخرج نورييجا عن الصف والوراثة والعادات والتقاليد..
لكن من سوء حظه أن معدل الإدمان في الولايات المتحدة في الثمانينيات قد بلغ الذروة، وبات مشكلة مؤرقة تماما، إلى درجة أن وزير التعليم الأمريكي وقتها كتب كتابا شهيرا اسمه "أمه في خطر"، لا يتكلم فيه فقط عن تدهور مستوى التعليم وإنما يركز على وصول المخدرات إلى المدارس الابتدائية لتباع أمام أسوارها عيني عينك!
واستنفر المجتمع الأمريكي نفسه ليدرأ هذا الخطر القاتل..
في ذلك الوقت..كان نورييجا رجل أمريكا القوي يشغل منصب القائد العام للجيش البنامي،& منخرطا في أنشطة سرية عديدة، تهريب المخدرات، بيع الإسرار الأمريكية لكوبا، غسيل الأموال..الخ!
وفي عام 1988 وصلته بالرسالة من الإدارة الأمريكية تأمره أن يكف عن العمل الضار ويتوقف عن نشاط المخدرات تماما!
لكن نورييجا استهزأ بالرسالة ، وسخر من راسلها، فالطغاة من العسكر حين يكبرون ويتوحشون ويذوقون "دم الرفاهية المدنية" وهم في الزى الكاكي، يأخذهم الزهو والغرور كل مآخذ!
وبالرغم من هذا لم تغضب الإدارة الأمريكية..أو غضبت وكتمت رد فعلها في سرها..فتضخم غرور نورييجا وأقدم على الخطوة الخطأ الذي لا يغتفر، وهو تعديل موازين القوى في هذه المنطقة من العالم!
كانت الانتخابات الرئاسية البنامية قد جرت في مايو 1989 ونجح فيها الرئيس نيقولاس بارليتا، فألغاها نورييجا ونصب نفسه رئيسا بدلا منه..
وأرسلت إليه الإدارة رسالة جديدة فيها تهديد ووعيد..فلم يقبل بها، وبل وترك جنوده يقتلون جنديا أمريكيا من المارينز من القوات المتمركزة في قاعدة هناك لحماية الملاحة في قناة بنما!
فأمر الرئيس جورج بوش الأب قواته بأن تغزو بنما وأن تقبض على نورييجا وتأتي به معها!
وأحضر نورييجا إلي فلوريدا مقيدا في سلاسل غليظة..وحوكم على الهواء وعوقب بأربعين سنة سجنا!
لكن المذهل أن شهود الإثبات كانوا من كبار تجار المخدرات أيضا..عقد معهم النائب العام اتفاقا شاذا.. أن يشهدوا ضد نورييجا مقابل أن تسقط بعض التهم عنهم أو ينالوا عقوبات مخففة، فيستطيعون بعدها أن يدخلوا إلى الولايات المتحدة دون عقاب!
وهذه النقطة تحديدا كانت الأضعف في المحاكمة، وقد حاول محامو نورييجا استغلالها في الاستئناف، وقدم دليلا أن واحدا من الشهود قد اخذ مليون وربع مليون دولار رشوة ليشهد ضده، وهذا الشاهد نفسه كان مطلوبا من "العدالة الأمريكية"، وبالفعل استلم مبلغ الرشوة واتفق مع النيابة بأن يشهد وأن يخفف عنه الحكم إلى ثلاث سنوات فقط..
فهل يمكن أن تبحث واشنطن عن شهود من هذا النوع في محاكمة صدام حسين بالعراق؟!
بالطبع..ممكن جدا..فالعدالة الأمريكية قائمة على قاعدة ذهبية "اللي تغلب به ألعب به"، فنجد مجرمين طلقاء، وأبرياء "مساجين"!
وكما الحظ يتفاوت بين المجرمين أنفسهم، فهو يتفاوت أيضا بين الرؤساء..فبينما حوكم نورييجا، ويحاكم الآن ميلوسيفيتش، ويجري الإعداد لمحاكمة صدام.. فقد هرب الرئيس الشيلى الأسبق أوجست بينوشيه من الوقوف خلف الأسوار بمعجزة..وهرب الرئيس الفلبيني جوزيف استرادا من نفس المصير بتواطؤ!
بينوشيه هو نموذج مجسم للديكتاتور العسكري في دولة متوسطة من دول العالم الثالث مثل العراق وبقية الدول العربية، قتل وتعذيب وإعدام وانتهاك حقوق الإنسان، تلك الجرائم الشهيرة المعتادة في ذلك العالم المتخلف!
وهو أيضا صناعة أمريكية لصد المد الشيوعي في شيلي في السبعينيات، فصده بجرائم ضد الإنسانية، وقتل من مواطنيه ما يقرب من أربعة ألاف إنسان، منهم ما يزيد عن ألف ومائتي نفس لا يعرف مصيرها حتى الآن!
14 عاما من 1974 إلى 1988 وبينوشيه يرتكب من الفظائع ما يقتل النور في الفجر الوليد، لكن الولايات المتحدة راضية عنها ولا تسأله عما يفعل!
لكن بينوشيه المولود في عام 1922، كان في أرذل العمر حين زار بريطانيا في صيف عام 1998 طلبا للعلاج من أمراض الشيخوخة، فإذا به يجد نفسه مقبوضا عليه، بقرار من القضاء البريطاني!
كان عدد من ضحاياه قد رفعوا أمام المحاكم الأسبانية دعاوى وأخذوا أحكاما غيابية عليه دون أن تجد طريقها إلى التنفيذ..فكيف تشق طريقها إلى شيلي والجنرال بينوشيه تغطيه حصانة أضفاها عليه النظام هناك ضد أي محاكمة على الجرائم التي ارتكبها خلال حكمه؟!
وانتهز الضحايا فرصة وجوده في بريطانيا وفتحوا الملف مرة ثانية، فأرسل القضاء الأسباني طلبا تسليمه إلى أسبانيا لمحاكمته علانية!
أكثر من عام والقضية في المحاكم حتى اقترب بينوشيه من الترحيل إلى السجون الأسبانية لكن السياسة والحالة الصحية لعبت دورا كبيرا في أن يحاكم في شيلي، وهناك حكمت محكمة الاستئناف بأنه حالته العقلية لا تسمح بمحاكمته، لكن العالم استمتع بالعرض المثير شهورا طويلا!
أما جوزيف استرادا، فقد ترك السلطة مجبرا تحت تهديد المظاهرات والحناجر الغاضبة في شوارع مانيلا..وكانت الجماهير قد وصفته بأبغض الصفات: لص الأموال..المرتشي..زئير النساء الذي يبني لعشيقاته القصور من فلوس الدولة..وهرب استرادا من سلم الخدم في قصره الفاخر بينما كاميرات التليفزيون تتابع خطواته المرتعشة!
بالقطع نحن أمام عصر جديد، يمكن أن نسميه عصر محاكمة الرؤساء على الهواء، لعل هؤلاء الرؤساء وهم من العالم الثالث يرتدعوا عن أكل حقوق مواطنيهم بالباطل!
* عن (صوت الأمة) المصرية
التعليقات