الدكتور عبدالله تركماني
&
&
II- عولمة الثقافة: الأهداف والنتائج

بداية يجدر بنا أن نميّز بين تعبيرَي " عولمة الثقافة " و " ثقافة العولمة "، ففي حين أنّ الأول ينطوي على تنميط ثقافات العالم طبقا لنموذج عالمي واحد، بل أمريكي واحد، فإنّ الثاني ينطوي على عملية التثاقف التي تساعد على الحوار البناء بين الثقافات والحضارات المختلفة .
وإذا كانت العولمة الاقتصادية واضحة كل الوضوح فإنّ العولمة الثقافية ليست بالوضوح نفسه، فالعالم ما زال بعيدا عن أن يكون معولما عولمة ثقافية. ذلك أنّ دول العالم، التي تتدافع وتتنافس للأخذ بسلع ومنتجات وخدمات العولمة الاقتصادية، تبدو أقل اندفاعا وإقبالا وأكثر ترددا وتمهلا في اندفاعها نحو مفاهيم وقيم وأفكار العولمة الثقافية . ولكن، رغم هذا الموقف المتردد والتخوف الملحوظ، فإنّ الحياة الثقافية تظهر ميلا واستعدادا واضحا للعولمة والتعولم، ويعود ذلك إلى " أنّ الأفكار والقيم والمفاهيم والقناعات تحمل في أحشائها دائما بذور العولمة، بمعنى الانتشار الحر من دون قيود، والانتقال العابر للحدود، والتوسع على الصعيد العالمي " .
إنّ عملية التثاقف و" الانصهار" في الثقافة الكونية تتم ضمن صيرورة جدلية معقدة، ولكنّ " الانصهار" يمثل مكسبا ثمينا للثقافات الوطنية من جهة، ولثقافة العولمة من جهة ثانية . وينبغي ألا نخلط بين ما تقدمه العولمة الثقافية من مكاسب لتقدم البشرية وبين استغلالها سياسيا من طرف القوى الدولية المهيمنة . إذ أنّ السعي من أجل تقارب الحضارات وربط الثقافات وتعزيز الهوية العالمية، وربما أيضا خلق " عالم بلا حدود ثقافيـة " ، هو مجرد وجه واحد من الوجوه العديدة لـ " عولمة الثقافة " . ذلك أنه بقدر ما أنّ التوجه العام هو نحو تقارب الثقافات والحضارات، فإنّ " عولمة الثقافة " يمكن لها أن تتجه نحو صراع الحضارات، ونحو الهيمنة الثقافية لثقافة واحدة على سائر الثقافات، ونحو نشر الثقافة الاستهلاكية وجعلها الثقافة الأكثر رواجا على الصعيد العالمي . إنّ " عولمة الثقافة " التي تمهد الطريق لترابط المناطق الثقافية بإمكانها أيضا أن ترسخ انقسام العالم إلى مناطق حضارية مغلقة، قابلة للمواجهة مع بعضها .
إننا لا ننكر أنّ للعولمة الثقافية جوانب سلبية بالنسبة لثقافات الشعوب المتأخرة اقتصاديا وتقنيا وثقافيا، وفي مقدمتها علمنا العربي ، ولكنّ مقاومة هذه الجوانب السلبية يجب أن تتم ضمن معركة داخلية تخوضها شعوبنا ضد الظلم والاستبداد والرداءة السياسية والثقافية، ومن أجل الحريات العامة، والديمقراطية والإبداع .
&&&
III- الهوية والخصوصيات الثقافية وضرورة تجسيد التنوّع البشري
يكاد سؤال الهوية يكون الهاجس الوحيد الثابت في أية مقاربة لسيرورة " عولمةالثقافة "، خاصة أنها أدخلت العالم في تفاعلات ومواجهات لم يعرفها من قبل، بسبب إسقاطها المستمر لحدود الزمان والمكان . لذلك أصبحت الشعوب والدول والثقافات أكثر حاجة للبحث عن شروط ومواصفات تؤكد اختلافها وتمايزها، بقصد تكوين علاقة واضحة بين الأنا والآخر.
إنّ أشد ما يقلق البعض في قضية العولمة هو ما لها من آثار على الهوية والخصوصيات الثقافية، وهو قلق له ما يبرره في ظل ما نراه من محاولات قوى الهيمنة الاقتصادية تنميط سلوكيات البشر وثقافتهم في المجتمعات كافة وإخضاعها لنظام قيم وأنماط سلوك سائدة في حضارة استهلاكية . إذ يحمل فيض الأفكار والمعلومات والصور والقيم القادمة إلى كثير من المجتمعات إمكانية تفجر أزمة الهوية، التي أصبحت من المسائل الرئيسية التي تواجه التفكير الإنساني على المستوى العالمي . وفي سياق هذه الأزمة تنبعث العصبيات القبلية والطائفية والمذهبية والقومية الضيقة، وتزداد الرغبة في البحث عن الجذور وحماية الخصوصية .
&ومن المؤكد أنّ هاجس الهوية والخصوصية الثقافية نابع مما تعانيه ثقافات دول عالم الجنوب من ضعف أو خضوع للثقافات الأخرى في عالم الشمال، ولعل ذلك يعود أساسا إلى التبعية الثقافية، بما تمثله من علاقة غير متكافئة وسطوة معنوية للثقافات السائدة . على أنّ بعض الدراسات تحاول التركيز على تاريخية ونسبية الهوية وعدم الإقرار بثباتها، مما يجعلها مرنة قد تتعايش أو تقتبس من ثقافات أخرى، بل قد تساعدها عوامل التقارب وسقوط الحواجز على تفاعل إيجابي وخلاّق مع العولمة . لذلك، قد يكون السؤال ليس كيف نقاوم العولمة ونحمي أنفسنا منها، إنما كيف نعيش عالمنا الراهن بواقعية ودون تناقضات وتأزم وبلا إحساس بعقدة نقص أو خوف ؟ . كما أنّ بعض المقاربات ترى أنّ العولمة لا تهدد الهوية بالفناء أو التذويب، بل تعيد تشكيلها أو حتى تطويرها لتتكيّف مع الحاضر، فالإنسان يتجه نحو إمكانية أن يعيش بهويات متعددة، دون أن يفقد أصالته القومية .
وعلى هذا الأساس يتكون مفهوم جديد للحضارة العالمية، فالعالم لم يعش وحدته في أية لحظة من تاريخه كما يعيشها اليوم في ظل ثقافة العولمة . غير أنّ هذه الوحدة تبقى مهددة بالصراع إذا لم تأخذ بعين الاعتبار التعبير الحر للثقافات المتعددة واحترامها المتبادل . وفي هذا السياق، يشكل مفهوم " تعدد الثقافات " إطارا للرد على حاجتين متزامنتين ولكن مختلفتين تماما : " الأولى، الانعتاق النفسي في المجتمعات المستعمرة سابقا من الاستلاب والتبعية للثقافة الغربية، أو بالأحرى التعويض عن هذه التبعية وذاك الاستلاب بتأكيد استقلالية ثقافية مفقودة وربما العمل على إيجادها . والثانية، هي الانعتاق في المجتمعات الغربية السائدة من المسؤولية الأدبية تجاه المصير المزري الذي لاقاه ويلاقيه عالم الجنوب النامي، والتحلل من عقدة الذنب الاستعمارية السابقة " .
ومع إطلالة القرن الحادي والعشرين تواجه البشرية خيارات مختلفة : إمّا إعادة إنتاج نظام الهيمنة القديم تحت شعار النظام العالمي الجديد، أو خلق نظام ما بعد الهيمنة والذي سيستمد مضمونه من البحث عن أرضية مشتركة بين التقاليد المكونة للحضارة الإنسانية . وتتمثل هذه الأرضية المشتركة بـ :
(أ) - الاعتراف المتبادل بالتقاليد المميّزة للحضارات الإنسانية المتعددة .
(ب) - تجاوز نقطة الاعتراف المتبادل والاتجاه نحو تقبّل التفاعل بين الهويات الثقافية المتعددة والتي تسمح بالتعايش بين مختلف التقاليد الحضارية .
ومن أجل الوصول إلى أرضية مشتركة لحوار الحضارات ينبغي على مثقفي الحضارات التاريخية المختلفة أن يلعبوا دورا نشطا، من أجل تطبيق وتفعيل الحوار بصورة خلاّقة . وتبدو أهمية هذا الدور بعد أن أفضت التطورات العميقة في تكنولوجيا الاتصال إلى حقيقة أنّ المجتمعات قد صارت تتصل ببعضها البعض بدرجة مدهشة ومتعاظمة من الكثافة . لقد صار من الممكن أن ينتقل الناس وأفكارهم والمعلومات الصادرة منهم أو عنهم في اللحظة نفسها التي يفكرون فيها أو يمارسون عملية الإنتاج الفكري إلى كل مكان في العالم .
لقد بدأت فكرة " الحوار بين الحضارات " تنتشر وتتطور بموازاة فكرة " صراع الحضارات " وفي مواجهتها، وكان أول من تلقفها المنظمات الثقافية الإقليمية والدولية . ففي مواجهة الصراعات المتزايدة حول مفاهيم الهوية وأيديولوجياتها، تكتسب أفكار الحوار والتنوّع البشري الخلاّق، التي تبنتها منظمة " اليونسكو "، جمهورا متزايدا في أوساط النخب الثقافية والسياسية، باعتبارها تهدف إلى احترام الاختلاف بوصفه سبيلا للاتفاق، وتأكيد أنه ما من أمل في سلام البشرية إذا ما ظلت حضارة من الحضارات أو ثقافة من الثقافات أو أمة من الأمم تمارس قهرا سياسيا أو فكريا على غيرها من الحضارات أو الثقافات أو الأمم، بدعوى أنّ الطبيعة والتاريخ ميّزاها على غيرها بما لا يمتلكه سواها . فمستقبل البشرية مرهون بالاحترام المتبادل، والتخلّي عن رواسب التمييز العرقي أو التعصب المذهبي، والتسليم بأنّ إنكار الخصائص الثقافية أو الحضارية لشعب من الشعوب إنما هو نفي لكرامة هذا الشعب وكرامة الإنسانية جمعاء .
ويترتب على ذلك الإسهام في تأصيل نوع واعد من الأخلاق الإنسانية التي تجمع بين الشعوب بعيدا عن احتمالات الاستغلال والتمييز، والبحث عن إمكانات تأصيل الأبعاد المدنية للمجتمعات المختلفة، بما يؤكد التفاعل لا الصراع، والتسامح لا التعصب . كما تسعى تلك النزعة إلى أن تستبدل بالحركة وحيدة الاتجاه لرأسمال الشركات متعدية ومتعددة الجنسية حركة مغايرة من الاعتماد المتبادل، الذي ترعاه منظمات دولية لا تسعى إلى زيادة الفقراء فقرا والأغنياء غنى .
ولا يفارق الوعي بهذه النزعة منطق المساءلة الذي يضع لوازم العولمة موضع البحث، كاشفا عن إمكاناتها واحتمالاتها المتعارضة، لا من المنظور الذي يرى بعدا واحدا من الظاهرة، وإنما من المنظور الذي يلمح التناقض داخل الظاهرة نفسها، ومن ثم يكشف عن إمكانات أن تنقلب بعض الوسائل على غاياتها الأولية، فتؤدي وظائف مغايرة ومناقضة في حالات دالة . فلا شك في أنّ ثورة المعلومات وتقدم تقنيات الاتصال، الملازمة لعمليات العولمة، يمكن أن تؤدي إلى نقيض الهيمنة لو تم توظيفها بعيدا عن الاستغلال، ومن ثم إدراكها وإخضاعها لشروط مغايرة من علاقات الاعتماد المتبادل للتنوّع البشري الخلاّق .
وفي هذا السياق، يبدو ضروريا طرح السؤال التالي: كيف يمكن أن نجنّب الحوار خطر التحوّل إلى وسيلة للتغطية عن الأسباب الحقيقية للصراعات الدولية، بل خطر إعادة إنتاجها في الوقت نفسه من خلال تمثلها وتصويرها على أنها نزاعات هوية وتعبير عن الحروب الثقافية ؟ .
إنّ التقارب بين الجماعات لا يتحقق من خلال التقريب بين مذاهبها أو منظومات قيمها أو مرجعياتها الثقافية الخاصة، ولا يتحقق بالتالي - من خلال إضعاف ما تشعر أنه يمثل خصوصيتها، وإنما يتم ذلك التقارب بين الجماعات من خلال توسيع دائرة مشاركتها في مرجعيات إضافية، وتحريرها من حتمية الاعتماد المطلق والأحادي على مرجعياتها الثقافية التاريخية . وهذا يعني إيجاد فرص أكبر لتنويع هذه المرجعيات، بحيث يبدو الانفتاح على الآخر إثراء للنفس لا إفقارا لها .
كما يصح التساؤل عن مدى إخفاء الحديث عن " حوار الحضارات " حقيقة ما تتعرض له معظم ثقافات العالم من انسحاق وتهديد بالتفكك والدمار نتيجة للصعود الكاسح للثقافة الأمريكية، نتيجة سيطرتها على شبكات العولمة الرئيسية . وحقيقة واقع أنّ الصراعات التي تجري في العالم ذات مصدر واحد هو التنافس على الموارد المادية . ولا يجدي الحوار في إزالة أسباب الصراع " إذا بقي ذلك الحوار يدور في إطار التقريب بين الثقافات وتعريف كل جماعة بهوية الجماعة الأخرى . ولا قيمة له إلا إذا انتقل من كونه حوارا بين الثقافات أو الحضارات إلى حوار بين الجماعات على إعادة توزيع الموارد المادية والمعنوية، بما يستجيب للحد الأدنى من معنى العدالة كما تنشده الأغلبية الساحقة من البشرية "& .
ومن أجل أن يتوفر هذا الحد الأدنى، لابد أن يكون الحوار ذا غلبة في العلاقات الداخلية داخل كل مجتمع . فعلاقات الحوار، التي تنطوي على التعددية وعلى الاعتراف بالآخر والتسليم بضرورة التداول السلمي للسلطة، وما يقتضيه ذلك كله من حياة ديمقراطية وعلاقات تتسم بالشفافية، يجب أن تكون هي المقولة المحتملة والمهيمنة على الصراعات الداخلية ونزاعات المجتمع الذاتية .
إنّ المعركة الحقيقية لا تكمن في مواجهة العولمة كعملية تاريخية، وإنما ينبغي أن تكون ضد نسق القيم السائد، الذي هو في الواقع إعادة إنتاج لنظام الهيمنة القديم . وهنا، على وجه التحديد، ينبغي تحديد طبيعة المعركة في النضال العالمي للقضاء على ازدواجية المعايير في تطبيق مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وإتاحة الفرصة للنخب الفكرية والسياسية لكي تبدع طرقها في ممارسة هذه المبادئ طبقا لمعايير الشرعة العالمية لحقوق الإنسان .
وفي هذا السياق تبرز أهمية المجتمع المدني العالمي، المتكون من مجموعات من الناشطين الذين يفكرون بشكل عالمي، ويؤمنون بوحدة الجنس الإنساني وترابط مصيره، وينشدون الضغط على صانعي السياسة لإنتاج سياسات مواتية للسلام والديمقراطية وحقوق الإنسان والتقدم الاجتماعي والتنمية الاقتصادية والثقافية المتوازنة لكل الشعوب، مع احترام التعددية الثقافية والحضارية في الوقت نفسه . مما يثبت أنّ المعركة ضد التأثيرات السلبية للعولمة هي معركة شعوب العالم جميعها، معركة كل القوى التقدمية والديمقراطية، وكل هيئات ومنظمات ونقابات المجتمع المدني العالمي، وقد ظهر ذلك جليا في سياتل وجنيف وبراغ وروما وبورتو إليغري وباريس ونابولي، كما تزداد هذه المقاومة اتساعا وتنظيما كل يوم ، وهذا ما سيظهر في المنتدى الاجتماعي العالمي في بومباي بعد أيام .
ومن المؤكد أنها ليست معركة ضد العولمة، التي هي ظاهرة موضوعية تاريخية متقدمة في التاريخ الإنساني، ولكنها معركة ضد الهيمنة لمصلحة عدد محدود من الدول والشركات الكبرى، من أجل تحويل هذه العولمة المتوحشة إلى عولمة إنسانية، تسودها المشروعية الدولية والتضامن العالمي والديمقراطية واحترام حقوق الدول بتنوّع خصوصياتها الثقافية وهوياتها القومية، واختيار طرقها الخاصة للتنمية .
ولا شك أنّ الفجوة التاريخية بين الغرب، الذي أقلع نحو الحداثة منذ القرن السادس عشر، وانخرط فيها منذ القرن الثامن عشر ( الإصلاح الديني، والثورة العلمية، والثورة الصناعية، وفلسفة الأنوار، والثورة الديمقراطية الحديثة... )، وبين شعوب عالم الجنوب التي فاتها قطار التحديث، جعلت مهام المثقفين مختلفة . ففي حين أنّ المثقف الغربي منغمس في تحديث الحداثة، فإنّ مثقفينا ما زالوا يحاولون إدخال الحداثة إلى بلادهم .
كاتب وباحث سوري مقيم في تونس
[email protected]
&
الحلقة الأولى
&