عام 1989، وعند نزولي للانتخابات النيابية لأوّل مرّة، قام الأصوليون بتهديدي لإجباري علي سحب ترشيحي. وعندما رفضت، اتهموني بالردّة وحاولوا قتلي وحرّضوا عليه. وظهر تواطؤ هؤلاء مع الدولة في تكريس المحاكم الشرعيّة لمحاكمتي وطلب هدر دمي، إضافة لقائمة عقوبات لم تسمع بها البشريّة من قبل وتخرق كل حقوق الإنسان وحتّي الحيوان.. فقد طالبوا بمساواتي بالميتة ، أي بالحيوان النافق، وليس الحيوان الحي، وامتد التواطؤ إلي تزوير ضدّي ولصالح مرشح إسلامي، لسهولة ادّعاء ان حملة التكفير أثّرت في الناخبين.
أثناء تلك الحملة التي استهدفت حياتي وأمن أسرتي، جاءني هاتف من صحفي فرنسي يسألني رأيي بقضيّة الفتيات المغربيّات المحجّبات التي ثارت ذلك العام. فبقيت علي الهاتف لثلاثة أرباع الساعة أجادل الصحفي الفرنسي الذي كان يريد ان يستخلص منّي تبريراً أو تأييداً لمنع الفتيات المغربيّات من ارتداء زيّهن ذاك في المدارس الفرنسيّة. وكانت خلاصة حديثي أنّ الزي شأن خاص وخيار فردي. وأنّني أستطيع ان أبرز للصحافة صوراً لأزياء من تصميم كبار مصمّمي الأزياء الفرنسيين توافق مواصفات ما يسمّي بالزي الإسلامي، فهل ستمنع أية فتاة فرنسية من ارتداء تلك التصاميم بالمقابل؟؟ وقلت له انّ معايير الحشمة تختلف باختلاف المجتمعات وباختلاف الخلفيّة الثقافيّة للأفراد أيضاً، وان الناس جميعاً حريصون علي ان يبدوا في الصورة التي يعتبرونها هم لائقة ومحترمة.. فمن يملك حق إملاءأوّل وأهم إنطباع للياقة والقبول الإجتماعي يعطيه الإنسان عن نفسه؟؟.
وفي النهاية سألني إن كنت اوافق علي ان يضر هؤلاء بالمجتمع الفرنسي، فكانت إجابتي بسؤال : هل اعتدوا علي احد؟؟ هل أساءوا لمن يرتدون ازياء تختلف عمّا يرتدونه هم؟؟ وعندما جاءت الإجابة بالنفي، قلت له إن ما يسيء للفرنسيين هو ان يتحوّل مهد فلاسفة الثورة والحرّيات إلي بلد يقمع أهم وأخص حرّيات الإنسان وخياراته، لباسه!!.
وكان هذا نهجي طوال الخمسة عشر عاماً التي تلت. لا يجرمني شنآن أحد علي ان لا أعدل. وحتي قبل بضعة أسابيع اتصلت بي مجلّة ماري كلير النسائيّة الشهيرة في فرنسا لإجراء حديث ضمن تحقيق عن الحجاب، واستأذنت في إرسال مصوّر لالتقاط صور لي تنشر مع الحديث. فرحّبت بالأمر وفي خاطري ان اتحدّث عن حريّة الإنسان في خياراته الشخصيّة، ومنها زيّه، وفي قناعاته الدينيّة!!.
ولكن، حين وصلني البريد الالكتروني حاملاً التفاصيل، اكتشفت انّ إرفاق صورتي بالتحقيق ليس فقط روتيناً كما في غالبيّة اللقاءات الصحفية، وإنّما بالذات لأنّني لا أضع الحجاب ولا أؤمن بضرورته، ولي رصيد كبير من الإحترام عند العرب والمسلمين، كما عند العالم. ووجدت قائمة بأسماء عدد من النساء المسلمات ممّن سيظهرن في ذات العدد: شيرين عبّادي من إيران، فاطمة المرنيسي من المغرب، تسليمة نسرين من بنغلاديش، نيار محمد من العراق وإيناس الدغيدي من مصر. عندها رفضت العرض برمّته، وقلت لهم أنّني (مع احترامي لغالبية الأسماء الواردة) سياسيّة، ولست موديلاً للتصوير، وصورتي ترافق مواقفي ولا توظّف دعائيّاً مع أية جهة ضد أيّة جهة. ولا فارق بين ان أكون محجّبة اوغير محجّبة، الفارق فيما تحمله صاحبة الصورة من فكر ومباديء وما تقدّمه للعالم من خير. وفي هذا قد ألتقي مع متحجّبة، بينما أختلف مع أخري غير محجّبة، والشيء ذاته ينطبق علي توافقي واختلافي مع الرجال. وحتي عندماعرضوا علي نشر أقوالي هذه في الصحيفة، بصورة او بدون صورة، أجبت بان طريقة تناول الصحيفة لموضوع الحجاب أساساً لا توافقني لا يتوافق مع السويّة الجادّة والموضوعيّة التي اشترطها.
جري هذا، ولم أعلن عنه لأحد. وكان يمكن ان أكتب ذات الرأي والحديث، دون الإشارة إلي الحادثة، بعد خطاب شيراك بشأن المظاهر المميّزة للأديان، بما فيها إرتداء الحجاب في المدارس، لولا حديث أجرته إحدي الفضائيّات مع رئيس جالية إسلاميةفي فرنسا او اوروبا (لم اتمكن من التقاط اسمه)، كان يخاطب السلطات الفرنسيّة بكل ألفاظ التودّد ويدعوهم لقبول الآخر وتطبيق مباديء فرنسا التاريخيّة.. ثم انتقل إلي النساء ليقول : إن بعض النساء المسلمات المتبرّجات يعطين أنفسهن الحق في قول انّ الحجاب غير مطلوب في الإسلام!! فأين ذهبت حرية العقيدة والرأي والتعايش والقبول بالآخر؟؟ هل يعتقد هذا الرجل أنّه انتقل من مخاطبة السادة إلي مخاطبة إماءه ؟؟ المتبرّجة في المعني الدارج هي المبالغة في الزينة حد الإبتذال، وفي المعني القاموسي، هي المرأة التي تكشف محاسنها لغير زوجها. وفي المعنيين إتّهام، بل وإدانة أخلاقيّة لا ولن نسمح بها.
ومثل هذا خطاب أحد النوّاب الإسلاميين في جلسة الثقة بالحكومة الأردنيّة، حين اختار، رغم الكم الهائل من القضايا الوطنية والمصيريّة التي لا يتسع لها مئات أضعاف الوقت المعطي لكلمته، أن يفرد مساحة لشتم ملايين النساء المسلمات بذات الألفاظ الموحّدة كالزي الموحّد، إذ يقول: امّا الرجل فهو القوّام والرائد وحارس الحصن وحاميه وأمّا المراة فهي الصاحب بالجنب ومعلمة الأجيال وام الرجال ومخرجة الأبطال.. المراة المصونه المحتشمة لا المتبرّجة المتهتّكة.. المرأة التي تربّت في محاضن القرآن لا في معاطن الشيطان !!! وغني عن القول لماذا لم تعد لنا حصون محميّة، بل كلّها مستباحة. والذين تواطؤوا في استباحتها، من الرجال المسلمين أولي الأمر والنهي ، بما فيه تقرير من يصل الي قبّة البرلمان، لم يطلهم ولا جزء يسير من هذه الشتائم علي فسادهم وخياناتهم!!
أجل نحن لا نؤمن بأنّ الحجاب من تعاليم الإسلام، ولنا الحق في رأينا هذا كما لهؤلاء ونسائهم الحق في رأي مغاير. ولن أضيع وقتي في محاججة من يغوصون في سفاسف الأمور. وقد قيل ما يكفي في الرد علي دعاوي الحجاب، ولكل أن يختار ما يقنعه. ومثلي ينصرف إلي شؤون الأمّة الهامّة وليس إلي الجزئيّات التي لا تقدّم ولا تؤخر...
ولكن هذه ربّما تؤخر، ولهذا اتوقّف عندها في مقالي هذا.. فهذه عيّنات من مجموعة في اللحظة التي يتاح لها إفتراض ان بين جموع المستمعين من لهم سلطة عليه او عليها (لا فرق، وإن كان هنا المرأة)، يبدأ ليس فقط احتكار الحقيقة ومصادرة الرأي الآخر، بل والشتم البذيء، فبماذا يخاطب هؤلاء من هنّ أبعد عن، لا أقول عقيدته، بل اعتقاداته؟؟ المرأة الفرنسيّة المسيحيّة أو حتّي غير المؤمنة بأيّة ديانة؟؟ حتّي حين يحجم المقيم في فرنسا عن الخطاب خوفاً علي مصالحه، كيف ينظرإلي النساء السافرات، المرتديات مختلف انواع الأزياء الحديثة، ما دام يظن ان كل إمراة غير محجّبة إنّما تعرض محاسنها عليه؟؟ ألا يصل فحوي هذا النمط من التفكير وهذه النظرة إلي ألوف النساء اللواتي يمر بهن دونما حاجة به للتلفظ به؟؟ هل نلوم إذاً من ضقن وضاقوا ذرعاً في عقر دارهم وقلب أوطانهم، بما ضقنا نحن به هنا؟؟ ألا يجب ان نكون موضوعيين ومنصفين ومتفهّمين للآخر، فنفترض أنّ لمثل هذه المواقف والألفاظ دوراً في قرار رجل دولة عاقل متزن(بل ومتعاطف اكثر من أي زعيم غربي مع العرب والمسلمين وقضاياهم) مثل شيراك؟؟ ام هل سنصر علي أنّها دائماً مؤامرة.. بدءاً من تآمر النساء غير المحجّبات علي ما يظنّه هؤلاء سحرهم الرجولي الطاغي، انتهاء بالتآمر علي الإسلام الذي احتكروه، وأنكروه علي غالبيّة أهله؟؟
كاتبة أردنية
التعليقات