موسكو: لا يقل الكاتب والناقد الروسي إيفان ألكسندروفيتش جونتشاروف أهمية عن كل المبدعين الروس الذين عرفناهم ولكن من سوء حظه (وهذا ما سوف نعرفه لاحقا)، أو من سوء حظنا، أنه لم يترجم بشكل كاف إلى العربية. ومع ذلك فهو معروف بشكل جيد في الغرب، وفي ذات الوقت لا يقل أهمية لدى الروس عن |
ديستويفسكي وتولستوي وبلينسكي وجوجول وجوركي. ومازالت أعماله الروائية تمثل تراثا هاما للسينما والمسرح في روسيا. وعلى سبيل المثال قام المخرج السينمائي الروسي المعروف نيكيتا ميخائيلكوف بإخراج روايته "أبلوموف" في فيلم سينمائي رائع تحت عنوان "عدة أيام من حياة إ. إ. أبلوموف"، تلك الرواية التي دخلت بجدارة إلى فضاء الأدب العالمي، وفرضت نفسها على التراث الشعبي |
الروسي اليومي حتى أن المشتقات من اسم "أبلوموف" يتم استخدامها بين الروس كمصطلحات شعبية شائعة وبليغة المفاهيم. أما المسارح الروسية فمازالت شغوفة بروايات "الانكسار" و"قصة عادية" لدرجة أنها تقدمها-موسميا-على خشباتها وفي ريبورتواراتها سواء في روسيا أو خارجها.
من ناحية أخرى، يندر تناول روايته القصيرة "قصة غير عادية" في القواميس والموسوعات الأدبية، بل وحتى لا يأتي ذكرها ضمن مؤلفاته. تلك الرواية تمثل مرحلة هامة في إبداعات جونتشاروف وبالذات في تلك الفترة (منتصف القرن التاسع عشر) من تاريخ الأدب، لأنها رواية ما يسمى بـ "أدب الاعتراف"، أو "السيرة الذاتية". وربما لا يتناولها النقاد بسبب الحساسية الفائقة التي تحيط بها، والقضية التي تتناولها، خاصة وأن الكاتب الروسي المعروف إيفان تورجينيف هو بطلها الرئيسي. ولكن منذ فترة قام الباحث الأدبى البروفيسور ل. م. روزينبلوم بنشر مقال هام تحت عنوان (دراما جونتشاروف الروحية: "قصة غير عادية" على ضوء اكتشافات ديستويفسكي النفسية) قدمت له مجلة "قضايا الأدب" الروسية بالآتي: "تم ضم هذا المقال إلى مجلد "التراث الأدبى"-(جونتشاروف: مواد جديـدة ودراسات). وقد أعد معهد الدراسات الأدبية العالمية التابع لأكاديمية العلوم الروسية هذه المجموعة للنشر بدعم من الصندوق العلمي الروسي للعلوم الإنسانية. وقام بتحرير المجلد كل من (س. أ. ماكاشيـن، ت. ج. دينيسمان).
عقب أول نشر لرواية "قصة غير عادية" عام 1924 صارت هذه الطبعة نادرة ويصعب الحصول على نسخة منها. بعد ذلك لم تُنْشَر كاملة على الإطلاق، وحتى عندما نُشِرَت ضمن مجموعة مؤلفات إيفان ألكسندروفيتش جونتشاروف عام 1980 جاءت مختصرة جدا. ومن أجل تراث جونتشاروف الأدبي أُعِد النص الكامل لرواية "قصة غير عادية" خصيصا من جديد بشكل علمي من النص الأصلي مع الضبط والتحقيق، وقامت ن. ف. بودانوفا بكتابة مقال الافتتاحية، وتولت الإشراف على نشرها في المجلد. والمقاطع المقتبسة من الرواية في هذا المقال نُقِلَت طبق الأصل من نصها المطبوع في مجلد التراث". هنا تنتهي مقدمة مجلة "قضايا الأدب". ولكن قبل تقديم ترجمة مقال البروفيسور روزينبلوم، يمكن المرور سريعا على حياة وأعمال هذا الكاتب.
وُلِد الكاتب والناقد الروسي إيفان ألكسندروفيتش جونتشاروف بمدينة سيمبيرسك ( في 6 يونيو 1812، وتوفى في 15 سبتمبر 1891) في أسرة تجار ميسورة الحال. تم انتخاب والده ألكسندر إيفانوفيتش جونتشاروف أكثر من مرة رئيسا لبلدية سيمبيرسك، وتوفي الوالد حينما أكمل إيفان عامه السابع. قامت الأم أفدوتيا ماتفيفنا بتربية الأولاد ومعها ضابط البحرية السابق نيكولاى نيكولايفيتش تريجوبوف ذلك الشخص الذي كان يتبنى بعض الآراء الطليعية، والذي كان على علاقة ببعض الديسمبريين. وهو بالذات الذي أيقظ اهتمام جوتشاروف الصغير إلى الرحلات البحرية.
درس جونتشاروف بالمدرسة الداخلية الخاصة للقس ف. س. ترويتسكي حيث تعلَّق بقراءة كتب المؤلفين الأوروبيين الغربيين والكتاب الروس، ودرس اللغتين الفرنسية والألمانية. وفي عام 1822 التحق جونتشاروف بالمدرسة البحرية الخاصة، وظل بها لمدة ثمان سنوات تعلم فيها الكثير من الأمور الهامة، ولكنه خرج مع ذلك بذكريات سيئة.
قبل أن ينهي جونتشاروف دراسته بالمدرسة البحرية، قرر التقدم إلى امتحانات القبول بجامعة موسكو، وبالفعل اجتازها عام 1831 (كانت الدراسة قد أُلغيت بجامعة موسكو عام 1830 نتيجة لانتشار مرض الكوليرا)& وأصبح جونتشاروف طالبا بكلية الآداب قسم علم اللغة. واهتم بنظرية الأدب وتاريخه وبالفنون التشكيلية وفن العمارة. وكانت أهم الأحداث التي تركت انطباعات قوية لديه في تلك السنوات هي زيارة الشاعر الروسي ألكسندر سيرجيفيتش بوشكين لجامعة موسكو حيث اشتعل نقاش حاد بين الشاعر والبروفيسور م. ت. كاتشينوفيسكي حول قضية مدى حقيقة حكاية "كلمة حول فيلق إيجوريف" (وهى حكاية شعبية عن معركة حربية بين الروس والتتار أثناء مقاومة الاحتلال التتاري لروسيا. وقد أصبحت هذه المعركة شكل من أشكال الأسطورة التي تبرز مدى صلابة مقاومة الروس دفاعا عن حريتهم واستقلالهم. واستلهمها العديد من الكتاب واستخدموها كأساس للكثير من القصص في أدب الأطفال).
بعد ذلك كتب جونتشاروف عن هذا اللقاء في مذكراته: "... بالنسبة لي، بالضبط، أضاءت الشمس القاعة كلها: في ذلك الوقت كنتُ مسحورا بقصائده. كنتُ أرضعها مثل لبن الأم، وكان شعره ينقلني إلى حالة من البهجة والفرح والرجفة. كانت قصائده وأعماله تنزل علىَّ مثل المطر... "يفجينى أونيجين"... "بولتافا"... وغيرها. إنني وجميع الشباب المهمومين آنذاك بالشعر ندين له مباشرة بالتأثير في دراستنا لعلم الجمال".
اتجه جونتشاروف إلى طريق الإبداع الأدبي في سنوات دراسته الجامعية. فبعد إنهائه الدراسة عام 1834 خدم في ديوان حاكم مدينة سيمبيرسك. وبعد ذلك (من مايو 1835) اشتغل مترجما بوزارة المالية في مدينة بطرسبورج-ولم يكن هذا العمل يعوقه كثيرا في أعماله الأدبية. وكانت العلاقة مع أسرة مايكوف (التي كان أفرادها يتميزون بمواهب فنية رفيعة: كان من بينهم الشعراء والفنانون التشكيليون) على وجه الخصوص تدفع بجونتشاروف الشاب نحو الاشتغال بالأدب. وكان صالون الأسرة الأدبي معروفا في بطرسبورج: كان يتردد عليه تورجينيف وديستويفسكي وجريجوريفيتش.
بدأ جونتشاروف، لأول مرة، بنشر أعماله في المجلة التي تصدرها أسرة مايكوف باسم "بُدسنيجنيك" (زهرة الجليد). وكانت هذه الأعمال في البداية عبارة عن قصائد شعرية تنحو إلى التقليد والتزويق، وبعناوين تقليدية دارجة، وبدون أفكار أصيلة أو أحاسيس قوية. بيد أن جونتشاروف سرعان ما تحرر في وقت مبكر من تلك الحماسات الرومانتيكية الساذجة.
وفي عام 1838 نشر جونتشاروف قصة طويلة مضحكة مضادة للرومانتيكية بعنوان "الحُمَّى" يتحدث فيها عن "مرض غريب" انتشر في أوروبا الغربية وانتقل منها إلى بطرسبورج، ويتجلى هذا المرض في عملية الإنشاد والإلقاء العاطفي الرقيق، وفي الأحلام التافهة حول القصور الطائرة في الهواء. وبُني السرد في هذه القصة على التناقض بين الحماسات الفارغة وحقائق الحياة العادية المثيرة للتيقظ والانتباه. وفي عام 1839 نشر جونتشاروف روايته القصيرة "الغلطة السعيدة" في التقويم الأدبي المسمى بـ "لونِّي نوتشي" (الليالي المقمرة) الذي كان يتشابه من حيث النزعة الفنية مع مجلة (زهرة الجليد). في رواية "الغلطة السعيدة" حاول الكاتب إعطاء تفسير واقعي للسلوك الإنساني وتصوير حالة حياتية محددة.
من ناحية أخرى، يندر تناول روايته القصيرة "قصة غير عادية" في القواميس والموسوعات الأدبية، بل وحتى لا يأتي ذكرها ضمن مؤلفاته. تلك الرواية تمثل مرحلة هامة في إبداعات جونتشاروف وبالذات في تلك الفترة (منتصف القرن التاسع عشر) من تاريخ الأدب، لأنها رواية ما يسمى بـ "أدب الاعتراف"، أو "السيرة الذاتية". وربما لا يتناولها النقاد بسبب الحساسية الفائقة التي تحيط بها، والقضية التي تتناولها، خاصة وأن الكاتب الروسي المعروف إيفان تورجينيف هو بطلها الرئيسي. ولكن منذ فترة قام الباحث الأدبى البروفيسور ل. م. روزينبلوم بنشر مقال هام تحت عنوان (دراما جونتشاروف الروحية: "قصة غير عادية" على ضوء اكتشافات ديستويفسكي النفسية) قدمت له مجلة "قضايا الأدب" الروسية بالآتي: "تم ضم هذا المقال إلى مجلد "التراث الأدبى"-(جونتشاروف: مواد جديـدة ودراسات). وقد أعد معهد الدراسات الأدبية العالمية التابع لأكاديمية العلوم الروسية هذه المجموعة للنشر بدعم من الصندوق العلمي الروسي للعلوم الإنسانية. وقام بتحرير المجلد كل من (س. أ. ماكاشيـن، ت. ج. دينيسمان).
عقب أول نشر لرواية "قصة غير عادية" عام 1924 صارت هذه الطبعة نادرة ويصعب الحصول على نسخة منها. بعد ذلك لم تُنْشَر كاملة على الإطلاق، وحتى عندما نُشِرَت ضمن مجموعة مؤلفات إيفان ألكسندروفيتش جونتشاروف عام 1980 جاءت مختصرة جدا. ومن أجل تراث جونتشاروف الأدبي أُعِد النص الكامل لرواية "قصة غير عادية" خصيصا من جديد بشكل علمي من النص الأصلي مع الضبط والتحقيق، وقامت ن. ف. بودانوفا بكتابة مقال الافتتاحية، وتولت الإشراف على نشرها في المجلد. والمقاطع المقتبسة من الرواية في هذا المقال نُقِلَت طبق الأصل من نصها المطبوع في مجلد التراث". هنا تنتهي مقدمة مجلة "قضايا الأدب". ولكن قبل تقديم ترجمة مقال البروفيسور روزينبلوم، يمكن المرور سريعا على حياة وأعمال هذا الكاتب.
وُلِد الكاتب والناقد الروسي إيفان ألكسندروفيتش جونتشاروف بمدينة سيمبيرسك ( في 6 يونيو 1812، وتوفى في 15 سبتمبر 1891) في أسرة تجار ميسورة الحال. تم انتخاب والده ألكسندر إيفانوفيتش جونتشاروف أكثر من مرة رئيسا لبلدية سيمبيرسك، وتوفي الوالد حينما أكمل إيفان عامه السابع. قامت الأم أفدوتيا ماتفيفنا بتربية الأولاد ومعها ضابط البحرية السابق نيكولاى نيكولايفيتش تريجوبوف ذلك الشخص الذي كان يتبنى بعض الآراء الطليعية، والذي كان على علاقة ببعض الديسمبريين. وهو بالذات الذي أيقظ اهتمام جوتشاروف الصغير إلى الرحلات البحرية.
درس جونتشاروف بالمدرسة الداخلية الخاصة للقس ف. س. ترويتسكي حيث تعلَّق بقراءة كتب المؤلفين الأوروبيين الغربيين والكتاب الروس، ودرس اللغتين الفرنسية والألمانية. وفي عام 1822 التحق جونتشاروف بالمدرسة البحرية الخاصة، وظل بها لمدة ثمان سنوات تعلم فيها الكثير من الأمور الهامة، ولكنه خرج مع ذلك بذكريات سيئة.
قبل أن ينهي جونتشاروف دراسته بالمدرسة البحرية، قرر التقدم إلى امتحانات القبول بجامعة موسكو، وبالفعل اجتازها عام 1831 (كانت الدراسة قد أُلغيت بجامعة موسكو عام 1830 نتيجة لانتشار مرض الكوليرا)& وأصبح جونتشاروف طالبا بكلية الآداب قسم علم اللغة. واهتم بنظرية الأدب وتاريخه وبالفنون التشكيلية وفن العمارة. وكانت أهم الأحداث التي تركت انطباعات قوية لديه في تلك السنوات هي زيارة الشاعر الروسي ألكسندر سيرجيفيتش بوشكين لجامعة موسكو حيث اشتعل نقاش حاد بين الشاعر والبروفيسور م. ت. كاتشينوفيسكي حول قضية مدى حقيقة حكاية "كلمة حول فيلق إيجوريف" (وهى حكاية شعبية عن معركة حربية بين الروس والتتار أثناء مقاومة الاحتلال التتاري لروسيا. وقد أصبحت هذه المعركة شكل من أشكال الأسطورة التي تبرز مدى صلابة مقاومة الروس دفاعا عن حريتهم واستقلالهم. واستلهمها العديد من الكتاب واستخدموها كأساس للكثير من القصص في أدب الأطفال).
بعد ذلك كتب جونتشاروف عن هذا اللقاء في مذكراته: "... بالنسبة لي، بالضبط، أضاءت الشمس القاعة كلها: في ذلك الوقت كنتُ مسحورا بقصائده. كنتُ أرضعها مثل لبن الأم، وكان شعره ينقلني إلى حالة من البهجة والفرح والرجفة. كانت قصائده وأعماله تنزل علىَّ مثل المطر... "يفجينى أونيجين"... "بولتافا"... وغيرها. إنني وجميع الشباب المهمومين آنذاك بالشعر ندين له مباشرة بالتأثير في دراستنا لعلم الجمال".
اتجه جونتشاروف إلى طريق الإبداع الأدبي في سنوات دراسته الجامعية. فبعد إنهائه الدراسة عام 1834 خدم في ديوان حاكم مدينة سيمبيرسك. وبعد ذلك (من مايو 1835) اشتغل مترجما بوزارة المالية في مدينة بطرسبورج-ولم يكن هذا العمل يعوقه كثيرا في أعماله الأدبية. وكانت العلاقة مع أسرة مايكوف (التي كان أفرادها يتميزون بمواهب فنية رفيعة: كان من بينهم الشعراء والفنانون التشكيليون) على وجه الخصوص تدفع بجونتشاروف الشاب نحو الاشتغال بالأدب. وكان صالون الأسرة الأدبي معروفا في بطرسبورج: كان يتردد عليه تورجينيف وديستويفسكي وجريجوريفيتش.
بدأ جونتشاروف، لأول مرة، بنشر أعماله في المجلة التي تصدرها أسرة مايكوف باسم "بُدسنيجنيك" (زهرة الجليد). وكانت هذه الأعمال في البداية عبارة عن قصائد شعرية تنحو إلى التقليد والتزويق، وبعناوين تقليدية دارجة، وبدون أفكار أصيلة أو أحاسيس قوية. بيد أن جونتشاروف سرعان ما تحرر في وقت مبكر من تلك الحماسات الرومانتيكية الساذجة.
وفي عام 1838 نشر جونتشاروف قصة طويلة مضحكة مضادة للرومانتيكية بعنوان "الحُمَّى" يتحدث فيها عن "مرض غريب" انتشر في أوروبا الغربية وانتقل منها إلى بطرسبورج، ويتجلى هذا المرض في عملية الإنشاد والإلقاء العاطفي الرقيق، وفي الأحلام التافهة حول القصور الطائرة في الهواء. وبُني السرد في هذه القصة على التناقض بين الحماسات الفارغة وحقائق الحياة العادية المثيرة للتيقظ والانتباه. وفي عام 1839 نشر جونتشاروف روايته القصيرة "الغلطة السعيدة" في التقويم الأدبي المسمى بـ "لونِّي نوتشي" (الليالي المقمرة) الذي كان يتشابه من حيث النزعة الفنية مع مجلة (زهرة الجليد). في رواية "الغلطة السعيدة" حاول الكاتب إعطاء تفسير واقعي للسلوك الإنساني وتصوير حالة حياتية محددة.
وفي إطار المقالات الفيزيولوجية التي انتشرت في ذاك الوقت تحت تأثير أعمال الكاتب الروسي نيقولاي جوجول، يكتب جونتشاروف عام 1842 مجموعة مقالات بعنوان "إيفان سافيتش بودجابرين". ولكن النشر المتأخر عام 1848 لهذه المجموعة من المقالات (عندما صارت الرواية الاجتماعية-النفسية في مركز اهتمام القراء) لم يعطها حقها من الذيوع والانتشار، أو يجعل منها عملا شهيرا على الرغم من |
أن هذه الأعمال في بداية الأربعينات من القرن التاسع عشر جاءت في وقتها تماما وكانت على مستوى عال جدا بالنسبة للإبداع في مجال جنس المقال. وكانت دقة اللوحات الحياتية والحِرَفِيَّة الرفيعة في نقل لغة البسطاء من أهل المدن وبساطة الموضوعات-كل ذلك كان يتحدث عن بصيرة الكاتب وقربه من المدرسة الجوجولية. بيد أن جونتشاروف دخل إلى فضاء الأدب الواسع بروايته "قصة عادية" (1847) والتي نُشِرَت في مجلة "سيفريمينيك" (المعاصر).
حازت رواية "قصة عادية" على رضاء ف. ج. بلينسكي (في مقال هام بعنوان "نظرة على الأدب الروسي لعام 1847"). وكان تقويمه سببا لفخر وكبرياء جونتشاروف طوال حياته. وعموما فقد كان بلينسكي قريبا إلى نفس الكاتب الذي كان يعتبره "رأس الحركة النقدية" في روسيا. أما كبار أصحاب الاتجاه الديمقراطي في الأدب في تلك الفترة، فقد استقبلوا الرواية باستحسان شديد نظرا لانطوائها على عملية بحث فني عميق، ونفي حاد للرومانتيكية بكل أشكالها الكثيرة المختلفة حيث استنكر الكاتب فيها التوجه المثالي المجرد للبطل الرئيسي ألكسندر أدويف تجاه ما يسمى بـ "الروح الإلهية" والأحلام الرقيقة للرومانتيكية "الوردية" حول الحب، تلك الأحلام غير القائمة على أحاسيس جدية وحقيقية. فالحلم الرومانتيكي للبطل لا يملأ وجود أي إنسان بالأحاسيس الحية، بل ولا يملأ وجوده هو نفسه. فالبطل أدويف يكتب الشعر، ولكن رومانتيكية الشاعر الشاب غير حية، ثانوية، مستعارة، وهو ما يعلِّق عليه الجد بيوتر إيفانوفيتش أدويف في سخرية. أما الأسباب التي جعلت حياة أدويف-الأصغر بدون هدف أو جدوى من حيث الجوهر، نجد أن جونتشاروف قد جعلها-أي الأسباب-الفكرة الرئيسية لروايته التالية "أبلوموف". إن التشدقات الحماسية الفارغة للبطل تظهر كنتيجة لتربيته الأرستقراطية، بينما الحياة المثالية بالنسبة للكاتب تتجلي في الهارمونية بين العقل والقلب، في الطبيعة (الفطرة)، ولكن ليس في العفوية أو عدم التبصر، وإنما في الفهم الحقيقي والإدراك الصادق لطبيعة الأمور وحركتها. وبالتالي فمصير أدويف-الأصغر يؤكد على أن تحقيق هذه الهارمونية أمر في غاية الصعوبة. فدخوله إلى معترك الحياة لم يكن مجهزا بفاعلية ذهنية نشطة، ورومانتيكيته ليست نابعة من تلك الثورة الروحية الت كان من الممكن أن يكون لها نتائج نافعة له وللآخرين، ولكنها جاءت علامة على العماء الذهني والروحي، وشكل من أشكال الحماس الصبياني الفارغ. وكان من البديهي أن تحدث عملية إيقاظ أدويف تحت تأثير الجد بشكل تدريجي، ولكنها في الغالب حدثت في حدود الإدارة التي يعمل بها، وفي إطار الخدمة الإداريـة التافهة، بينما بقي في حقيقة الأمر مجرد رومانتيكي "وردى" في مجال الحب. والجد يلفت نظره إلى نماذج السلوك والتصرفات الجديرة بالتقليد والمحاكاة: "انظر إلى الشباب الحالي: يالهم من أبطال! كم يغلون جميعا ويمورون بنشاطهم الذهني وطاقتهم".
ولكن "جهد" و"عمل" بيوتر إيفانوفيتش بعيدان تماما عن المبادئ الإنسانية للكاتب. فالنشاط العملي يجب أن يتجلي من خلال السلوك الإنساني ولا يستبعد أو يستثني الاهتمام والعناية بالحماسات الداخلية والتساؤلات والاستفسارات الفردية. إلا أن الأمر الأخير لا يوجد لدى الجد. ومع ذلك تأتى دروس الجد بالمنفعة على الحفيد!!& ففي نهاية الرواية يظهر ألكسندر أدويف متهللا ومشرقا وموردا وهو يحمل بفخر وكبرياء " كِرشا بارزا ووساما في رقبته" . لقد مرت أربع سنوات فقط على زيارة بطلنا الثانية لبطرسبورج، ومن أجل الحصول على الوسام كان عليه أن يتزوج زواجا في غاية التوفيق والنجاح، بالطبع بدون حب، ولكنه زواج محسوب: 500 نفس و 300 ألف روبل صداق.
في النهاية، فكل من أدويف الأصغر والأكبر معا، وحتى في أعلى مراحل تطورهما المختلفة، يمثلان ما فتن وحاز على إعجاب ليف تولستوى برواية "قصة عادية" حيث أطلق على الرواية مصطلح "الأدويفية" مؤكدا بذلك على أن خصوصيتها الرئيسية هي "الأنانية" وعدم الإمكانية على المشاركة في المصالح والاهتمامات العامة. وعموما فالفكرة الرئيسية لهذه الرواية تكمن في معاداة الرومانتيكية الفارغة وإدانتها، وفضح الصفات العملية للموظفين-وكل ما هو خال من الأفكار السامية الضرورية لحياة الإنسانية. وقد حصل هذا الموضوع الروائي على تطوير واسع في رواية "أبلوموف ".
بدأ جونتشاروف العمل برواية "أبلوموف" في حقبة الأربعينات من القرن التاسع عشر. وفي عام 1849 تم نشر جزء منها بعنوان "رؤيا أبلوموف". وعلى الفور أعلنت الحركة النقدية تقويمها العالي والرفيع لهذا الجزء المنشور من الرواية القادمة، خاصة وأنه انطوى على أهمية فنية مستقلة. وفي إطار النقاشات النقدية لمختلف الاتجاهات، اعترف البعض بالقدرة الفنية للكاتب ولكنهم اعترضوا على سخريته من الحياة الأبوية لصغار الملاك. واعترف البعض الآخر بحِرَفية الكاتب وإمكانياته العالية على تصوير الحياة الروسية، ورصدوا في "حلم أبلوموف" خطوة إبداعية جديدة وسابقة على زمنها بالمقارنة برواية "قصة عادية".
ولكن إلى أن تكتمل الرواية الرئيسية تمر سنوات عديدة حملت في طياتها أحداثا هائلة إلى حياة الكاتب، وأسهمت في أعماله الإبداعية المكثفة. ففي عام 1852 يسافر جونتشاروف كسكرتير للأدميرال ى. ف. بوتياتين في رحلة بحرية حول العالم لمدة عامين. وتجلت نتائج هذه الرحلة الهامة في مجلدين من المقالات، حيث السفر في سفينة حربية، ومع جميع المصاعب الظاهرية، كان يمثِّل بالنسبة لجونتشاروف أمرا في غاية الأهمية. وفى 25 فبراير 1855 يعود الكاتب إلى بطرسبورج برا عن طريق سيبيريا والأورال. وبالطبع فقد استغل هذه الرحلة ليقوم بتدوين العديد من الملاحظات والمشاهدات إلى رآها في أوروبا وأفريقيا وآسيا. وتم نشر هذه المقالات في جميع الصحف والمجلات في الفترة من عام 1855 إلى عام 1857. وكان جونتشاروف يردد دائما أن ملاحظاته المدونة في دفتر يومياته لا تحمل أي طابع تحليلي بحثي. إلا أنها، مع ذلك، في غاية الموضوعية والحقيقة من حيث تصويرها لكل ما قابله هذا الكاتب الراصد في طريقه. وانعكس في تلك المقالات ذلك الحماس المعادى للرومانتيكية: حيث تجادل وتناقش في تلك المقالات مع أولئك الرحالة الذين صوروا الحياة في المناطق البعيدة عن الحضارة بشكل مثالي ووردي. لقد رأى الكاتب العلاقات القاسية والشرسة للمنظومة الرأسمالية السارية في الأطراف القديمة من الأرض. وبالتالي فهو يقوم، بسخرية وتهكم لاذع ومر، بتقويم نتائج أعمال الأوروبيين "المثقفين، المتعلمين" في المناطق الشرقية، متحدثا عن مهازل الثقافة البرجوازية. وأدهشت جونتشاروف عملية قياس معايير الشخصية الفردية في إنجلترا (الصناعية-المتحضرة)، وعملية تحويل الإنسان إلى "ترس" في آلة. إن القيمة الرئيسية لمقالات جونتشاروف تكمن في النتائج الاجتماعية-النفسية وامتلائها الانفعالي لكل ما رآه فاللوحات الوصفية التصويرية مليئة بالأحاسيس، والمقابلات الرائعة، والتداعيات حول الحياة البعيدة في روسيا العزيزة عليه. وتصاعدت ردود الأفعال القوية من جميع المجلات على نشر تلك المقالات، وتعالت صيحات الاستحسان والتعليقات الإيجابية.
بعد الانتهاء من تلك المقالات، يبدأ جونتشاروف العمل في رواية "أبلوموف". وفي عام 1859 ينشرها في مجلة "النشرة الوطنية" لتصبح هذه الرواية القيمة الإبداعية للكاتب: بوضوح موضوعها الفني وتجليات نتائجها وأسلوبها الواضح والشمولي وكمال بنائها. وتعتبر رواية "أبلوموف" العمل الأدبي المركزي في الأدب الروسي كله من حيث النطاق الملحمي للبحث الأدبي-الفني في حياة النبلاء الروس، حيث تم تقديم نمط فني لشريحة واسعة تتميز بصفات نفسية واجتماعية غير عادية أو مألوفة.
إن أبلوموف مخلص ورقيق، ولم تتلاش فيه بعد تلك الصفة الأخلاقية الثمينة-الضمير. وهو على المستوى الذاتي غير قادر على فعل الشر. ولكن درجة القيمة الأخلاقية الموضوعية لديه ليست على أية حال كبيرة. إن البناء العام للموضوع يرسم لوحة للإقفار والتصحر الروحي للبطل: حيث أن التناقض الخارجي الغريبي، ولكن الجوهري، هو نتيجة طبيعية لامتزاج صفتي السيادة والعبودية. والوحدة الداخلية، أو بالأحري التوحد الداخلي للسيد والخادم المنحط زاخار (وهو التوحد التراجيكوميدي في جوهره ) يُفهَم كحالة هزلية للاحتضار الروحي عند أبلوموف. فزاخار أحد انعكاسات أو تجليات إليا إليتش أبلوموف، مجرد نسخة "مُعَدَّلَة" من الحالة "الأبلوموفية" (وأقرب مفهوم لها بالعربية هو حالـة: التنبلة). وفي ذلك تحديدا تكون قيمته. بالإضافة إلى ذلك، فنموذجه يُظهِر ويكشف موت الطبيعة الروحية عند أبلوموف. وكون أبلوموف أحد صغار المُلاك يُعَد موقف هادئ وحاسم في حالة تقويم هذه الطبيعة أو هذا الجوهر. إنه يتحمل المسؤولية الاجتماعية عن مصير زاخار، وهو من حيث الجوهر مصير مأساوي على الرغم من أن الخادم العجوز لا يدرك ذلك. ومع هذا فأبلوموف لا يعترف بذنبه. كما أن وجود "ثلاثمائة زاخاروف" لدى أبلوموف يقتلون فيه أي نشاط أو فاعلية. ومن حيث المفاهيم الجوجولية، فالعدد المُبَالَغ فيه "للمربين" هو رمز اجتماعى، وإشارة إلى أنه لا مفر من إعلاء شخص ما على الآخرين. وأبلوموف لا ينسى وضعه وهيبته كمالك، ولا يمكنه أبدا أن يتحرر من عجرفته الطبقية. فهو في الحقيقة، وبإمعان وتركيز شديدين يقوم بتعذيب وإضناء زاخار الذي قارن بدون حذر حياة سيده مع حياه الناس الآخرين.
إن تعطُّل أبلوموف وتبَطُّله، وتنبلته، ليست إطلاقا أمرا بسيطا أو بريئا. وبالطبع فإيليا إليتش المستلقي على الأريكة أكثر فتنة وجاذبية من الأشخاص الحقراء المزعجين الشبيهين أحيانا بالدمى، والذين يروحون ويجيئون أمام أبلوموف، وأحيانا أخرى يحتشدون ويلتفون حوله مثل أبناء آوى. وقد أشار الناقد ن. أ. دوبرولوبوف إلى أنه: "حينما يبقى أحد ما مستلقيا، فهذا ليس بعد بالأمر الخطير. ولكن بمجرد أن يأتى أمثال تارانتيف وزاتيرتى وإيفان ماتفيفيتش-أوه! أية بشاعة تبدأ بالقرب من أبلوموف. إنهم ينهشونه... يأكلون بشراهة... ويشربون حتى ينتفخون... ويسكرون حتى الثمالة... يخربون بيته باسم الرجولة... وهو يصبر على ذلك دون أن يتفوه...". ويوضح الناقد دوبرولوبوف، وكأنه يحذِّر من الاندهاش الزائد بخصوص الصفات الإيجابية لدى أبلوموف: "لا، لا يجب أن نداهن أو نتملق الأحياء، فنحن لم نزل بعد أحياء. ونحن أيضا، على نحو ما، أبلوموف. والتنبلة لم تفارقنا أبدا...".
تلك النتيجة تتأكد من تناقضات الفكرة الروائية: أبلوموف-شتولتز، أبلوموف-أولجا إلينسكايا. فشتولتز ليس بطلا إيجابيا بالرواية. وأفعاله تُذَكِّرنا أحيانا بالضجيج والهرج غير المبريين من بتروف وسودبينسكي اللذين ينتميان إلى حلقة بطرسبورج التي تحيط بأبلوموف والتي يحتقرها شتولتز. والحديث عن المشاغل الساخنة والأعمال الهامة والتطورات لدى شتولتز تثير التداعيات في علاقتها بالمندوبين التجاريين المتجولين وركض المحامين وجلبتهم. وعمليته بعيدة تماما عن المثاليات. وليس من الصعب على شتولتز أن يحزر قيمة النشاطات الثقافية-التجارية، والأفكار الاقتصادية. وعلى الرغم من أن الكاتب رأى، وإن كان من بعيد، أن مشاغل شتولتز تفتقر إلى الأفكار السامية، إلا أنها في نهاية المطاف عبارة عن تجلى واقعي تماما للتنبلة نظرا لأن كلمات شتولتز: "العمل-نموذج، جوهـر، حماس، هدف الحياة" تطن-بإرادة المؤلف-كإعلان بسيط وسطحي لا يمتلك أية آفاق اجتماعية أو روحية. إن نموذج شخصية شتولتز مرسوم ومُخطط، وانفعالي في جوهرهي، وذلك بسبب عدم وضوح تصور جونتشاروف للأمور الضرورية التي يمكنها أن تنقذ روسيا من التبطل والتعطل، من التنبلة.
والموضوع الرئيسي في الرواية هو العلاقة المتبادَلَة بين أبلوموف وأولجا إلينسكايا. فأولجا تتميز بهارمونية العقل والقلب، والإرادة وفعل الخير. وعدم إمكانية إدراك أبلوموف أو تقبله ذلك المعيار الأخلاقي السامي تتحول إلى حكم قاطع على شخصيته الفردية. وهكذا، ففي الرواية ترتدي مشاعر الحب لدى إيليا إليتش رداء العاطفية، الأمر الذي يمكنه أن يوَلِّد أملا ما: حيث يُبعَث أبلوموف كإنسان بكل المقاييس. فالحياة الداخلية للبطل تبدأ من الحركة، حيث يكشف الحب في طبيعة أبلوموف عن خصوصيات الوضوح والمباشرة، وينسكب في تيار روحي قوي، في شغف وولع وهيام وحماس. وإلى جوار مشاعر الحب تجاه أولجا إلينسكايا يستيقظ في أبلوموف اهتمام نشط تجاه الحياة الروحية، والفن، والاهتمام بمشاكل الزمن. ولكن إيليا إليتش بعيد تماما عن طبيعية أولجا المتحررة كليا من أية أفكار حياتية-معيشية مبنية ومخططة، ومعادية لأحاسيس الحب. إن مشاعر حب أبلوموف لأولجا كانت مجرد ومضة قصيرة فسرعان ما انجلت خيالاته وأوهامه بهذا الخصوص. والفارق بين أولجا وأبلوموف أمر طبيعى: لأن طبيعة كل منهما مختلفة تماما عن الأخرى.
بمجرد ظهور هذه الرواية إلى النور صارت محط اهتمام المجتمع الروسي. وكان أول من هب للحديث عنها كان ليف تولستوى في رسالة إلى الناقد أ. ف. دروجينين بتاريخ 16 أبريل 1859: "أبلوموف-موضوع عام ورئيسي وشاملي. موضوع ظل لفترة طويلة غير موجود. قولوا لجونتشاروف أنني في غاية الإعجاب بـ "أبلوموف"، وأعيد قراءتها للمرة الثانية. وسوف يسعده أن "أبلوموف" حازت على نجاح ليس صدفويا أو عابرا، وإنما نجاح حقيقي وعام ليس مؤقتا". أما الناقد دوبرولوبوف فقد أعطى صفة "الأبلوموفية"-التنبلة-مفهوما تاريخيا موَسَّعَا. وأشار إلى أن هذه الصفة كانت موجودة في أعمال العديد من الكتاب السابقين في مفهومها الأخلاقي-الاجتماعي الذي يشترك هنا مع ما طُرِح في "أبلوموف". لقد وردت عند بوشكين-أونيجين، وعند ليرمنتوف-بيتشورين، وعند تورجينيف-رودين. وأصبحت توصيفات دوبرولوبوف ومصطلحاته من أهم التوصيفات الكلاسيكية التي حافظت، وما تزال تحافظ، على قيمتها إلى وقتنا الحاضر.
وإمعانا في فضح طبقة النبلاء الروس، وتأكيدا على أن صفة التنبلة والتعطل والتبطل لم تتلاش أو يطويها الماضي، واصل جونتشاروف دراسة الحالة النفسية لهذه الطبقة والبحث فيها. فبعد "أبلوموف" قام بكتابة رواية "الانكسار" عام 1869 مقدما إلينا حالة أخرى جديدة، وفي غاية الإقناع، بشأن عملية "التنبلة" في نموذج شخصية البطل الرئيسي بوريس رايسكي. فهو طبيعة رومانتيكية موهوبة فنيا، ولكن سلبية إرادته "الأبلوموفية" تجعل من مساعيه الروحية مجرد عقم طبيعي.
ظل جونتشاروف يعمل لفترة طويلة في هذه الرواية. وقد كانت هناك بعض المعوقات الخارجية حيث اشتغل في الرقابة بداية من عام 1855. وهي الفترة التي خفَّت فيها يد الرقابة الحكومية على الأدب. ومن هنا استطاع أن يقدم أشياء كثيرة للأدب الوطني الروسي حيث ساعد في نشر العديد من أعمال تورجينيف ونيكراسوف وبيسيمسكي وديستويفسكي التي لم تكن تروق لرؤسائه آنذاك. وعندما بدأت يد الرقابة تقوى مرة أخرى، قدَّم جونتشاروف استقالته عام 1860 وظل يعمل لبعض الوقت مصححا بالجريدة الرسمية "بريد الشمال". وحينما وقف إلى جانب الإصلاحات الحكومية، ومن ضمنها إصلاحات 19 فبراير 1860 الشهيرة بخصوص "قضايا الفلاحين"، وجهوا إليه الدعوة من جديد لشغل منصب مرموق في لجنة الرقابة. وبداية من عام 1863 أصبح عضوا بمجلس شؤون نشر الكتب، وفي عام 1865 صار عضوا بالإدارة الرئيسية لشؤون النشر. وفقط في عام 1867 ترك لجنة النشر. بيد أن هذا العمل لم يكن يلقى ترحيبا من دوائر زملائه الكتاب. إضافة إلى أنه كان سببا في بطء جونتشاروف في العمل برواية "الانكسار"، بل وأثر على الكثير من المسوغات الفكرية لها. وعموما فلم تكن الأسباب السابقة هي الوحيدة في بطء جونتشاروف بشأن العمل في رواية "الانكسار"، وإنما كان هناك سبب آخر سيتعرض له الباحث روزينبلوم في مقالته "دراما جونتشاروف الروحية" بخصوص سطو تورجينيف على فكرة جونتشاروف.
في عام 1860 تم نشر أول جزء من رواية "الانكسار" تحت عنوان "صوفيا نيكولايفنا بيلافودوفا". ولكن جونتشاروف نفسه أدلى في وقت لاحق بتقويم سلبي لهذا الجزء. ولكن بعد مرور عام واحد نشر جزء ثانيا بعنوان "الجدة"، ثم جزء ثالثا بعنوان "بورتريه". وعلى الفور اتضح أن جونتشاروف قد وضع يده على الأسلوب الصحيح لعملية السرد، وأدرك جيدا الهدف الفني للرواية. وبالانتهاء منها أعلن الكاتب: "كانت الفكرة الأولية لدى هي أن فيرا، التي أغواها البطل، سوف تلبى نداءه، وتتبعه بعد ذلك تاركة عشها كله. وسوف يسير مع الفتاة عَبْرَ سيبيريا كلها. ولكن ذلك حدث مائة مرة-ثم سيطر على أمر آخر موجود في الجزء الخامس، وهو تحليل ما يسمي بالسقوط".
هذا التصريح جاء في رسالة جونتشاروف إلى ي. ب. مايكوف في أبريل عام 1869، ولكن حدث تحول في تصوير الهدف المراد، وتغيرت نبرة الحديث: اكتسبت أحاسيس فيرا وجهة أخرى، وتلاشت مفاهيمها المضادة للمفاهيم الأبوية الاستبدادية، واكتسبت عدمية مارك فولوخوف تكوينات وأشكال أخرى. وجاءت جميع أحداث "الانكسار" مرتبطة بشكل أو بآخر من حيث موضوعها بالبطل الرئيسي بوريس رايسكي، أو على الأقل تجري تحت عدسته الراصدة النشطة. وتقويماته ومتابعاته. فرايسكي رومانتيكي، وهذا هو تقويمه الشخصي لنفسه. أما أفكار مارك فولوخوف فهي إيمانات المؤلف، وأفكاره الأخلاقية الراسخة في مجال الأحاسيس الشخصية والخاصة، أي في الحب. أما حماس رايسكي، فهو حماس رومانتيكي ولكنه ليس أعمى: ففي اختلائه بالإنسان الذي يحبه لا توجد لديه أية أمور غير عاقلة أو غير محسوبة. إن الوله المأساوي بفيرا يقود رايسكي إلى التبصر، حيث يدين الأخلاقيات الاجتماعية الكاذبة والتضليلية حينما يتضح للرجل والمرأة على حد سواء اختلاف وتباين المتطلبات والاحتياجات الأخلاقية.
إن جونتشاروف يدافع بشدة عن المبادئ الأخلاقية للحياة الأبوية-الإقطاعية. ذلك بالتحديد يرغمه أحيانا على الإدانة الشديدة لعدم الثبات وانعدام الإرادة والعمي الفني لبوريس رايسكي وأبطال الرواية الآخرين. وعلى ضوء دفاع المؤلف عن المبادئ الأبوية تبدو سعادة مارفينكا-فيكينتيفا مجرد حدوتة عاطفية ساذجة. وعلى الرغم من أن شخصية توشين جاءت مؤدلجة، وشخصية شتولتز-منفرة للقارئ في كل شئ، إلا أن الرواية ليست أبدا تصويرا أيديولوجيا تقليديا، أو في أسوأ الأحوال ساذجا، وإنما بنيت على أساس قوانين الفن. وامتلأت النماذج الشخصية، التي رسمها الكاتب بنظرة حكيمة وإنسانية إلى الحياة، بمفاهيم واسعة، واكتسبت ملامح إنسانية عامة من حيث وجودها.
إن كل الإحالات والارتكازات الأخلاقية لجونتشاروف في الرواية مرتبطة بذلك النموذج الرائع لشخصية تاتيانا ماركوفنا بيريجكوفا-الجدة. فخبرتها الحياتية، وخاصة خبرتها الروحية قبل كل شئ، إذا لم تتنبأ بالمصائب العابرة، فسوف تنقذ من الانهيار النهائي، من الموت والتلاشي: تلك هي معتقدات المؤلف. إن تاتيانا ماركوفنا، في نهاية الأمر، تقف أمام القارئ كطابع جلي للشخصية القومية. من هنا تكتسب الواقعية الفنية لنموذج شخصية الجدة نطاقا واسعا حينما ينكشف ماضيها، وحينما يتزلزل كيانها عندما تعرف بـ "سقوط" فيرا.
أما نموذج شخصية فيرا فهو بحق اكتشاف أو ابتكار فني لجونتشاروف. فإمكانية الحب كإحساس جارف يحزرها القارئ على الفور في المرأة الشابة بمجرد أن تعلن البطلة، التي وقعت في موقف إشكالي بحكم الظروف، عن نفسها بشكل حاد ومباشر. إن حب فيرا لمارك نابع من إحساسها العملي، ومن تعطشها إلى تغيير هذا الإنسان والسمو به. ولو كانت الأحلام الساذجة قد بقيت، لكفت عن أن تكون الحوافز الأساسية لتصرفاتها: حيث تملك فيرا حب جارف لإنسان غير عادي. ولكن عقلها يظل، كما في السابق، لا يتقبل الأفعال الغريبة لفولوخوف. ومن ثم تظل نداءات مارك فولوخوف المقصودة غريبـة عنها. ليس فقط النداءات، وإنما أيضا وجهات نظره واتهاماته للبرنامج الفكري. إن جونتشاروف يعيد بشكل رائع بناء ثورة وصراع الأحاسيس المخلصة للمرأة الشابة، ويعلو بها بشكل شاعري خلاق. أما نموذج شخصية مارك فولوخوف الذي رُسِم بقدر كبير من التحيز، فقد أثار ردود أفعال غير راضية عند نشر الرواية. ومع ذلك فقد ظل جونتشاروف يعتز بهذا النموذج.
أعلنت ردود الأفعال النقدية بالمجلات والجرائد عدم رضائها العام عن رواية "الانكسار". وتناولت الحركة النقدية الديمقراطية هذه الرواية بدون رحمة. وفي مقال لسالطيكوف-شيدرين بعنوان "فلسفة الشوارع" بالنشرة الوطنية-العدد 6 لعام 1869-قارن رواية "الانكسار" برواية "أبلوموف" كاشفا في الثانية عن أن الأفكار الواردة فيها قيلت بشكل أفضل لدى الكتاب الجيدين في أربعينات القرن التاسع عشر (وكان المقصود بذلك هو بلينسكي). ولم ير شيدرين في أبطال "الانكسار" الحركة الحقيقية للحياة، بل مجرد "خطوات مترددة" لبشر يسيرون بصورة اعتباطية، أولئك البشر الذين تسير أفعالهم "بدون بداية أو نهاية". وسخر شيدرين بشدة من "العدمية المبتذلَة" في نموذج شخصية فولوخوف، والتي حاول الكاتب من خلالها إدانة الجيل الشاب آنذاك.
ومع ذلك لم يستطع التعاطف الشديد من جانب جمهور القراء الواسع أن يحرك جونتشاروف ويدفعه إلى خلق لوحة فنية أخرى كبيرة وجديدة. وبقيت فكرة رواية جونتشاروف التى تناولت في مضمونها حقبة سبعينات القرن التاسع عشر غير محققة. وفي عام 1872 قام بكتابة واحد من أروع المقالات النقدية الأدبية بعنوان "مليون عذاب". هذا العمل يُعَد حتى الآن أهم وأعظم الأعمال الكلاسيكية التي كتبت عن كوميديا جريبويدوف "صاحب العقل يشقى". ولقد قاد تحليل هذه الكوميديا جونتشاروف إلى نتيجة مفادها أن شخصيتها المركزية تشاتسكي يعاني من الشقاء ليس فقط بسبب العقل، وإنما "أيضا، وأكثر، بسبب المشاعر المُهانة". ويتجادل جونتشاروف في هذا المقال مع ناقده المحبوب بلينسكى الذي كان يرى أن تشاتسكى هو "دون كيشوت جديد ومجرد صبي يركب العصا متصورا أنه يمتطى حصانا".
وبعد مقاله عن كوميديا جريبويدوف تبعه جونتشاروف بمقال تحت عنوان "ملاحظات حول شخصية بلينسكي" (نشِر فقط في عام 1881 في كتاب جونتشاروف بعنوان "أربعة مقالات"). وهو يجد أيضا أن لدى بلينسكي "مليون عذاب"، ويعلى كثيرا من شأن النقد الأخلاقي. وفي مقال "هاملت مرة أخرى على خشبات المسرح الروسي" (والذي نُشِر لأول مرة عام 1900)، يكتب جونتشاروف حول المصير المأساوي للناس الذين على شاكلة هاملت "أصحاب الطبائع الرقيقة الذين منحهم المنطق الراسخ والأخلاقيات الواضحة غزارة القلب المُهلِكة".
وفي عام 1879 يقوم جونتشاروف بإتمام أضخم أعماله الأدبية-لنقدية بعنوان "التأخر خير من عدم المجئ"، والذي حدد فيه كيفية "الملاحظات النقدية وتحليل أعمالي أي فسير مهامي كمؤلف، وكيف أفهمها أنا نفسى". والميزة الرئيسية لهذا العمل تكمن في محاولات جونتشاروف ربط إبداعاته بالحياة الاجتماعية الروسية لأواسط القرن التاسع عشر. وعندما قال جونتشاروف أنه يرى في رواياته الثلاث رواية واحدة، أعلن بذلك أن كلا من الأبطال الرئيسيين الثلاثة في "قصة عادية" و"أبلومـوف" و"الانكسار" يجسدون أهم ملامح ثلاث حقب للتاريخ الروسي في زمنه. ولكن بتعقبه تلك الشخصيات ورصده لها كأنماط لثلاث حقب، يقلل جونتشاروف بذلك من القيمة الإنسانية العامة لتلك الشخصيـات الفنية! وعموما فقد كان هذا رأيه. إلا أنه من الناحية الأخرى، فمقال "التأخر خير من عدم المجئ" يمثل أهمية نظرية على وجه الخصوص: حيث حاول الكاتب تأسيس نمطين من الإبداع-"واع" و"غير واع"، إضافة إلى تحديد طبيعة الخيال الفني.
إن خصوصية الواقعية الفنية لدى جونتشاروف تكمن في العديد من القضايا والإشكاليات الجمالية الصعبة، وذلك بالكشف عن الديناميكية الداخلية لشخصية الفردية خارج إطار الأحداث غيـر العادية. فالكاتب كان يرى تيارات الحياة الداخلية وتوترها وصخبها تكمن جميعا في اعتيادية الحياة وعاديتها وفي بطئها المدهش. وأهم القيم الثمينة في رواياته هي الدعوة الموضوعية إلى العمل الذي تمليه الأفكار الأخلاقية الكبرى: التحرر من العبودية الروحية والاجتماعية عن طريق كل ما هو إنساني وروحي.
حازت رواية "قصة عادية" على رضاء ف. ج. بلينسكي (في مقال هام بعنوان "نظرة على الأدب الروسي لعام 1847"). وكان تقويمه سببا لفخر وكبرياء جونتشاروف طوال حياته. وعموما فقد كان بلينسكي قريبا إلى نفس الكاتب الذي كان يعتبره "رأس الحركة النقدية" في روسيا. أما كبار أصحاب الاتجاه الديمقراطي في الأدب في تلك الفترة، فقد استقبلوا الرواية باستحسان شديد نظرا لانطوائها على عملية بحث فني عميق، ونفي حاد للرومانتيكية بكل أشكالها الكثيرة المختلفة حيث استنكر الكاتب فيها التوجه المثالي المجرد للبطل الرئيسي ألكسندر أدويف تجاه ما يسمى بـ "الروح الإلهية" والأحلام الرقيقة للرومانتيكية "الوردية" حول الحب، تلك الأحلام غير القائمة على أحاسيس جدية وحقيقية. فالحلم الرومانتيكي للبطل لا يملأ وجود أي إنسان بالأحاسيس الحية، بل ولا يملأ وجوده هو نفسه. فالبطل أدويف يكتب الشعر، ولكن رومانتيكية الشاعر الشاب غير حية، ثانوية، مستعارة، وهو ما يعلِّق عليه الجد بيوتر إيفانوفيتش أدويف في سخرية. أما الأسباب التي جعلت حياة أدويف-الأصغر بدون هدف أو جدوى من حيث الجوهر، نجد أن جونتشاروف قد جعلها-أي الأسباب-الفكرة الرئيسية لروايته التالية "أبلوموف". إن التشدقات الحماسية الفارغة للبطل تظهر كنتيجة لتربيته الأرستقراطية، بينما الحياة المثالية بالنسبة للكاتب تتجلي في الهارمونية بين العقل والقلب، في الطبيعة (الفطرة)، ولكن ليس في العفوية أو عدم التبصر، وإنما في الفهم الحقيقي والإدراك الصادق لطبيعة الأمور وحركتها. وبالتالي فمصير أدويف-الأصغر يؤكد على أن تحقيق هذه الهارمونية أمر في غاية الصعوبة. فدخوله إلى معترك الحياة لم يكن مجهزا بفاعلية ذهنية نشطة، ورومانتيكيته ليست نابعة من تلك الثورة الروحية الت كان من الممكن أن يكون لها نتائج نافعة له وللآخرين، ولكنها جاءت علامة على العماء الذهني والروحي، وشكل من أشكال الحماس الصبياني الفارغ. وكان من البديهي أن تحدث عملية إيقاظ أدويف تحت تأثير الجد بشكل تدريجي، ولكنها في الغالب حدثت في حدود الإدارة التي يعمل بها، وفي إطار الخدمة الإداريـة التافهة، بينما بقي في حقيقة الأمر مجرد رومانتيكي "وردى" في مجال الحب. والجد يلفت نظره إلى نماذج السلوك والتصرفات الجديرة بالتقليد والمحاكاة: "انظر إلى الشباب الحالي: يالهم من أبطال! كم يغلون جميعا ويمورون بنشاطهم الذهني وطاقتهم".
ولكن "جهد" و"عمل" بيوتر إيفانوفيتش بعيدان تماما عن المبادئ الإنسانية للكاتب. فالنشاط العملي يجب أن يتجلي من خلال السلوك الإنساني ولا يستبعد أو يستثني الاهتمام والعناية بالحماسات الداخلية والتساؤلات والاستفسارات الفردية. إلا أن الأمر الأخير لا يوجد لدى الجد. ومع ذلك تأتى دروس الجد بالمنفعة على الحفيد!!& ففي نهاية الرواية يظهر ألكسندر أدويف متهللا ومشرقا وموردا وهو يحمل بفخر وكبرياء " كِرشا بارزا ووساما في رقبته" . لقد مرت أربع سنوات فقط على زيارة بطلنا الثانية لبطرسبورج، ومن أجل الحصول على الوسام كان عليه أن يتزوج زواجا في غاية التوفيق والنجاح، بالطبع بدون حب، ولكنه زواج محسوب: 500 نفس و 300 ألف روبل صداق.
في النهاية، فكل من أدويف الأصغر والأكبر معا، وحتى في أعلى مراحل تطورهما المختلفة، يمثلان ما فتن وحاز على إعجاب ليف تولستوى برواية "قصة عادية" حيث أطلق على الرواية مصطلح "الأدويفية" مؤكدا بذلك على أن خصوصيتها الرئيسية هي "الأنانية" وعدم الإمكانية على المشاركة في المصالح والاهتمامات العامة. وعموما فالفكرة الرئيسية لهذه الرواية تكمن في معاداة الرومانتيكية الفارغة وإدانتها، وفضح الصفات العملية للموظفين-وكل ما هو خال من الأفكار السامية الضرورية لحياة الإنسانية. وقد حصل هذا الموضوع الروائي على تطوير واسع في رواية "أبلوموف ".
بدأ جونتشاروف العمل برواية "أبلوموف" في حقبة الأربعينات من القرن التاسع عشر. وفي عام 1849 تم نشر جزء منها بعنوان "رؤيا أبلوموف". وعلى الفور أعلنت الحركة النقدية تقويمها العالي والرفيع لهذا الجزء المنشور من الرواية القادمة، خاصة وأنه انطوى على أهمية فنية مستقلة. وفي إطار النقاشات النقدية لمختلف الاتجاهات، اعترف البعض بالقدرة الفنية للكاتب ولكنهم اعترضوا على سخريته من الحياة الأبوية لصغار الملاك. واعترف البعض الآخر بحِرَفية الكاتب وإمكانياته العالية على تصوير الحياة الروسية، ورصدوا في "حلم أبلوموف" خطوة إبداعية جديدة وسابقة على زمنها بالمقارنة برواية "قصة عادية".
ولكن إلى أن تكتمل الرواية الرئيسية تمر سنوات عديدة حملت في طياتها أحداثا هائلة إلى حياة الكاتب، وأسهمت في أعماله الإبداعية المكثفة. ففي عام 1852 يسافر جونتشاروف كسكرتير للأدميرال ى. ف. بوتياتين في رحلة بحرية حول العالم لمدة عامين. وتجلت نتائج هذه الرحلة الهامة في مجلدين من المقالات، حيث السفر في سفينة حربية، ومع جميع المصاعب الظاهرية، كان يمثِّل بالنسبة لجونتشاروف أمرا في غاية الأهمية. وفى 25 فبراير 1855 يعود الكاتب إلى بطرسبورج برا عن طريق سيبيريا والأورال. وبالطبع فقد استغل هذه الرحلة ليقوم بتدوين العديد من الملاحظات والمشاهدات إلى رآها في أوروبا وأفريقيا وآسيا. وتم نشر هذه المقالات في جميع الصحف والمجلات في الفترة من عام 1855 إلى عام 1857. وكان جونتشاروف يردد دائما أن ملاحظاته المدونة في دفتر يومياته لا تحمل أي طابع تحليلي بحثي. إلا أنها، مع ذلك، في غاية الموضوعية والحقيقة من حيث تصويرها لكل ما قابله هذا الكاتب الراصد في طريقه. وانعكس في تلك المقالات ذلك الحماس المعادى للرومانتيكية: حيث تجادل وتناقش في تلك المقالات مع أولئك الرحالة الذين صوروا الحياة في المناطق البعيدة عن الحضارة بشكل مثالي ووردي. لقد رأى الكاتب العلاقات القاسية والشرسة للمنظومة الرأسمالية السارية في الأطراف القديمة من الأرض. وبالتالي فهو يقوم، بسخرية وتهكم لاذع ومر، بتقويم نتائج أعمال الأوروبيين "المثقفين، المتعلمين" في المناطق الشرقية، متحدثا عن مهازل الثقافة البرجوازية. وأدهشت جونتشاروف عملية قياس معايير الشخصية الفردية في إنجلترا (الصناعية-المتحضرة)، وعملية تحويل الإنسان إلى "ترس" في آلة. إن القيمة الرئيسية لمقالات جونتشاروف تكمن في النتائج الاجتماعية-النفسية وامتلائها الانفعالي لكل ما رآه فاللوحات الوصفية التصويرية مليئة بالأحاسيس، والمقابلات الرائعة، والتداعيات حول الحياة البعيدة في روسيا العزيزة عليه. وتصاعدت ردود الأفعال القوية من جميع المجلات على نشر تلك المقالات، وتعالت صيحات الاستحسان والتعليقات الإيجابية.
بعد الانتهاء من تلك المقالات، يبدأ جونتشاروف العمل في رواية "أبلوموف". وفي عام 1859 ينشرها في مجلة "النشرة الوطنية" لتصبح هذه الرواية القيمة الإبداعية للكاتب: بوضوح موضوعها الفني وتجليات نتائجها وأسلوبها الواضح والشمولي وكمال بنائها. وتعتبر رواية "أبلوموف" العمل الأدبي المركزي في الأدب الروسي كله من حيث النطاق الملحمي للبحث الأدبي-الفني في حياة النبلاء الروس، حيث تم تقديم نمط فني لشريحة واسعة تتميز بصفات نفسية واجتماعية غير عادية أو مألوفة.
إن أبلوموف مخلص ورقيق، ولم تتلاش فيه بعد تلك الصفة الأخلاقية الثمينة-الضمير. وهو على المستوى الذاتي غير قادر على فعل الشر. ولكن درجة القيمة الأخلاقية الموضوعية لديه ليست على أية حال كبيرة. إن البناء العام للموضوع يرسم لوحة للإقفار والتصحر الروحي للبطل: حيث أن التناقض الخارجي الغريبي، ولكن الجوهري، هو نتيجة طبيعية لامتزاج صفتي السيادة والعبودية. والوحدة الداخلية، أو بالأحري التوحد الداخلي للسيد والخادم المنحط زاخار (وهو التوحد التراجيكوميدي في جوهره ) يُفهَم كحالة هزلية للاحتضار الروحي عند أبلوموف. فزاخار أحد انعكاسات أو تجليات إليا إليتش أبلوموف، مجرد نسخة "مُعَدَّلَة" من الحالة "الأبلوموفية" (وأقرب مفهوم لها بالعربية هو حالـة: التنبلة). وفي ذلك تحديدا تكون قيمته. بالإضافة إلى ذلك، فنموذجه يُظهِر ويكشف موت الطبيعة الروحية عند أبلوموف. وكون أبلوموف أحد صغار المُلاك يُعَد موقف هادئ وحاسم في حالة تقويم هذه الطبيعة أو هذا الجوهر. إنه يتحمل المسؤولية الاجتماعية عن مصير زاخار، وهو من حيث الجوهر مصير مأساوي على الرغم من أن الخادم العجوز لا يدرك ذلك. ومع هذا فأبلوموف لا يعترف بذنبه. كما أن وجود "ثلاثمائة زاخاروف" لدى أبلوموف يقتلون فيه أي نشاط أو فاعلية. ومن حيث المفاهيم الجوجولية، فالعدد المُبَالَغ فيه "للمربين" هو رمز اجتماعى، وإشارة إلى أنه لا مفر من إعلاء شخص ما على الآخرين. وأبلوموف لا ينسى وضعه وهيبته كمالك، ولا يمكنه أبدا أن يتحرر من عجرفته الطبقية. فهو في الحقيقة، وبإمعان وتركيز شديدين يقوم بتعذيب وإضناء زاخار الذي قارن بدون حذر حياة سيده مع حياه الناس الآخرين.
إن تعطُّل أبلوموف وتبَطُّله، وتنبلته، ليست إطلاقا أمرا بسيطا أو بريئا. وبالطبع فإيليا إليتش المستلقي على الأريكة أكثر فتنة وجاذبية من الأشخاص الحقراء المزعجين الشبيهين أحيانا بالدمى، والذين يروحون ويجيئون أمام أبلوموف، وأحيانا أخرى يحتشدون ويلتفون حوله مثل أبناء آوى. وقد أشار الناقد ن. أ. دوبرولوبوف إلى أنه: "حينما يبقى أحد ما مستلقيا، فهذا ليس بعد بالأمر الخطير. ولكن بمجرد أن يأتى أمثال تارانتيف وزاتيرتى وإيفان ماتفيفيتش-أوه! أية بشاعة تبدأ بالقرب من أبلوموف. إنهم ينهشونه... يأكلون بشراهة... ويشربون حتى ينتفخون... ويسكرون حتى الثمالة... يخربون بيته باسم الرجولة... وهو يصبر على ذلك دون أن يتفوه...". ويوضح الناقد دوبرولوبوف، وكأنه يحذِّر من الاندهاش الزائد بخصوص الصفات الإيجابية لدى أبلوموف: "لا، لا يجب أن نداهن أو نتملق الأحياء، فنحن لم نزل بعد أحياء. ونحن أيضا، على نحو ما، أبلوموف. والتنبلة لم تفارقنا أبدا...".
تلك النتيجة تتأكد من تناقضات الفكرة الروائية: أبلوموف-شتولتز، أبلوموف-أولجا إلينسكايا. فشتولتز ليس بطلا إيجابيا بالرواية. وأفعاله تُذَكِّرنا أحيانا بالضجيج والهرج غير المبريين من بتروف وسودبينسكي اللذين ينتميان إلى حلقة بطرسبورج التي تحيط بأبلوموف والتي يحتقرها شتولتز. والحديث عن المشاغل الساخنة والأعمال الهامة والتطورات لدى شتولتز تثير التداعيات في علاقتها بالمندوبين التجاريين المتجولين وركض المحامين وجلبتهم. وعمليته بعيدة تماما عن المثاليات. وليس من الصعب على شتولتز أن يحزر قيمة النشاطات الثقافية-التجارية، والأفكار الاقتصادية. وعلى الرغم من أن الكاتب رأى، وإن كان من بعيد، أن مشاغل شتولتز تفتقر إلى الأفكار السامية، إلا أنها في نهاية المطاف عبارة عن تجلى واقعي تماما للتنبلة نظرا لأن كلمات شتولتز: "العمل-نموذج، جوهـر، حماس، هدف الحياة" تطن-بإرادة المؤلف-كإعلان بسيط وسطحي لا يمتلك أية آفاق اجتماعية أو روحية. إن نموذج شخصية شتولتز مرسوم ومُخطط، وانفعالي في جوهرهي، وذلك بسبب عدم وضوح تصور جونتشاروف للأمور الضرورية التي يمكنها أن تنقذ روسيا من التبطل والتعطل، من التنبلة.
والموضوع الرئيسي في الرواية هو العلاقة المتبادَلَة بين أبلوموف وأولجا إلينسكايا. فأولجا تتميز بهارمونية العقل والقلب، والإرادة وفعل الخير. وعدم إمكانية إدراك أبلوموف أو تقبله ذلك المعيار الأخلاقي السامي تتحول إلى حكم قاطع على شخصيته الفردية. وهكذا، ففي الرواية ترتدي مشاعر الحب لدى إيليا إليتش رداء العاطفية، الأمر الذي يمكنه أن يوَلِّد أملا ما: حيث يُبعَث أبلوموف كإنسان بكل المقاييس. فالحياة الداخلية للبطل تبدأ من الحركة، حيث يكشف الحب في طبيعة أبلوموف عن خصوصيات الوضوح والمباشرة، وينسكب في تيار روحي قوي، في شغف وولع وهيام وحماس. وإلى جوار مشاعر الحب تجاه أولجا إلينسكايا يستيقظ في أبلوموف اهتمام نشط تجاه الحياة الروحية، والفن، والاهتمام بمشاكل الزمن. ولكن إيليا إليتش بعيد تماما عن طبيعية أولجا المتحررة كليا من أية أفكار حياتية-معيشية مبنية ومخططة، ومعادية لأحاسيس الحب. إن مشاعر حب أبلوموف لأولجا كانت مجرد ومضة قصيرة فسرعان ما انجلت خيالاته وأوهامه بهذا الخصوص. والفارق بين أولجا وأبلوموف أمر طبيعى: لأن طبيعة كل منهما مختلفة تماما عن الأخرى.
بمجرد ظهور هذه الرواية إلى النور صارت محط اهتمام المجتمع الروسي. وكان أول من هب للحديث عنها كان ليف تولستوى في رسالة إلى الناقد أ. ف. دروجينين بتاريخ 16 أبريل 1859: "أبلوموف-موضوع عام ورئيسي وشاملي. موضوع ظل لفترة طويلة غير موجود. قولوا لجونتشاروف أنني في غاية الإعجاب بـ "أبلوموف"، وأعيد قراءتها للمرة الثانية. وسوف يسعده أن "أبلوموف" حازت على نجاح ليس صدفويا أو عابرا، وإنما نجاح حقيقي وعام ليس مؤقتا". أما الناقد دوبرولوبوف فقد أعطى صفة "الأبلوموفية"-التنبلة-مفهوما تاريخيا موَسَّعَا. وأشار إلى أن هذه الصفة كانت موجودة في أعمال العديد من الكتاب السابقين في مفهومها الأخلاقي-الاجتماعي الذي يشترك هنا مع ما طُرِح في "أبلوموف". لقد وردت عند بوشكين-أونيجين، وعند ليرمنتوف-بيتشورين، وعند تورجينيف-رودين. وأصبحت توصيفات دوبرولوبوف ومصطلحاته من أهم التوصيفات الكلاسيكية التي حافظت، وما تزال تحافظ، على قيمتها إلى وقتنا الحاضر.
وإمعانا في فضح طبقة النبلاء الروس، وتأكيدا على أن صفة التنبلة والتعطل والتبطل لم تتلاش أو يطويها الماضي، واصل جونتشاروف دراسة الحالة النفسية لهذه الطبقة والبحث فيها. فبعد "أبلوموف" قام بكتابة رواية "الانكسار" عام 1869 مقدما إلينا حالة أخرى جديدة، وفي غاية الإقناع، بشأن عملية "التنبلة" في نموذج شخصية البطل الرئيسي بوريس رايسكي. فهو طبيعة رومانتيكية موهوبة فنيا، ولكن سلبية إرادته "الأبلوموفية" تجعل من مساعيه الروحية مجرد عقم طبيعي.
ظل جونتشاروف يعمل لفترة طويلة في هذه الرواية. وقد كانت هناك بعض المعوقات الخارجية حيث اشتغل في الرقابة بداية من عام 1855. وهي الفترة التي خفَّت فيها يد الرقابة الحكومية على الأدب. ومن هنا استطاع أن يقدم أشياء كثيرة للأدب الوطني الروسي حيث ساعد في نشر العديد من أعمال تورجينيف ونيكراسوف وبيسيمسكي وديستويفسكي التي لم تكن تروق لرؤسائه آنذاك. وعندما بدأت يد الرقابة تقوى مرة أخرى، قدَّم جونتشاروف استقالته عام 1860 وظل يعمل لبعض الوقت مصححا بالجريدة الرسمية "بريد الشمال". وحينما وقف إلى جانب الإصلاحات الحكومية، ومن ضمنها إصلاحات 19 فبراير 1860 الشهيرة بخصوص "قضايا الفلاحين"، وجهوا إليه الدعوة من جديد لشغل منصب مرموق في لجنة الرقابة. وبداية من عام 1863 أصبح عضوا بمجلس شؤون نشر الكتب، وفي عام 1865 صار عضوا بالإدارة الرئيسية لشؤون النشر. وفقط في عام 1867 ترك لجنة النشر. بيد أن هذا العمل لم يكن يلقى ترحيبا من دوائر زملائه الكتاب. إضافة إلى أنه كان سببا في بطء جونتشاروف في العمل برواية "الانكسار"، بل وأثر على الكثير من المسوغات الفكرية لها. وعموما فلم تكن الأسباب السابقة هي الوحيدة في بطء جونتشاروف بشأن العمل في رواية "الانكسار"، وإنما كان هناك سبب آخر سيتعرض له الباحث روزينبلوم في مقالته "دراما جونتشاروف الروحية" بخصوص سطو تورجينيف على فكرة جونتشاروف.
في عام 1860 تم نشر أول جزء من رواية "الانكسار" تحت عنوان "صوفيا نيكولايفنا بيلافودوفا". ولكن جونتشاروف نفسه أدلى في وقت لاحق بتقويم سلبي لهذا الجزء. ولكن بعد مرور عام واحد نشر جزء ثانيا بعنوان "الجدة"، ثم جزء ثالثا بعنوان "بورتريه". وعلى الفور اتضح أن جونتشاروف قد وضع يده على الأسلوب الصحيح لعملية السرد، وأدرك جيدا الهدف الفني للرواية. وبالانتهاء منها أعلن الكاتب: "كانت الفكرة الأولية لدى هي أن فيرا، التي أغواها البطل، سوف تلبى نداءه، وتتبعه بعد ذلك تاركة عشها كله. وسوف يسير مع الفتاة عَبْرَ سيبيريا كلها. ولكن ذلك حدث مائة مرة-ثم سيطر على أمر آخر موجود في الجزء الخامس، وهو تحليل ما يسمي بالسقوط".
هذا التصريح جاء في رسالة جونتشاروف إلى ي. ب. مايكوف في أبريل عام 1869، ولكن حدث تحول في تصوير الهدف المراد، وتغيرت نبرة الحديث: اكتسبت أحاسيس فيرا وجهة أخرى، وتلاشت مفاهيمها المضادة للمفاهيم الأبوية الاستبدادية، واكتسبت عدمية مارك فولوخوف تكوينات وأشكال أخرى. وجاءت جميع أحداث "الانكسار" مرتبطة بشكل أو بآخر من حيث موضوعها بالبطل الرئيسي بوريس رايسكي، أو على الأقل تجري تحت عدسته الراصدة النشطة. وتقويماته ومتابعاته. فرايسكي رومانتيكي، وهذا هو تقويمه الشخصي لنفسه. أما أفكار مارك فولوخوف فهي إيمانات المؤلف، وأفكاره الأخلاقية الراسخة في مجال الأحاسيس الشخصية والخاصة، أي في الحب. أما حماس رايسكي، فهو حماس رومانتيكي ولكنه ليس أعمى: ففي اختلائه بالإنسان الذي يحبه لا توجد لديه أية أمور غير عاقلة أو غير محسوبة. إن الوله المأساوي بفيرا يقود رايسكي إلى التبصر، حيث يدين الأخلاقيات الاجتماعية الكاذبة والتضليلية حينما يتضح للرجل والمرأة على حد سواء اختلاف وتباين المتطلبات والاحتياجات الأخلاقية.
إن جونتشاروف يدافع بشدة عن المبادئ الأخلاقية للحياة الأبوية-الإقطاعية. ذلك بالتحديد يرغمه أحيانا على الإدانة الشديدة لعدم الثبات وانعدام الإرادة والعمي الفني لبوريس رايسكي وأبطال الرواية الآخرين. وعلى ضوء دفاع المؤلف عن المبادئ الأبوية تبدو سعادة مارفينكا-فيكينتيفا مجرد حدوتة عاطفية ساذجة. وعلى الرغم من أن شخصية توشين جاءت مؤدلجة، وشخصية شتولتز-منفرة للقارئ في كل شئ، إلا أن الرواية ليست أبدا تصويرا أيديولوجيا تقليديا، أو في أسوأ الأحوال ساذجا، وإنما بنيت على أساس قوانين الفن. وامتلأت النماذج الشخصية، التي رسمها الكاتب بنظرة حكيمة وإنسانية إلى الحياة، بمفاهيم واسعة، واكتسبت ملامح إنسانية عامة من حيث وجودها.
إن كل الإحالات والارتكازات الأخلاقية لجونتشاروف في الرواية مرتبطة بذلك النموذج الرائع لشخصية تاتيانا ماركوفنا بيريجكوفا-الجدة. فخبرتها الحياتية، وخاصة خبرتها الروحية قبل كل شئ، إذا لم تتنبأ بالمصائب العابرة، فسوف تنقذ من الانهيار النهائي، من الموت والتلاشي: تلك هي معتقدات المؤلف. إن تاتيانا ماركوفنا، في نهاية الأمر، تقف أمام القارئ كطابع جلي للشخصية القومية. من هنا تكتسب الواقعية الفنية لنموذج شخصية الجدة نطاقا واسعا حينما ينكشف ماضيها، وحينما يتزلزل كيانها عندما تعرف بـ "سقوط" فيرا.
أما نموذج شخصية فيرا فهو بحق اكتشاف أو ابتكار فني لجونتشاروف. فإمكانية الحب كإحساس جارف يحزرها القارئ على الفور في المرأة الشابة بمجرد أن تعلن البطلة، التي وقعت في موقف إشكالي بحكم الظروف، عن نفسها بشكل حاد ومباشر. إن حب فيرا لمارك نابع من إحساسها العملي، ومن تعطشها إلى تغيير هذا الإنسان والسمو به. ولو كانت الأحلام الساذجة قد بقيت، لكفت عن أن تكون الحوافز الأساسية لتصرفاتها: حيث تملك فيرا حب جارف لإنسان غير عادي. ولكن عقلها يظل، كما في السابق، لا يتقبل الأفعال الغريبة لفولوخوف. ومن ثم تظل نداءات مارك فولوخوف المقصودة غريبـة عنها. ليس فقط النداءات، وإنما أيضا وجهات نظره واتهاماته للبرنامج الفكري. إن جونتشاروف يعيد بشكل رائع بناء ثورة وصراع الأحاسيس المخلصة للمرأة الشابة، ويعلو بها بشكل شاعري خلاق. أما نموذج شخصية مارك فولوخوف الذي رُسِم بقدر كبير من التحيز، فقد أثار ردود أفعال غير راضية عند نشر الرواية. ومع ذلك فقد ظل جونتشاروف يعتز بهذا النموذج.
أعلنت ردود الأفعال النقدية بالمجلات والجرائد عدم رضائها العام عن رواية "الانكسار". وتناولت الحركة النقدية الديمقراطية هذه الرواية بدون رحمة. وفي مقال لسالطيكوف-شيدرين بعنوان "فلسفة الشوارع" بالنشرة الوطنية-العدد 6 لعام 1869-قارن رواية "الانكسار" برواية "أبلوموف" كاشفا في الثانية عن أن الأفكار الواردة فيها قيلت بشكل أفضل لدى الكتاب الجيدين في أربعينات القرن التاسع عشر (وكان المقصود بذلك هو بلينسكي). ولم ير شيدرين في أبطال "الانكسار" الحركة الحقيقية للحياة، بل مجرد "خطوات مترددة" لبشر يسيرون بصورة اعتباطية، أولئك البشر الذين تسير أفعالهم "بدون بداية أو نهاية". وسخر شيدرين بشدة من "العدمية المبتذلَة" في نموذج شخصية فولوخوف، والتي حاول الكاتب من خلالها إدانة الجيل الشاب آنذاك.
ومع ذلك لم يستطع التعاطف الشديد من جانب جمهور القراء الواسع أن يحرك جونتشاروف ويدفعه إلى خلق لوحة فنية أخرى كبيرة وجديدة. وبقيت فكرة رواية جونتشاروف التى تناولت في مضمونها حقبة سبعينات القرن التاسع عشر غير محققة. وفي عام 1872 قام بكتابة واحد من أروع المقالات النقدية الأدبية بعنوان "مليون عذاب". هذا العمل يُعَد حتى الآن أهم وأعظم الأعمال الكلاسيكية التي كتبت عن كوميديا جريبويدوف "صاحب العقل يشقى". ولقد قاد تحليل هذه الكوميديا جونتشاروف إلى نتيجة مفادها أن شخصيتها المركزية تشاتسكي يعاني من الشقاء ليس فقط بسبب العقل، وإنما "أيضا، وأكثر، بسبب المشاعر المُهانة". ويتجادل جونتشاروف في هذا المقال مع ناقده المحبوب بلينسكى الذي كان يرى أن تشاتسكى هو "دون كيشوت جديد ومجرد صبي يركب العصا متصورا أنه يمتطى حصانا".
وبعد مقاله عن كوميديا جريبويدوف تبعه جونتشاروف بمقال تحت عنوان "ملاحظات حول شخصية بلينسكي" (نشِر فقط في عام 1881 في كتاب جونتشاروف بعنوان "أربعة مقالات"). وهو يجد أيضا أن لدى بلينسكي "مليون عذاب"، ويعلى كثيرا من شأن النقد الأخلاقي. وفي مقال "هاملت مرة أخرى على خشبات المسرح الروسي" (والذي نُشِر لأول مرة عام 1900)، يكتب جونتشاروف حول المصير المأساوي للناس الذين على شاكلة هاملت "أصحاب الطبائع الرقيقة الذين منحهم المنطق الراسخ والأخلاقيات الواضحة غزارة القلب المُهلِكة".
وفي عام 1879 يقوم جونتشاروف بإتمام أضخم أعماله الأدبية-لنقدية بعنوان "التأخر خير من عدم المجئ"، والذي حدد فيه كيفية "الملاحظات النقدية وتحليل أعمالي أي فسير مهامي كمؤلف، وكيف أفهمها أنا نفسى". والميزة الرئيسية لهذا العمل تكمن في محاولات جونتشاروف ربط إبداعاته بالحياة الاجتماعية الروسية لأواسط القرن التاسع عشر. وعندما قال جونتشاروف أنه يرى في رواياته الثلاث رواية واحدة، أعلن بذلك أن كلا من الأبطال الرئيسيين الثلاثة في "قصة عادية" و"أبلومـوف" و"الانكسار" يجسدون أهم ملامح ثلاث حقب للتاريخ الروسي في زمنه. ولكن بتعقبه تلك الشخصيات ورصده لها كأنماط لثلاث حقب، يقلل جونتشاروف بذلك من القيمة الإنسانية العامة لتلك الشخصيـات الفنية! وعموما فقد كان هذا رأيه. إلا أنه من الناحية الأخرى، فمقال "التأخر خير من عدم المجئ" يمثل أهمية نظرية على وجه الخصوص: حيث حاول الكاتب تأسيس نمطين من الإبداع-"واع" و"غير واع"، إضافة إلى تحديد طبيعة الخيال الفني.
إن خصوصية الواقعية الفنية لدى جونتشاروف تكمن في العديد من القضايا والإشكاليات الجمالية الصعبة، وذلك بالكشف عن الديناميكية الداخلية لشخصية الفردية خارج إطار الأحداث غيـر العادية. فالكاتب كان يرى تيارات الحياة الداخلية وتوترها وصخبها تكمن جميعا في اعتيادية الحياة وعاديتها وفي بطئها المدهش. وأهم القيم الثمينة في رواياته هي الدعوة الموضوعية إلى العمل الذي تمليه الأفكار الأخلاقية الكبرى: التحرر من العبودية الروحية والاجتماعية عن طريق كل ما هو إنساني وروحي.
التعليقات