&
&
&
&
تائهون على شوارع وأرصفة أمريكا..الأعياد مناسبات حزينة..مكالمات دولية غير حميمة... آباء يدقون المسمار الأخير في نعوش أبنائهم...والهوية الإسلامية شبهة فدرالية!!!
&
نضال زايد من هيوستن: ثمة يومان لن تنساهما أمي..اليوم الذي حصلت فيه على "الفيزا" من السفارة الأمريكية واليوم الذي أعود فيه محملاً في تابوت... هذا ما قاله "سعيد ظافر- سائق سيارة أجرة - " أحد الذين التقينا بهم في سياق هذا الموضوع..لنكتشف أن قصة ظافر لا تقل وجعاً عن القصص والروايات التي سمعناها من آخرين...وبين الذهاب غرباً والعودة شرقاً ثمة قصص دفنت في قلب "الأطلسي" الذي بعبوره تغيرت حياة مئات الألوف من الشباب والمهاجرين العرب...
في هذا التحقيق بوح صريح...وفضفضة...وقصص حزينة كشف عنها أصحابها بدون مواربة أو خجل بعد أن وعدناهم بعدم الكشف عن أسمائهم الحقيقية وأننا نجري هذا الاستطلاع بحثاً عن قصص المهاجرين العرب ومآسيهم لا بحثاً عن فضيحة تلوكها أفواهنا...فتابعوا معنا ملامح العلاقة بين المغترب وأهله في الوطن...

... للسفر إلى أمريكا مذاق خاص في أفواه الأبناء ونكهة خاصة في جلسات آباء وأهالي المغتربين..فيقاس عمر الإين المغترب بعدد الغرف التي بناها في منزل العائلة "والتي على الأغلب لن يسكن فيها"...وحجم الدولارات التي طيّرها الإبن إلى أبائه في الأفراح قبل الأتراح...حتى أصبح الإبن المغترب يعمل ساعات إضافية ويعمل ليل نهار في محاولة غير مرضية على الأغلب لتلبية طلبات العائلة كبيرهم قبل صغيرهم على مدار العام...وتمتلئ أجندة المغترب بالمناسبات التي يجب أن يكون أول من يشارك بها بدولاراته لا بحضوره...
نبرة الحزن لا تخفى على أحد حيث بات المغترب يشعر بأن أهمية وقيمة حضوره بين أفراد عائلته وأهله ذابت أمام أهمية دولاراته وعطاياه وهداياه التي يفرضها الأهل على أبنهم المغترب لتلبية طلبات الشقيق والشقية والوالدين "غالبا ما يشار إليهم بالبركة أو الحجاج" وأولاد وبنات العمومة بل ويمتد شقى العمر وتعب الغربة ليصل سابع جار...
في هذا الصدد يؤكد "خالد" أنه أصبح يتشاءم كلما هاتفه الأهل طالبين منه سرعة الاتصال بهم على الفور وللضرورة القصوى، مما يجعل الإبن يسقط ما في يده ويترك عمله وقلبه ينبض "مارشات عسكرية" حتى يطمئن على العائلة الكريمة ليكتشف أن أحد أفراد العائلة سيحتفل بعيد ميلاد أحد أطفاله أو سيتزوج أحدهم وعليه أن يرسل "النقوط" والهدايا والعطايا على وجه السرعة...ولأن الله سبحانه وتعالى يتابع خالد أمرنا بأن لا نقول لهما أفا وأن لا ننهرهما فإنه لا يكون أمامي إلى الإسراع إلى أقرب مركز "ويسترن يونيون" لدفع نقوط هذا وهدية هذاك على حساب تعبي ووحدتي في الغربة.


نكأ جروح..!!
سرعان ما نكأنا هذا الجرح بإثارتنا هذا الموضوع بين أوساط الجالية العربية، ووجدنا أن الجرح عميق والحكايات التي يرويها أبناءنا المغتربون أطول من أن نرويها...
في مطعم عربي تفوح منه رائحة الشواء وصوت الموسيقا الشرقية تعرفنا على شاب عربي في منتصف الأربعينات أبدى تحفظه الشديد قبل أن نعطيه الأمان وقبل أن يصادق على هذا الأمان صاحب المطعم الذي يعرف الشاب باعتباره زبوناً دائماً للمطعم.
يقول (ع.ي) حضرت إلى الولايات المتحدة قبل أكثر من 20 عاما بهدف الدراسة ولكن حاجة أهلي للدعم كانت أكبر من أحلامي التي تضاءلت لأجد نفسي عاملاً في محلات مختلفة...وقد درس جميع "أخوتي وانتقلت عائلتي من سكنها في المخيم لتسكن في شقة معتبرة وفي كل عام أقول لنفسي العام القادم سأعود فلقد مللت من الغربة والوحدة فأنا غير متزوج وقبل شهرين أو أكثر أصبت بجلطة قلبية...ووجدت نفسي في غرفة المستشفى وحيداً لا أم ولا أب ولا أخوة يطلون علي وكانت الدمعة والآهة هي رفيقي الدائم..ولا أنكر أن أصدقائي من الجالية العربية لم ينقطعوا عن زيارتي وكنت كلما ربّت أحدهم على كتفي أو قبّلني أبكي كما الطفل الصغير...ما أصعب المرض في الغربة".
لم نقاطع الشاب في حديثه وكان يسترسل بكل أريحية دون انقطاع سوى بعض التنهدات أو الوقفات ليلتقط أنفاسه أو ليمسح دمعة فرّت من عينه على استحياء وخجل وقال (ع.ي) مستكملاً حديثه:" بعد انقضاء الفترة الحرجة بحمد الله شعرت بحاجتي إلى الأهل والعائلة وقمت بالاتصال بهم بعد فترة من العلاج والنقاهة وأخبرتهم أنني أصبت بوعكة صحية بسيطة وأنني نويت العودة لأكون معهم ولحاجتي لبعض من الراحة...وربما لحاجتي إلى بنت الحلال التي تملأ حياتي وكانت ردة فعل أهلي غريبة جداً...لقد فتحوا "مناحة" وتعاملوا مع موضوع عودتي إلى الوطن للاستقرار مؤقتاً مصيبة كبرى حلت على رؤوسهم...عندها فقط قررت عدم السفر وهأنذا كما ترون وحيدا بعد يوم عمل أقتل وقتي في المطاعم والمقاهي ومشاهدة التلفاز وفي الحقيقة أنا أقتل نفسي واحترق ببطء شديد".
هذه قصة واحدة بين عشرات القصص المتشابهة لشباب تاهوا على أرصفة الغربة بعد أن قال لهم أهاليهم "البحر من أمامكم والعدو من خلفكم" ليجدوا خيار الغربة والبقاء في بلاد العم سام هو الخيار الوحيد المتاح لهم والتقينا عددا كبيرا من الشباب اللذين بلغوا العقد الرابع من أعمارهم دون زواج أو استقرار وهذا مجرد نموذج من عينة اخترناها ممن التقيناهم في الأماكن والمقاهي والمحلات العربية... بينما النماذج الأخرى قد ذابت في أماكن أخرى كالنوادي الليلية وأماكن القمار وتعاطي المخدرات.


الأعياد مناسبات حزينة
للأعياد والمناسبات الدينية رونق خاص - أو هكذا ظننا في بداية الأمر حتى تبين لنا من لقاءنا ببعض الشباب أن الأعياد وخصوصاً عيدي الفطر والأضحى وعيد الميلاد المجيد "الكريسماس" تعتبر من المناسبات غير السعيدة على الإطلاق حيث يشعر المغترب الشاب بعزلته عن المجتمع لتجلده سياط الغربة وحيداً وتتركه غارقاً في دموع الحنين... وفي تلك الأعياد فقط تخلو المطاعم والمقاهي العربية من العائلات العربية لتمتلئ فقط بشباب تحكي عيونهم ما لا تحكيه شراهة الصمت..
عن الأعياد والمناسبات العامة يقول "شاكر محمود": آه كم هو حزين صباح العيد الذي نجتر فيه ذكريات الطفولة حيث نتذكر العائلة التي تجتمع قبل صلاة العيد ومن ثم نجتمع مرة أخرى ونبدأ بزيارة الأقارب...ورغم مرور 15 عام على آخر عيد قضيته مع عائلتي إلا أنني لا زلت أشم رائحة الهال والقهوة كل صباح بعد أن أتحدث مع أمي صباح العيد، وأمسك نفسي عن البكاء وأبدو متماسكاً مع أخوتي ولكنني فور إغلاق سماعة الهاتف أجهش بالبكاء كما طفل صغير".
قد يكون للعيد ملامح في حياة العرب والمسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية ولكن هذه الملامح تقتصر في معظم الحالات على العائلات العربية أما الشاب العربي فالعيد بالنسبة له مجرد مناسبة تذكره بوحدته وغربته.
السيدة (م.ج) 46 عاماً تعمل في مطعم عربي وهي أم لطفلين وانفصلت عن زوجها قبل 5 أعوام لتكمل رعاية ولديها في الولايات المتحدة تقول (م.ج): "العيد مناسبة حزينة جداً ولولا المسئولية التي أحملها برعاية طفلي وإعالة والدتي وأخوتي بعد وفاة والدي لما كنت بقيت هنا يوماً واحداً...في العيد أبكي وحيدة بين 4 جدران حيث لا يطل علينا أحد ولا أسمع كلمة "كل عام وأنتِ بخير" سوى من والدتي وأخوتي عبر الهاتف الذي أبلله بالدموع".
حتى في المناسبات الأمريكية - تتابع (م.ج.) حديثها :" نجد أنفسنا شاذين عن الآخرين فأبنائي يتطلعون إلى رفاقهم الذين يحتفلون بالكريسماس وعيد الشكر مع عائلاتهم أما أنا ورغم محاولتي إشعارهم بأن العيد مناسبة جميلة بشراء هدايا والخروج معهم للتسوق إلا أنهم يشعرون بنقص حاد وكم أتمنى أحيانا لو تنشق الأرض وتبتلعني قبل أن تخترقني نظراتهم الحزينة".


آباء وأبناء..!!
حقيقة احترت كيف أدير دفة هذا التحقيق وأنا استشعر وجع كل الذين قابلتهم...وفتشت كثيراً لعلي أجد من ألقي عليه اللوم..كل اللوم... فالمسألة التي نتناولها في تحقيقنا هذا تتعلق بعلاقة الأبناء بالآباء...وتعامل الآباء مع الأبناء المغتربين...
في المراكز والمساجد الإسلامية لا تجد - على الأغلب - صدى للعيد بعد انقضاء صلاة العيد والمراكز العربية في معظم الولايات تتجاهل المناسبات الدينية كعيدي الفطر والأضحى.. دون اكتراث للطفل العربي الذي يعترف بأعياد الكريسماس والشكر لما للعيدين من بهجة واضحة في ملامح الشارع الأمريكي والمدرسة وفي حديث الأصدقاء...أما الأعياد الإسلامية فتمر مرور الكرام.
والطريف بالأمر أن بعض المراكز العربية ترفض رعاية مهرجانات أو تنظيم رحلات بمناسبة عيدي الفطر والأضحى بحجة أنها مؤسسات غير سياسية و غير دينية في الوقت الذي تحتفل به تلك المراكز والمؤسسات العربية بكافة المناسبات الأمريكية، ولعل هذا بات واضحاً بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر حيث يعتقد البعض أن الهوية الإسلامية تجلب لصاحبها الشبهة!!.


دخان المقاهي وضباب الحكايات
المقاهي العربية في أمريكا لا تعج بدخان الحاضرين فحسب..بل ترى ضباب الحكايات الحزينة يغلف جو أي مقهى عربي يرتاده أبناء الجالية العربية لقتل الفراغ...ويتردد عدد كبير من الشباب العرب على المقاهي بشكل يومي لانتمائهم لهذه "الأسرة" التي تجتمع على طاولة الزهرة أو لعبة "الشدة/ الكوتشينة" أو تجتمع حول التلفزيون لمتابعة نشرة الأخبار.
يقول صاحب أحد المقاهي العربية: "زبائننا معروفون ويترددون بشكل يومي لدرجة أننا نقلق على أحدهم إن تغيب لأكثر من يوم ونبحث عنه، هنا في المقهى تستمع إلى أخبار الجالية وقصص المغتربين ومعاناة الشاب العربي في أمريكا وهنا تتعرف على أشخاص من كافة الجنسيات العربية والديانات والمذاهب والألوان السياسية ورغم كل الاختلافات إلا أن التنهيدة والآهة هي واحدة لا تختلف...يشعر العربي بأنه يدور في حلقة دون توقف، اليوم لا يختلف عن الأمس..وغدا لن يختلف كثيرا...وهكذا تتشابه الأيام ويموت الأمل في قلوب الشاب العربي ويتضاءل طموحه يوما بعد يوم... فهو - أي المغترب- يقع بين مطرقة حاجة الأهل إلى صموده في أمريكا ليعينهم ماليا وسندان مرارة الغربة والوحدة...وفي النهاية يرى الواحد منهم قطار العمر يمضي دون أن يتوقف في محطة واحدة ليستريح".


والحل...؟!
ما بين النعش والنعش وما بين الحوالة والمكالمة الأخيرة ثمة حكايات كثيرة تروى عن جيل موجوع من المغتربين..بعضهم ذاب في المجتمع الأمريكي وشلح عباءة عروبته على باب المطار وآخرون بين سماءين ومحيط...خليط من مشاعر الخوف والحيرة والقلق والحنين إلى الوطن والضياع في بلاد العم سام... ولا شك في أن البطالة والفقر والإفرازات السياسية لعبت دوراً كبيراً في وضع بعض العرب الأمريكيين في قالب لا يحسدون عليه...
الأهل في الوطن يبالغون بـ "عشمهم" بابنهم المغترب...والابن المغترب يبالغ بتذمره من مطالبات أهله واعتمادهم المطلق عليه... ولا تنطبق معادلة "الضحية والجلاد" على هذا المشهد...ولكن لو تتبعنا الخيط لوصلنا إلى أصحاب القرار في الحكومات العربية التي لا تراعي الظروف المعيشية لمواطنيها مما يضطرهم للسفر والهجرة..ولأوصلنا ذات الخيط أيضا إلى تزاوج بين ثقافتين تلفظ إحداهما الأخرى..وهي ثقافة المغترب الموروثة والثقافة المكتسبة من المجتمع الجديد الذي يحمل قيما اجتماعية وعادات مختلفة تماماً عن تلك في وطنه...
[email protected] نضال زايد صحفي أردني مقيم في تكساس