حاوره الدكتور أسامة مهدي
&
&يتحدث الشاعر والدبلوماسي العراقي ارشد توفيق عن رحلته الادبية والسياسية والحزبية والدبلوماسية التي بدأت في خمسينات القرن الماضي عاش خلالها تجارب غنية عبر سنوات شكلت ملامح الادب العراقي الحديث ومعها السلطة والحزب والدولة والتي اوصلت اوضاع العراق الى ماهي عليه الان.&وفيما يلي الحلقة الثانية من لقائنا مع ارشد توفيق:
مع كاسترو
&
كيف كانت ظروف انتمائك الى حزب البعث وما هي الدوافع التي جعلتك تتجه الى هذا الحزب دون غيره ؟
&في جيلي كنا ننتمي الى الاحزاب السياسية ونحن في سن المراهقة.. ليس هناك اختيار عقائدي بما تعنيه هذه الكلمة.. فأنت لاتطلع على ايديولوجيات متعددة ثم تختار احداها.. ثم انك غير قادر اصلا في تلك السن على الفهم السياسي والتمييز بين حركة واخرى..
في حي ما.. او في مدرسة ما يصبح اصدقاؤك في حزب معين وتجد نفسك بينهم ثم تصبح مع الزمن احدهم.. هذا ليس تنكرا للواقع او انسحابا من تاريخ شخصي بل هو الواقع بعينه وهو يشمل اغلب الذين انتموا لحركات سياسية في سن مبكرة... وتمر سنوات عديدة ويصبح هذا الانتماء واقعا.
&
لماذا اتجهت الى الاعلام في مطلع السبعينات دون المجالات الاخرى ؟ وهل كنت مقتنعا بالاعلام البعثي ام كنت تسعى الى انفتاحه ومحاولة تعديل مساراته ؟
انا لم اختر الاعلام وانما نقلت اليها.. فاهتماماتي ثقافية وليست اعلامية وشهادتي في الحقوق وليس الاعلام. وكان عملي في الاعلام في زمن الرئيس الراحل احمد حسن البكر ولم يكن انذاك حادا او مباشرا بالطريقة التي اصبح عليها في عهد صدام حسين.
كنت اطرح على وزير الاعلام لطيف نصيف جاسم عام 1986 ان مهرجان المربد على سبيل المثال اصبح ظاهرة او فعالية اعلامية محضة وهو يضعف المهرجان ويجعله بائسا.. وكنت اقول له لو ان هذا المهرجان حافظ على نهجه الاول واختصاصه لكانت النتيجة الاعلاميه له افضل.. غير انه لم يكن بالمستوى الذي يجعله يدرك اهمية ذلك.
اريد ان اقول ان نظرتي للاعلام كانت تختلف ولكن قيادته كانت امية.. ومن اقسى التجارب انك تتلقى التعليمات من شخص لايفقه شيئا.
&
بعد ان اعلنت معارضتك للنظام العراقي السابق عقب غزوه الكويت اعتقد كثيرون انك ستكتب كتبا عدة عن الحياة في ظل الدكتاتورية.. لكنك لم تكتب غير.. نصف السماء.. لماذا ؟
نصف السماء فيها نقد عنيف للنظام ورئيسه وفيها تسجيل لمعاناة الاكراد لمن يقرؤها بعناية. صحيح ان كثيرين توقفوا او ارادوا مني ان اكتب كراسات اعلامية صرفة زخرت بها السوق بعد حرب الخليج وكانت سلعة تجارية لم يبق منها شيء الان. في الصحافة كتبت مقالات عن النظام لكن المقال السياسي شيء والادب شيء اخر.
&
عملت اكثر من عقدين في المؤسسات الثقافية العراقية بعد 17 تموز (يوليو) 1968 فكنت رئيسا لتحرير هذه المجلة وتلك ومديرا للدائرة الثقافية.. هل تعتقد ان عملك كان دعائيا للنظام اكثر منه افادة للثقافة العراقية.. ولماذا ؟
تحديدا عملت رئيسا لتحرير مجلة المثقف العربي واعدادها موجودة وهي ليست دعائية بل فكرية.. كما عملت رئيسا لتحرير الطليعة الادبية واعدادها موجودة ايضا وهي مجلة ثقافية تعنى بادب الشباب لاغير.. وكنت رئيس تحرير مجلة فنون اذاعية وهي مهنية صرفة.
اما عملي كسكرتير تحرير في مجلة الاديب المعاصر فالادباء جميعا يعرفون مستوى تلك المجلة واختصاصها.
&
يتردد بين الاوساط الثقافية العراقية والعربية بان طارق عزيز نائب رئيس الوزراء السابق كان يطلب منك منح مكافات مجزية لعدد من المثقفين العرب المعروفين ومن بينهم الشاعر الفلسطيني محمود درويش.. فمن هؤلاء؟ وما هي العطايا التي قدمت لهم ولماذا؟ وهل كان شراء النظام السابق ذمم المثقفين العرب والاجانب لكي يكيلوا له المديح ام لكي يسكتوا عن ممارساته في افضل الاحوال؟

لماذا يكون الصحفيون والادباء هم الهدف الاسهل علما بان جريرتهم اقل من جريرة اخرين ؟ الانهم الاضعف في هذه الحلقة ؟ والافقر والاقل حذرا؟ اذا كان لنا ان نشير الى مكفأت مثل هذه فالاجدر بنا ان نشير الى ملايين صرفت دون حق ليس لخدمة العراق وانما لتجميل صورة "الرئيس الرمز" ليس الا.
زعماء احزاب في العالم كله وليس في الوطن العربي وحده استلموا الملايين.. ورؤساء حكومات استلموا مبالغ طائلة.. ومرشحو انتخابات عامة مولوا حملاتهم الانتخابية من مال الشعب العراقي.. حركات سياسية في امريكا اللاتينية وافريقيا وجنوب غرب اسيا واوربا كانوا بستلمون بانتظام عطايا شهرية.
وفي المكسيك، على سبيل المثال، كانت القيادة القومية ترسل شهريا مبلغا كبيرا الى احدى المجلات.. واثناء عملي سفيرا في المكسيك فوجئت ان هذه المجلة لاتصدر اصلا وان سيدة تستلم هذه الاموال فقط لانها كانت على علاقة مع احد المسؤولين الكبار في القيادة القومية لحزب البعث وقد استطعت بشق الانفس قطع هذه " الشهرية ".
وهناك صحفيون في اوربا يستلمون رواتب شهرية دون القيام باي عمل ويكونون غالبا من يعمل في الصفحات الدولية. اما الثمن: فان هؤلاء لن يكتبوا اية مقالة تمس النظام في العراق.. كما انهم لن يسمحوا بنشر مقالة " غير ايجابية ".. ويعتبر هذا كسبا لاعلام النظام.
اكتشف الصحفيون بفراستهم المهنية ان هذا النظام مولع بنرجسيته فاسس الكثير منهم مجلات تاخذ تمويلها وارباحها من النظام.. وهذا ما جعل النظام يحارب بجيش من المرتزقة سرعان ما انقلبوا عليه بعد غزو الكويت. وهذه الطريقة لازالت سائدة في الاعلام الحالي داخل العراق واخشى ان تتحول الى قاعدة لايخجل منها احد.
اعتقد بهذه المناسبة اننا حين نشخص عيوب النظام يجب ان نبتعد عنها ةنحرم تكرارها لا ان نغض النظر عن ظواهر لاتقل عنها سوءا ونتجنب نقدها لاتعود الى نظام صدام حسين.
اقول ان ادباء عرب استلموا مكافآت من السلطة العراقية السابقة.. نعم وهناك ادباء عراقيون وصحفيون استلموا اكثر.. وهنا يجب التمييز بين المكافأة الادبية الصرفة التي يستحقها الكاتب كما يستحق الطبيب او المحامي اجور اتعابه.. وهناك مكافأت من نوع اخر.. هذا النوع يجب ان يدان ويفضح من اجل عدم تكراره.
اما هل قمت انا شخصيا بايصال عطايا ؟ نعم.. استلم ادباء مرموقون عراقيون وعرب ظروفا ملاى بالدولارات.. واستلم مني اثناء عملي سفيرا قادة لاحزاب ورؤساء وزارات مبالغ طائلة حتى ان احدهم استلم الدولارات ولم يرجع لي حقيبتي ايضا. وفي حفلات الاستقبال الرسمية كنت التقي بهؤلاء.. وكنت اخجل من النظر في وجوههم.. الا انهم لم يخجلوا قط من ذلك.. وكنت اتساءل دائما لماذا تدفع هذه الاموال... ؟
ارى ان احدى خطايا النظام السابق انه كان يتصور نفسه قوة عظمى.. لذلك تمتد عطاياه من الارجنتين حتى السلفادور ومن افريقيا حتى جنوب غرب اسيا. وعلى اي حال كان محرما ابداء الراي في العطايا والمساعدات السياسية وعليك فقط تنفيذ الاوامر..
في عام 1979 حدث اعصار في جزر الكاريبي وقام صدام حسين شخصيا بتوزيع المساعدات واحداها وصلت الى الدونيكان مع ان الاعصار بجزيرة دومينيكا.. وعندما ارادت السفارة تصحيح ذلك جاء الجواب بانه قرار رئاسي ولا يمكن مناقشة ذلك.. واظن ان خطأ مطبعيا حصل في اسم بلد المساعدة ولكن المشكلة ان احدا لايترف بالاخطاء حتى لو كانت مطبعية.
&
عملت مع محمد سعيد الصحاف في الميدان الاذاعي والتلفزي ايام كان مديرا للاذاعة والتلفزيون.. ماهي الانطباعات التي خرجت بها من العمل معه وهل كان، برايك، يصلح لقيادة الاعلام في الفترة التي سبقت سقوط النظام ؟
عندما عينت مديرا لاذاعة بغداد عام 1974 كان لطيف نصيف جاسم مديرا عاما للمؤسسة العامة للاذاعة والتلفزيون وكان محمد سعيد الصحاف قد نقل من هذه المؤسسة انذاك.
اما في عهد الصحاف فكانت لدي مساهمات ثقافية في الاذاعة.. وعلاقتي الشخصية بالصحاف او لطيف نصيف ليست طيبة واعتبر الاثنين كذبة ليس الا.
اما عن قيادة الاعلام قبل سقوط النظام فانني ارى ان العيب الاول هو في النظام وان الصحاف شخص مذعور عليه تنفيذ التعليمات وعندما كان يتحدث في التلفزيون فانه يفترض ان صدام حسين يتابع كلماته ولذلك اصبح مهزلة.
&
في ظل الالتباس السياسي وتعدد التيارات ماهو تقييمك لدور الاعلام العراقي الحالي وكيف تتوقع دوره في المستقبل؟
تعريفي للاعلام العراقي يختلف عما هو قائم حاليا.. انا ارى انه لايوجد اعلام عراقي يالمعنى الدقيق للكلمة.. صحف كثيرة لاتعرف او تعرف من يمولها وزحام شديد دون لون او طعم او رائحة.. الاعلام العراقي غير المأجور لم يولد بعد وهو في مخاضه العسير.
&
عملت في فترة مبكرة عقب 17 تموز 1968 في المنطقة الكردية مسؤولا حزبيا وسياسيا.. كيف تقيم تجربتك في الوسط الكردي؟
ان تجربتي في الوسط الكردي خاصة جدا فانا لست غريبا على المنطقة بل انا ابنها.. فانا من مواليد دهوك وقد اكملت الابتدائية والمتوسطة والثانوية فيها واعرفها قبل ان تتوسع بيتا بيتا واعرف ينابيعها واحدا واحدا.. واعرف جبالها صخرة صخرة..انها المدينة الاولى لي رغم اننا ننحدر من عائلة عربية.
كنت اتكلم الكردية بطلاقة الا انني ضعفت فيها بعد انقطاعي زمنا طويلا عنها.
بعد سقوط النظام زرت ثلاث مدن في سفرتي الاخيرة للعراق هي بغداد والموصل ودهوك.. وفي زاويته كنت ضيفا على قائد سابق للمنطقة عمل مع المرحوم الملا مصطفى البارزاني.
لحسن الحظ عملت مسؤولا لحزب البعث في محافظة دهوك حين كان الاعداد يجري لبيان الحادي عشر من اذار عام 1970 واحتفلنا بالبيان مع السيدين علي خليل وعيسى السينجاري النائبين العسكريين للملا مصطفى. وربما كان من غير المتوقع لدى البعض ان يعرف ان علاقة حميمة تربطني مع اهل دهوك وعشائرها ومنتسبي الحزب الديمقراطي خاصة.. وساروي حكاية ابطالها احياء موجودون في دهوك:
كان الصديق عبد الرزاق كرمافي نائب قائد المنطقة لقوات الاكراد التي تحارب الحكومة المركزية في بغداد في تلك الفترة وكان عمه على فراش الموت في دهوك.. فبعث لي رسولا الى داري ليطلب مني ان اذهب الى قرية شندوخة جنوبي دهوك واجلبه معي اليها لرؤية عمه. ذهبت وحدي في سيارة الى المنطقة وكان السيد عبد الرزاق محاطا بخمسين رجلا تقريبا من البيشمركة المسلحة فترجلت للسلام عليه وركبنا السيارة معا الى بيت عمه.. ثم اعدته الى منطقته نفسها.
لك ان تتخيل الصورة المسؤول الحزبي بمحافظة يذهب الى جبل شندوخة ليأتي بنائب قائد المنطقة الذي كان يعادي الحزب والسلطة التي يمثلها هذا الحزبي " انا " ثم يعيده اليها.. اعتقد ان ثقافة المرء وحسه الانساني يسبقان السياسة ويسموان عليها.. وهناك وقائع كثيرة لا اريد الخوض فيها فقد لاتصدق.
بعد بيان الحادي عشر من اذار حظيت بفرصة تاريخية: فقد كنت مبعوثا من لجنة السلام انذاك الى المرحوم الملا مصطفى البارزاني حيث وصلت قرب كلالة مقر الزعيم الكردي الراحل وكان المرحوم ادريس البارزاني نجله في استقبالي فاخذني في سيارته في طريق جبلي يمين الشارع حتى وصلنا قرية صغيرة تحيطها الجبال من كل جانب ثم دخلنا بيت المرحوم الملا مصطفى او دار ضيافته.
كان المبنى يتكون من غرفتين: الاولى على اليمين مخصصة للنوم والى اليسار غرفة للجلوس فيها اثاث متواضع ومنضدة حديدية جلس وراءها ذلك القائد. تحدثنا في السياسة والصوفية والدين بلغة عربية سليمة وكان متواضعا الى حد كبير فهو يرفض ان تسميه الا باسمه.. كان ذكيا حاضر البديهة.. عندما دخل عليه احد الاشخاص وتحدث باللغة الكردية سالني بعد خروجه: انت تفهم اللغة الكردية ؟ قلت له نعم.. وعجبت كيف انتبه الى ذلك.
كتبت عن ذلك القائد الفذ في جريدة الرسالة التي تصدر في مدينة الموصل عام 1970 صفحة كاملة وهي محفوظة في المكتبة العامة ويمكن الرجوع اليها.. ولا زلت احتفظ بغليون خشبي صنعه تلك الليلة المرحوم البارزاني لي شخصيا.
&
هل نجحتم في استقطاب وكسب عناصر كردية الى الحزب وهل قبلوا عن قناعة ام لاعتبارات شخصية وانتفاعية؟ ومن هي اهم الشخصيات المعروفة التي انخرطت في صفوف البعث؟
لم يكن النظام في ذلك الوقت عام 1969 وهو يعد لاتفاق اذار للسلام مهتما بموضوع تبعيث المنطقة الكردية وانما حصل ذلك بعد ان تولى صدام حسين السلطة عام 1979 فوضع كل ثقله من اجل ضم الاكراد الى حزب البعث فكان حريصا ان يجعل منهم بعثيين اكثر من حرصه على ان يبقيهم عراقيين.