&
باريس: هاشم صالح
موقف أركون من الاستشراق يختلف نوعيا عن موقف كبار المثقفين العرب الذين أشعلوا المعارك ضده من أنور عبد الملك وهشام جعيط وأدوار سعيد وآخرين عديدين. صحيح أنه يتفق معهم على أن الاستشراق (في بداياته خصوصا) خدم التغلغل الاستعماري في المنطقة عن طريق الاستكشاف المعرفي لعقلية الشعوب الإسلامية ثم تقديم هذه المعلومات المتجمعة إلى الإدارة السياسة لكي تستفيد منها وتعرف كيف توجه حملاتها أو كيف تعامل مع هذه الشعوب التي ستستعمرها.
ولكن الاستشراق لم يكن فقط هذا الشيء كما يزعم الايديولوجيون العرب. فالاستشراق الألماني مثلا، وهذا من الأهمية بمكان، لم يساهم إطلاقا في هذه العملية لسبب بسيط
هو أنه لم تكن لألمانيا مستعمرات. وذلك على عكس القوى العظمى الأخرى كفرنسا وانكلترا وهولندا. هذا من ناحية، وأما من ناحية أخرى فينبغي أن نفرق بين الاستشراق بالمعنى الأكاديمي العالي المستوى وبين الاستشراق الصحفي السريع أو المسيّس أكثر من اللزوم. وإذا لم نقم بهذا التمييز فإننا نظلم الحقيقة والعلم، بل ونظلم أنفسنا بالدرجة الأولى.
يقول محمد أركون بما معناه: لا ريب بأن الاستشراق ملأ فراغا كبيرا فيما يخص دراسة الإسلام. فقد طبق المنهجية الفيلولوجية (أي اللغوية) والتاريخية على موضوعات كانت محرمة على البحث من قبل ارثوذوكسية صارمة وجامدة. فالمستشرق الألماني ندلدكه هو الذي طبق المنهجية التاريخية لأول مرة على الصحف. وأما غولدزيهر فقد طبق نفس المنهجية على كتب الحديث النبوي. وقل الأمر نفسه عن المستشرق جوزيف شاخت الذي درس الشروط ( أو الظروف) الاجتماعية والسياسية التي أحاطت ببلورة الشريعة أو الفقه.

الوعي الإيماني لا يتحمل نتائج المنهجية التاريخية التي تمزق الصورة المثالية الراسخة في أذهان المؤمنين
وهكذا قدموا صورة تاريخية - أي واقعية حقيقية- عن موضوعات مقدسة جدا ولا يجرؤ أحد الاقتراب منها. ولهذا السبب أثارت أفعالهم ردود فعل هائجة في أوساط المسلمين المحافظين الذين اعتبروا هذه الدراسات بمثابة هجوم على الإسلام، أو محاولة لتدميره الخ. والواقع أن رد فعلهم لا يختلف في شيء عن رد فعل المسيحيين التقليديين في أوروبا نفسها. فهم أيضا احتجوا بعنف على أول محاولة قام بها المؤرخون والعلماء لدراسة الانجيل والتراث المسيحي بشكل علمي وتاريخي. وبالتالي فإن المستشرقين لم يفعلوا إلا أن طبقوا على التراث الإسلامي نفس المنهجية التي كانت قد طبقت على التراث المسيحي.
ولكن "الوعي الإيماني" في كلتا الجهتين لا يستطيع أن يتحمل نتائج المنهجية التاريخية التي تمزق الصورة المثالية العذبة الراسخة في أذهان المؤمنين عن التراث منذ مئات السنين. وهذا ما نقصده بالعملية الجراحية الخطيرة وبالنزيف الداخلي الحاد الذي سيحصل حتما عندما نطبق المنهج التاريخي على دراسة التراث الديني الإسلامي. فالمسيحيون في أوروبا لم يستطيعوا استيعاب هذه العملية إلا بعد معارك طاحنة وألم مرير وصراع هائل ضد الذات. وقد استغرقت منهم عملية الاستيعاب هذه مدة طويلة (منذ مرحلة سبينوزا والتنوير وحتى أوائل القرن العشرين، أي مدة قرنين ونصف) ثم تابع الجيل الثاني من المستشرقين على خطى أسلافهم نفس العملية الاستكشافية للتراث الإسلامي.
فقدم المستشرقون الثلاثة، برونشفيغ وشحاته وجينبول أبحاثا مهمة عن كيفية التشكل التاريخي للحديث النبوي. وأكدوا على صحة بعض النتائج التي كان المستشرقون الأوائل قد لمحوها أو توصلوا إليها. وأما فيما يخص سيرة النبي وتقديم صورة تاريخية عنها، فقد ظهرت عدة كتب في اللغات الاستشراقية الأساسية: كالإنكليزية والفرنسية وسواهما. ولكنها بالغت في نزعتها الوضعية أو العلموية على حد تعبير محمد أركون.

كتاب بلاشير "مشكلة محمد"
صحيح أنها حاولت تقديم صورة تاريخية لأول مرة عن شخصية محمد، ولكنها وقعت في التطرف المقابل للتطرف الذي وقع فيه المسلمون. بمعنى أنه بقدر ما كان المسلمون يقدمون صورة تبجيلية - أو لا تاريخية عن النبي - بقدر ما كان المستشرقون يقدمون صورة مغرقة في التاريخية والوضعية. ينبغي أن نذكر هنا كتاب بلاشير "مشكلة محمد" حيث كشف عن الاتجاهات التبجيلية الواردة في سيرة ابن اسحاق وابن هشام. وهذا شئ مفيد بدون شك ولكنه ليس كافيا من الناحية المنهجية. كما وينبغي أن نذكر ذلك الكتاب الشهير الذي مُنع في القاهرة مؤخرا وأثار ضجة بين العلمانيين والأصوليين. وأقصد به كتاب " محمد" لمكسيم رودنسون.
ولكن المؤلف بالغ في التحدث عن "النبي المسلح" وفي إثارة مشاكله النفسية والأزمات التي كان يتعرض لها.
وفي مواجهة هذه الشطحات أو المبالغات نجد مستشرقين آخرين يقدمون صورة عن النبي أكثر امتثالية أو أكثر وصفية وحيادية. وهم يفضلون التوقف طويلا عند تطوير الظروف الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة في مكة وشبه الجزيرة العربية أثناء ظهور النبي. نذكر من بينهم المستشرق الإنجليزي المشهور مونتغمري واط وكتابيه المعروفين: "محمد في مكة"، و"محمد في المدينة".

اهمال الأبعاد الروحية العالية التي تميز بها نبي الاسلام
وعموما فإن المستشرقين المغالين في المنهجية الوضعية كانوا يحاولون تقديم صورة عن محمد مضادة تماما للصورة المقدمة عن يسوع المسيح. فإذا كان المسيح يمتاز بالعفة والابتعاد عن الشهوات الجنسية، فإن نبي الإسلام كان شهوانيا يحب النساء ويكثر من عدد الزوجات. وإذا كان المسيح مسالما، بل ويقول "من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر" ، فإن محمد كان محاربا يخوض المعارك والغزوات. وإذا كان المسيح روحانيا يدير ظهره للحياة الدنيا ويقوا مملكتي ليست من هذا العالم، فإن النبي كان سياسيا من الطراز الأول. وهكذا يقدمون صورة اختزالية تهمل الأبعاد الروحية العالية التي كان يتميز بها نبي الإسلام.
مهما يكن الأمر فإن صورة النبي أو سيرته ينبغي أن تعاد من جديد بحسب رأي محمد أركون. وأعتقد أنه يحلم منذ زمن طويل بالقيام بهذا العمل، لكن لا أعرف فيما إذا الوقت سيسمح له بذلك. وهو يدعو إلى تطبيق أحدث منهجية في علم التاريخ على شخصية النبي وفترته وبيئته من أجل تقديم صورة متوازنة عن حياته. وهذه المنهجية تدعى بعلم النفس التاريخي. وهي تهتم بدراسة منشأ المخيال الديني ووظائف هذا المخيال في فترة ما وبيئة ما. وهنا يكمن الفرق الأساسي بين منهجية محمد أركون ومنهجية معظم المستشرقين. فصراعه معهم منهجي في الواقع، أو معرفي ابستمولوجي، على عكس صراع المثقفين العرب الآخرين معهم والذي هو ايديولوجي وسياسي بالدرجة الأولى.
فمحمد أركون يعيب على المستشرقين توقفهم عند المنهجية الفيلولوجية-التاريخية التي تعود إلى القرن التاسع عشر. ويقول لهم بأنها لم تعد كافية على الرغم من أهميتها وإنما ينبغي أن نضيف إليها منهجيات العلوم الإنسانية أو الاجتماعية: كعلم الألسنيات وعلم الانثروبولوجيا وعلم الأديان المقارن، وعلم النفس وعلم الاجتماع الخ. بمعنى آخر فإننا لا نستطيع أن نقدم صورة متكاملة وصحيحة عن التراث الإسلامي أو المجتمعات الإسلامية، إذا ما اكتفينا بالمنهجية التقليدية للإستشراق.

ثورة في الدراسات العربية - الاسلامية
وهكذا يحدث أركون ثورة في الدراسات العربية-الإسلامية تشبه تلك الثورة التي أحدثها كبار مفكري فرنسا في مجالاتهم الخاصة. نذكر من بينهم جان بيير فيرنان ودراسته للفكر الإغريقي، أو المؤرخ الكبير لوسيان فيفر ودراسته للتراث المسيحي، أو الفيلسوف ميشيل فوكر، أو عالم الاجتماع بيير بورديو الخ. لكن هذا التجديد المنهجي الكبير لا يمنع أركون من الاعتراف بفضائل المستشرقين الكبار والخدمات الجلّى التي قدموها للتراث الإسلامي. وهذا يعيب على المسلمين رفضهم الكامل للإستشراق الأكاديمي حتى قبل أن يطلعوا على أبحاثه ويتفحصوها.

ضرورة التعاون العلمي الخصب بين بحاثة المسلمين وبحاثة المستشرقين
"أود أن أشير إلى التأخر الكبير الذي يعاني منه المسلمون في دراستهم لتراثهم وماضيهم بالقياس إلى الأبحاث العلمية الاستشراقية المتركزة على هذا الماضي بالذات. بل وهناك ما هو أسوأ من ذلك. هناك قطاع واسع من الرأي العام الإسلامي المحافظ، بل والظلامي الذي يرفض تطبيق المناهج التاريخية الحديثة على التراث. ولا يزال يدين عدائية الاستشراق ومؤامرته التخريبية ضد الإسلام! أقول ذلك في حين أن الأبحاث الاستشراقية الجادة ينبغي أن تترجم فورا إلى اللغات الإسلامية الأساسية: كالعربية والفارسية والتركية والأوردو والإندونيسية.. ينبغي أن تترجم لكي يحصل تعاون أو تفاعل علمي خصب بين بحاثة المسلمين وبحاثة المستشرقين فيما يخص موضوعات مهمة كتاريخ الحضارات والثقافات أو كالأنثروبولوجيا المقارنة بين الحضارات والثقافات".
ثم يردف البروفيسور أركون قائلا: "عندما نلقي نظرة سريعة على قائمة المراجع المرفقة بكل بحث من البحوث الاستشراقية الجادة، نفاجأ بغياب أي مرجع عربي أو إسلامي عنها وذلك ما عدا إستثناءات قليلة. ولا يعود ذلك إلى جهل المستشرقين بأبحاث المثقفين المسلمين أو العرب ولا إلى تعجرفهم وتعاليهم عليهم كما يتوهم البعض وإنما على ندرة البحوث العلمية في الجهة العربية والإسلامية بكل بساطة".
نستنتج من كلام أركون أننا نرفض دراسة تراثنا دراسة علمية-تاريخية، ونريد في ذات الوقت أن نمنع الآخرين من القيام بذلك! ولذا نصب جام غضبنا على الاستشراق ونقضي كل الوقت في لعنه وشتمه، بدلا من أن ننتج البحوث العلمية الجادة عن التراث الإسلامي كما يفعل هو. لكي نقدم فكرة سريعة عن الخدمات الجلىّّ التي يقدمها الاستشراق للتراث العربي-الإسلامي يكفي أن نذكر الموسوعة الإسلامية في طبعتها الثانية والتي تشكل كنزا لا ينفد من المعلومات التاريخية المدققة والمحققة عن كافة جوانب التراث وشخصياته وأحداثه. ويكفي أن نذكر "الموسوعة القرآنية" التي يجري تحضيرها الآن في هولندا والتي يساهم فيها عشرات الباحثين من مستشرقين ومسلمين (أركون هو أحد المستشارين الكبار المشرفين عليها) وسوف تتعرض كل كلمة من كلمات القرآن إلى دراسة لغوية وتاريخية معمقة تربطها بيئتها الأصلية في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي، أو تربطها باللغات السامية الأخرى المشابهة للعربية.
وسوف تنتج عن هذا العمل إضاءة لم يسبق لها مثيل للنص القرآني. عندئذ سوف نفهمه على حقيقته، وبكل أبعاده. ويكفي أن نذكر ذلك المشروع الفكري الكبير الذي أنجزه مؤخرا كبير المستشرقين الألمان جوزيف فان ايس. وقد نشر في برلين بين عامي 1991-1995 في ستة أجزاء ويحمل العنوان التالي: " اللاهوت والمجتمع في القرنين الثاني والثالث للهجرة. تاريخ الفكر الديني في بدايات الإسلام" ويعتبر أركون هذا الكتاب فتحا في مجال الدراسات الإسلامية. ولا يمكننا أن نفهم كيف تشكلت العقائد والفرق الإسلامية إلا إذا استشرناه أو عدنا إليه. إنه بحث اركيولوجي - تاريخي يحفر في عمق أعماق التراث الإسلامي. وبالتالي فهو يحررنا من الكثير من التصورات الخاطئة التي نمتلكها عن تراثنا وعقائدنا ومذاهبنا لأنه يقدم لنا، ولأول مرة، صورة تاريخية عنها. وهي غير الصورة التبجيلية أو التقديسية التي تهيمن على وعي ملايين المسلمين منذ مئات السنين.
ثم يتساءل اركون بنوع من الغضب الممتزج بالحزن والأسى: لماذا لم يترجم هذا الكتاب حتى الآن إلى اللغة العربية؟ ما هي الأسباب السياسة والثقافية أو ربما المالية التي لا تزال تعرقل ترجمته؟ ولمصلحة من يتم ذلك؟ لقد أصبح هذا الكتاب ضروريا لكل من يريد أن يواصل البحث ويوسعه حول تلك الفترة الأساسية، بل والحاسمة من تاريخ الإسلام قصدت فترة القرون الهجرية الثلاثة الأولى، فلو كانت المعلومات والتحليلات التي يتضمنها هذا الكتاب الضخم معروفة بالنسبة للجمهور الإسلامي والعربي لاختلف الأمر كليا، ولما كانت حركات التزّمُت والجهل تسيطر علينا كما هو حاصل الآن.

الاستشراق ساهم في أرخنة الفكر الاسلامي
ويضيف اركون قائلا في مكان آخر: إن الاستشراق بشكل عام ساهم في أرخنة الفكر الإسلامي بعد أن كان مغموسا بالمسلمات اللاهوتية التي تغطي على تاريخيته وتجعله يبدو وكأنه فوق التاريخ، أو يتعالى على التاريخ. وهنا تكمن الميزة التحريرية الكبرى للبحوث التاريخية الإستشراقية (أفتح قوسا هنا وأقول بأنني كنت أنا شخصا قد اخترعت هذا المصطلح الجديد: الأرخنة كمقابل للمصطلح الأجنبي (historicisation). وهو مصطلح مهم جدا ومدعو للانتشار السريع لأنه يلبي حاجة ملحة بالنسبة للثقافة العربية. فنحن دخلنا الآن مرحلة الأرخنة: أي مرحلة التحرر من الصورة التقليدية وأكاد أقول اللاتاريخية للتراث، والانتقال إلى المرحلة التاريخية. وهي عملية لها أول وليس لها آخر. وربما استغرقت القرن الواحد والعشرين كله وحتى منتصفه على الأقل. وسوف ترافقها أكبر عملية تحرير شهدها الوعي الإسلامي في تاريخه كله. وهذا ما ندعوه بالتنوير. لذلك نقول أرخنة على سبيل المصدر (أو أرخن، يؤرخن على سبيل الفعل)
وبخصوص الأرخنة ينبغي ألا ننسى الإشارة إلى مرجع مهم جدا أيضا وكان قد صور قبل ثلاث سنوات في باريس تحت عنوان:"رب القبائل. إسلام محمد" وهو من تأليف الباحثة الفرنسية جاكلين شابي التي قدمته في الأصل كأطروحة دكتوراه. والكتاب يعتبر محاولة راديكالية لأرخنة الخطاب القرآني. من هنا أهميته وخطورته. ولا أعتقد أن ترجمته إلى اللغة العربية ممكنة حاليا لأن الوعي الإسلامي غير مهيأ لاستقباله أو تقبله. مهما يكن من أمر فإن أبحاث الألماني فان ايس والفرنسية جاكلين شابي وسواهما من المستشرقين الأكاديميين قدمت لنا درسا بليغا في إسباغ الصبغة التاريخية على الفترة التأسيسية الأولى للفكر الإسلامي نقول ذلك ونحن نعلم أن مؤرخي العصر العباسي كانوا قد نزعوا كل صبغة تاريخية عن هذه الفترة بالذات، وجعلوها تبدو متعالية أو مقدسة كليا.
هكذا نجد أن عملية الأرخنة لن تكون سهلة ولا ميسورة وإنما سوف تصطدم بعقبات نفسانية متجذرة في أعماق الوعي الإسلامي. والمعركة مفتوحة ... إنها معركة القرن الواحد والعشرين.