عن دار "الساقي" اللندنية صدرت رواية جديدة للكاتب السعودي تركي الحمد بعنوان "جروح الذاكرة"، وكان الحمد قد نشر في السابق& اربع روايات&هي "العدامة" و"الكراديب" "الشميسي" "شرق الوادي"، بالاضافة الى كتب اخرى تتعلق بالفكر والسياسة والفلسفة& مثل "الثقافة العربية في عصر العولمة" و"الثقافة العربية أمام تحديات التغيير" و"السياسة بين الحلال& والحرام"& وجميع هذه الكتب صدرت عن دار "الساقي".
وقسم تركي الحمد "جروح الذاكرة" الى أربعة أجزاء و25 فصلا، جاءت عناوينها بالشكل التالي:
الكتاب الأول: أطياف الماضي: المخاض، جمرات تحت الرماد، عبق العود، دخان القماقم، وتناثر العمر من بين الأصابع،& ونكهة الحنظل.
الكتاب الثاني: نبع الحميم: الهاوية، المتاهة، تبليس إبليس، الروح والحلقوم، الدوامة، الشيطان يرقص.
الكتاب الثالث: بحر الظلمات: السقوط، الديجور، الغسق، ثقوب في خمار أسود، الأقنعة الممزقة، تابو، نسمات السحر.
الثكتاب الرابع: أرواح هائمة: الهجير، نار ورمضاء، النفير، الزمن الضائع، عودة سيزيف، زهور الخريف. ننشر هنا الفصل الأول "المخاض".
وقسم تركي الحمد "جروح الذاكرة" الى أربعة أجزاء و25 فصلا، جاءت عناوينها بالشكل التالي:
الكتاب الأول: أطياف الماضي: المخاض، جمرات تحت الرماد، عبق العود، دخان القماقم، وتناثر العمر من بين الأصابع،& ونكهة الحنظل.
الكتاب الثاني: نبع الحميم: الهاوية، المتاهة، تبليس إبليس، الروح والحلقوم، الدوامة، الشيطان يرقص.
الكتاب الثالث: بحر الظلمات: السقوط، الديجور، الغسق، ثقوب في خمار أسود، الأقنعة الممزقة، تابو، نسمات السحر.
الثكتاب الرابع: أرواح هائمة: الهجير، نار ورمضاء، النفير، الزمن الضائع، عودة سيزيف، زهور الخريف. ننشر هنا الفصل الأول "المخاض".
&
******&
وأخيرا خرج الحرف الأول، وكأنه رأس وليد طال انتظاره في ولادة متعسرة، أو تلك الشرارة الأولى المجهولة في انفجار عظيم وبداية كون جديد ووجود لم يكن قبله إلا سر الوجود ذاته. ثم بدأ صراخ الحياة يمزق الصمت الذي طال، وأخذت بقية جسد الوليد في الانزلاق السر
يع، والكلمات تتزاحم عند بوابة رأسها تحاول الخروج، كما تزاحم السجناء عند بوابة سجن انهارت فجأة. ثم راحت الحروف في ذهنها تتشكل سريعا لتصبح كلمات، والكلمات تتجمع على الورق لتتحول إلى جمل مفيدة، وأصابعها تضغط على القلم بقسوة تريد منه أن يكون أسرع وأسرع، ولكن القلم كان عاجزا عن مجاراة تفكيرها الملتهب، فتتكسر الأقلام واحدا تلو الآخر، وتزاحم ما في داخلها لا يريد أن يهدأ، فتبقى البوابة مشغولة على الدوام ،وتبقى الأوراق عاجزة عن الاستيعاب.ويتجسد كل ذلك كيانا ملتهبا على ورق يحترق أمامها، ويصرخ طالبا الرحمة، ولكنها لا ترحم، وقلبها لا يلين، كما سجين وسجان في بلد منسي من بلاد الشرق البعيد. وتتكوم أمامها صفحات تلو صفحات من أوراق اختلط بياضها بزرقة المداد، فغدت وكأنها زرقاء يخالطها بياض، أو بيضاء تخالطها زرقة، وحروف مشوشة تكاد تنطق.. بل كانت بالفعل من الناطقين وهي تقول بصمت وسكينة...
يع، والكلمات تتزاحم عند بوابة رأسها تحاول الخروج، كما تزاحم السجناء عند بوابة سجن انهارت فجأة. ثم راحت الحروف في ذهنها تتشكل سريعا لتصبح كلمات، والكلمات تتجمع على الورق لتتحول إلى جمل مفيدة، وأصابعها تضغط على القلم بقسوة تريد منه أن يكون أسرع وأسرع، ولكن القلم كان عاجزا عن مجاراة تفكيرها الملتهب، فتتكسر الأقلام واحدا تلو الآخر، وتزاحم ما في داخلها لا يريد أن يهدأ، فتبقى البوابة مشغولة على الدوام ،وتبقى الأوراق عاجزة عن الاستيعاب.ويتجسد كل ذلك كيانا ملتهبا على ورق يحترق أمامها، ويصرخ طالبا الرحمة، ولكنها لا ترحم، وقلبها لا يلين، كما سجين وسجان في بلد منسي من بلاد الشرق البعيد. وتتكوم أمامها صفحات تلو صفحات من أوراق اختلط بياضها بزرقة المداد، فغدت وكأنها زرقاء يخالطها بياض، أو بيضاء تخالطها زرقة، وحروف مشوشة تكاد تنطق.. بل كانت بالفعل من الناطقين وهي تقول بصمت وسكينة...
المخاض
فتحت عينيها المسهدتين، وعتمة كثيفة لا تزال جاثمة على صدر المكان، عدا ذلك البصيص الخجول من نور أزرق باهت يأتي من مصباح الممر الواهن، وهو يحاول اختراق عتمة ليس له معها أية حيلة. دعكت عينيها الواسعتين بقوة وهي تحاول فتحهما على اتساعهما، ونظرت إلى يديها في الظلام،وكلها حرقة على تلك الشعيرات القليلة التي تعلم أنها سقطت من أهدابها الطويلة التي طالما كانت محل اعتزازها وغيرة رفيقاتها. كانت قد عاهدت نفسها |
كثيرا على ترك هذه العادة السيئة، كما كانت تصفها،حفاظا منها على أهدابها الجميلة، ولكنها لم تفلح، فقد كانت متعة الدعك تفوق ذلك الثمن البخس المدفوع من شعيرات متساقطة معدودة بمراحل كثيرة. تنهدت بصوت حاولت أن يكون صامتا، ثم نظرت حولها بعينين ألفتا العتمة منذ نعومة الأظافر، وإن كانت نفسها لا تزال تنفر من العتمة رغم الألفة وذكريات الطفولة وأيام القرية والزواج الأولى.
التفتت بتلقائية نحو الساعة العاجية بجانبها. كانت عقاربها الفسفورية قد تجاوزت الرابعة صباحا، وعما قليل ستنشر أنفاس الصبح أريجها على الهاجعين والسارين. تثاءبت بقوة كاشفة عن أسنان لؤلؤية المظهر والبريق، صغيرة الحجم بتناسق واضح وفريد، وبياض ناصع كبياض نوارس الشتاء على جزر الخليج المنسية متحدية كل عتمة، ثم تمطت بلذة وهي تطلق أنينا خافتا في غاية الاسترخاء،أشبه ما يكون بأنين النشوة وارتواء الشهرة، وقد غارت عيناها باسترخاء، ونظرت إلى النائم بجانبها، وقد علا شخيره كمنشار مثلومة أسنانه يحاول شق طريقه في قطعة خشب قديمة أحرقتها شمس خالدة السطوع، قبل أن تجد طريقها للاحتراق والتشتت في يم الفناء.ابتسمت بحنان وحب خالصين، وشريط خاطف من الذكريات يمر في خاطرها، ثم حاولت أن تستعيد لحظات النوم الهاربة....
تقلبت ذات اليمين وذات الشمال، وتكومت تكوم جنين في بطن أمه تارة، وكما دودة قز في شرنقتها تارة أخرى، أو كما عصفورة في عشها تارات و تارات. واضطجعت على ظهرها تارة وعلى بطنها تارة أخرى، ونصائح أمها ترن في أذنها في التحذير من النوم على البطن للذكر، وعلى الظهر للأنثى، فالشيطان موجود دائما، وهو لا يفوت الفرصة لتحقيق هدف وجوده، وأذية بني آدم أجمعين، الذكور منهم والإناث، منذ الأزل وإلى الأبد. ولكن الكرى الهارب يأبى أن يعود، وجفناها يرفضان الانتماء إليها، وبقي السهاد سيدا للموقف.كانت مستعدة للاستلقاء في أي وضع ووضعية، شريطة أن يغازلها من لا ترفض مغازلته،ويعانقها من لا يملك صده. لقد كان رأسها مليئا بأفكار كثيرة تتصارع في داخله هذه الأيام، فاستسلمت لتفكير لم يكن لها معه من حيلة إلا الاستسلام. فإن لم تستطع هزيمة الخصم، فعليك أن تجاريه...أو حتى أن تنضم إليه..هكذا علمتها الأيام ولحظات الزمان وفلسفة الأمريكان التي أمست فلسفة هذا الزمان. فهكذا هي الدنيا :لكل وقت أذان، ولكل عصر فلسفة وكيان....
وهذه الأيام التي وإن كانت كغيرها من أيام تحددها شمس الشروق وشمس الغروب، إلا أنها ليست كغيرها بالنسبة لها. فالزمن ليس شيئا واحدا، ولكل ذات زمنها رغم أن الزمن واحد. فهي تعلم أنها اليوم قد عانقت الخمسين من عمرها، أو ربما تكون قد تجاوزتها، أو أقل منها بقليل، لا تدري على وجه الدقة. فهي في الحقيقة لا تعرف تماما متى ولدت، ككل امرأة ورجل من جيلها، ومن هم قبل جيلها، ومعظم من هم بعد جيلها، رغم حرصها على الاحتفال بعيد ميلادها كل عام، منذ انتقالهم إلى حي العليا، وفي تاريخ اختارته في العشر الأواخر من آذار،حين تعود عشتار منتصرة من العالم السفلي، تقود تموز بيدها، فينتشر الخصب ، ويعم الرغد، وتزغرد الأرض فرحا بعودة الحياة، وتعزف السماء على أوتار الوجود نشيد الأمل ولحن الخلود. كان الجميع يعرفون أنها لا تعرف يوم مولدها. وكانت هي& تعلم أنهم يعلمون أنها لا تعلم، كما تعلم أنهم لا يعرفون تواريخ ميلادهم أيضا، ولكنهم كانوا يهرعون إلى حفلات عيد ميلادها، كما تهرع هي إلى حفلات أعياد ميلادهم، محملين بالهدايا الثمينة، وهم يغنون: سنة حلوة يا جميل تارة، وHappy Birthday to you تارة أخرى"، فتشعر بسعادة طفل سمح له بتناول ما شاء من حلوى. ففي قريتها لم تكن التواريخ& تعني الشيء الكثير لأحد، بل ولا كل الزمن، مجرد شمس تشرق وأخرى تغرب، وبينهما قمر يظهر هلالا وينتهي محاقا بعد أن يكتمل بدرا. يولد ويكتمل ثم إلى النقصان يسير، وكان الله بعباده لطيفا.
لا يحتاجون الشمس إلا لتحديد أوقات الزرع والحصاد، أو لتحديد أوقات الصلاة، أو للتاريخ بمدايناتهم وعقودهم القليلة، أو لبعث شيء من الدفء في أجسادهم الهزيلة أيام الشتاء وزمهرير الصحراء الذي ليس كمثله زمهرير، وماعدا ذلك فهو غير مهم، وليس له أن يكون مهما. ولا يحتاجون القمر إلا لتحديد متى يكون الصوم ومتى يكون الفطور. متى يكون الحج إلى البيت العتيق، ومتى تتوجب الأضحية، ومتى تكون الليالي البيض حيث يتضاعف الأجر لدى خالق الخلق الرحمن الرحيم، ويحلو السمر على الرمال الناعمة في ليالي الصيف الحارة، حين تزفر الصحراء نارا صافية في النهار، كما التنين في بلاد الصين والوجوه الصفر، بل وزفرات جهنم ذاتها في الظهيرة. يولد الناس ويتناكحون ويتناسلون ويموتون ويدفنون، دون حاجة لتحديد زمن هذا أو ذاك، فالأمور تجري هكذا،وكانت دوما تجري هكذا، ولا حاجة لتقييدها باليوم أو الساعة أو الدقيقة، فما هذه الأمور إلا مما اتفق عليه البشر، وليست من طبائع الأشياء كما خلقها الله. هكذا كان الأمر منذ آدم، وهكذا سيبقى الأمر حتى يأتي ابن مريم، ثم ينفخ في الصور، ويبعث ما في القبور،وينتشر ما في الصدور، ويرث الله الأرض وما عليها. فليس الزمن في النهاية إلا عقابا لآدم وحواء وذريتهما بعد خطيئة الأكل من تلك الشجرة المحرمة، وعذابا مؤقتا في انتظار تلك اللحظة التي يطوي فيها الديان السماوات والأرض بين يديه كما تطوى الصحف، ويعود آدم إلى جنة الخلد التي أهبط منها كارها، ويلقى بإبليس اللعين في أسفل سافلين جزاء جريمته السرمدية، وتحديه رب الخلق أجمعين.
ولكن أحاديث والديها المتفرقة تشير بعض الإشارة إلى متى كان ذاك اليوم الذي خرجت فيه إلى الوجود، واستنشقت أول نسمات الحياة. فهذه الأحاديث تؤكد أنها ولدت فجر ذات يوم من أيام الشتاء، في أعقاب ليلة اختفت فيها الأرض، وغابت فيها السماء ونجومها، واشتد بردها، وعبثت عواصفها، وارتدت فيها الدنيا لباسا حالك السواد، من أيام العقرب الأول أو أوائل العقرب الثاني على أكثر تقدير. ورغم كل ذلك،كانت ليلة ولادتها ليلة خير وبركة، على حد تعبير والدها، فقد انشقت السماء عن قرب مترعة بالماء بعد طول انتظار، حتى خشي البعض أن يكون طوفان نوح قد عاد من جديد عقابا للبشر على خطاياهم التي أصبحت أكثر عددا من حبات الرمل وفراقد السماء، فهرعوا إلى المسجد تلك الليلة متضرعين إلى العلي القدير أن يجعلها سقيا رحمة لا سقيا عذاب، وحواليهم لا عليهم، وفي الآكام وبطون الأدوية، في ذات الوقت الذي كانت قلوبهم ترجف هلعا من أن ينهار المسجد الطيني عليهم،أو تنهار بيوتهم على أطفالهم ومن يحبون.غير أن مطوع القرية وإمام المسجد طمأنهم تلك الليلة بأن الطوفان لن يعود من جديد، فقد أخذ الله على نفسه عهدا بعد طوفان نوح بأن لا يتكرر الحدث، وما قوس قزح إلا علامة من علامات الرب الرحيم بأنه لن يهلك الأرض ومن عليها بالطوفان. هكذا كانت أقاصيص والدها تقول فيما تتذكر...
وقد أسموها لطيفة، كما تذكر أمها دائما، استبشارا بلطف الله بعباده تلك الليلة،إذا انقشعت الغمة مع تباشير الصباح الأولى، وكان فجرا منيرا باسما، فكانت سقيا رحمة لا سقيا عذاب، وفي الآكام وبطون الأدوية،حتى أن وادي الرمة العظيم، ووادي حنيفة جريا كما لم يجريا منذ سنين، وفاضت الشعبان الأخرى كما لم تفض من قبل، كما أكد كبار السن من أهل القرية. وتناقل الجميع خبرا يقول بأن نجدا مقبلة على طقس أشبه ما يكون بطقسها تلك الأيام الخوالي قبل آلاف من السنين، عندما كانت الأرض سخية بعطاياها، رغم التوجس بأن ذلك قد يكون من علامات الساعة القريبة، وما أدراك ما صيحة الساعة، فذاك يوم شديد، وعلى العالمين عصيب. فقد كانوا يروون حديثا عن رسول الله بأن جزيرة العرب سوف تعود خضراء كما كانت، وتجري فيها الأنهار في آخر الزمان ونهاية الحياة على هذه الفانية، فكان فرحهم مشوبا بقلق عظيم.وقد علمتهم الأيام ألا يفرحوا كثيرا بأي شيء، فكما أن الدنيا تقبل أحيانا، فإنها تدبر دائما، وهم يتوجسون خفية حين إقبالها من أن أدبارها قادم لا محالة. بل انهم يستعيذون بالله من الشيطان الرجيم حين إقبالها يستغرقون أحيانا في الضحك في ساعة من ساعات الصفاء النادرة، ويرددون والخوف يغشى قلوبهم: اللهم اكفنا شر هذا الضحك.... اللهم اكفنا شر هذا الضحك... وينقلبون إلى أهلهم قلقين. لكم تمنى والدها لو كان هذا المولود المبارك الجديد ذكرا، كي ينضم إلى أخويه محمد وعبد الرحمن، فيفاخر بهم أهل قريته، ويشدون من عضده، وتمتد بهم عائلة الأثلة وتقوى، ولكن الخيرة فيما اختاره الله على كل حال، كما كان يردد دائما. وكان الوالد يريد أن يسميها مزنه على اسم أمه المتوفاة، وهو كان سيسمي ابنته الكبرى بهذا الاسم، ولكن الجدة كانت على قيد الحياة آنذاك، ولم تأذن له بذلك، تطيرا ونفورا من تسمية حفيدتها باسمها وهي لا تزال على قيد الحياة، رغم تجاوزها الثمانين، فكان أن سماها الوالد قماشة، على اسم جدته لأمه، تنفيذا لرغبتها.ولكن بعد تلك الليلة المطيرة، لم تعد "المزنه" مما يتمنى أو يستحب، فهي أخت السحابة أو ابنتها، كما كانت والدتها تعلق ضاحكة وهي تستغفر رب العرش العظيم، فهي كالنسيم حين يرق، ولكنها كالإعصار حين يهب، وقد علمتهم الأيام أن لا يثقوا حتى بالمزن وإن صفت. فالفرق بين العقاب والثواب هو كالفرق بين الليل والنهار: لحظة من غسق سريع أو سحر عجل، لا يلبث أن ينتهي إلى ليل أو نها، عتمة أو ضياء.
كما أن أخاها الكبير محمد، أكد لها أن مولدها كان بالتأكيد في أحد أيام رمضان، وبالتحديد في أحد العشر الأواخر منه، إذ لا يزال يذكر متابعتهم للقمر وهو يموت، في طريقه لأن يولد من جديد ويكون العيد، حيث الملابس الجديدة ، وكل ذلك اللذيذ من طعام، وخاصة ما يجلبه صالح ابن عمهم معه من الرياض. كما أنه لا يزال يذكر ليالي التهجد الطويلة التي كان والده يوقظه فيها من فراشه الدافىء، والعتمة لا تزال تجثم بكلكلها على كل المكان، والزمهرير يئز بين النخيل التي تبدو وكأنها رؤوس الشياطين انبثقت من حيث لا أحد يدري، حتى يرافقه إلى مسجد القرية. ومع استخدام حسبة بسيطة لاحقة قام بها طارق على جهاز الكمبيوتر، خمنت أن يوم ميلادها لا بد أن يكون في مثل هذا اليوم من أيام شباط الباردة، أو قبله أو بعده بيوم أو يومين أو حتى عدة أيام. على أية حال، فهي لا شك في الخمسين من عمرها، قد تزيد قليلا وقد تنقص قليلا، ولكنها فيها أو تدور حولها، فماذا تعني عدة أيام أو حتى شهور بالنسبة لنصف قرن من الزمان، فهي إن لم تكن قد ولدت في السنة الأخيرة للحرب العظمى، فلا بد أن يكون ذلك بعدها أو قبلها بسنة على الأكثر، حيث أن أحاديث والدتها عن تلك الفترة كانت تؤكد أن السكر الأبيض النقي كان متوافرا في سنة ولادتها، وكانت كافة مستلزمات النفساء من حلبة ورشاد وغيرها، تملأ الأسواق، بالإضافة إلى بضائع عقيل وغيرهم من تجار نجد، من أقمشة الشام وحلي مصر تمن العراق، وهم الذين لم يعرفوا قبل ذلك إلا ذلك السكر الأحمر، وتلك الحوانيت الخالية طوال سنوات الحرب.
خمسون عاما سرقها منها الزمان، أو سرقتها هي من الزمن، أو تناوبا السرقة فيما بينهما، فليس هناك معيار دقيق للتفرقة بين السارق والمسروق، والغاصب والمغصوب، حين يكون الزمن هو القاضي وهو الجلاد وهو المتهم وهو المجني عليه، وهو الفاعل والمفعول فيه في الوقت ذاته، بل هو البطل في مسرحية من فصل واحد، تكون فيها لحياة هي المسرح، خمسون عاما مرت وكأنها مجرد خمس دقائق، أو ربما مجرد شيء أشبه ما يكون بلحظة ما بين طرفة العين وانتباهتها، أو أقل من ذلك، رغم أنها مرت بأوقات كانت تشعر فيها وكأن الثانية الواحدة فيها قد تحولت إلى دهر أو أطول من ذلك بكثير.
وابتسمت بطرف فمها وهي تتذكر أحاديث أبيها عن الموت في آخر أيامه وكيف أن المحتضر تمر أمامه كل تفاصيل حياته بسرعة عجيبة، حتى أن كل الحياة التي عاشها لا تتجاوز اللحظة أو بعضها، أو حتى ومضة برق عابرة. والحقيقة أن تلك الأيام لم تكن بمثل هذه الأيام، فقد كان الزمن في القرية ميتا أو شبه ميت.أو ربما ليس له وجود من الأساس.اليوم مثل الأمس، والغد مثل اليوم، ولم يكن هناك حاجة لشريط كي يصور ما جرى وما يجري، بل إن مجرد صورة فوتوغرافية صامتة وساكنة كافية بالغرض، وربما لأجل ذلك كانت أيام زمان أطول من أيام هذا الزمان، إذ كلما تباطأ وقع الحياة، كان الزمن أطول، رغم أن الزمن هو الزمن في كل الأحوال، ولكنه ليس كذلك في كل الأحوال. وابتسمت وهي تتصور أن الشريط الذي يمر في ذهن محتضري القرية لا بد أن يكون جديدا، فليس هناك ما يمكن أن يكون مطبوعا عليه من صور.. واستغفرت الله بسرعة وعجلة وهي تتذكر قولا لأبيها، رحمه الله، بأنه ليس المهم هو ما يجري حولنا، ولكن المهم هو ما يجري فينا.. الزمن إحساس لما في الداخل، وليس حسابا لما في الخارج. لم يكن أبوها فيلسوفا، ولم يعبر عن المسألة كما تفكر هي فيها الآن، ولكن الحياة جعلت منه فيلسوفا على طريقته دون أن يشعر، رغم أنه لم يكن يعلم ما هي الفلسفة، ولم يكن يهمه أن يعلم، وربما لو علم لاستعاذ منها كثيرا. والحقيقة أنها لم تكن تكترث كثيرا "بسوالف" والدها آنذاك، وما كان أكثرها وخاصة أيام رمضان ولياليه، ولكنها مع تقدم العمر، وتسارع وقع الحياة التي لا تتوقف، بدأت تفكر بالحياة فعلا وكأنها شريط سينمائي سريع، أو شريط فيديو لا يلبث أن ينتهي بمجرد أن يبدأ.
وأحست برعشة سريعة تعتريها، وينتفض لها كل جزء في جسدها المكتنز.. رباه ...أكل تلك الآمال والآلام، وكل تلك الأحزان والمسرات، وكل ذلك الانتظار الذي يخاله الفرد في حينه دهرا، أكل ذلك مجرد لحظة مجرد لحظة عابرة، أو حتى أقل من ذلك ؟ خمسون عاما بأفراحها وأتراحها أو هي اتراحها وومضات أفراحها، مرت دون أن تدري أن العمر يضوي كما يضوي كل شيء حكم عليه بالفناء، أو شمعة لا بد لها في النهاية أن تنطفىء مهما كان حجمها أو طولها. فكل ما له بداية لا بد أن يكون له نهاية، وصرخة الميلاد ليست إلا إعلانا عن تناقص العمر وعويل الموت بعد حين، وما حرارة الميلاد وفرحه، إلا بداية لبرود الموت وترحه. إنها تدري بهذه الحقيقة، أو قل إنها تشعر بها دون أن تدربها ربما، ولكنها تتجاهلها ككل البشر منذ أن جبل الرب العظيم آدم بيديه من صلصال لا روح فيه، وحتى يكون يوم البعث والنشور ومحاسبة من في القبور.
وطافت في ذهنها صورة رجل وقور بلحية بيضاء طويلة يسبح في الفضاء، ويمد يده إلى رجل عار على الأرض، فابتسمت وهي تتذكر لوحة خلق آدم لمايكل أنجلو تلك اللوحة التي بهرها جمالها وأسرتها روعتها حين رأتها لأول مرة تحت قبة "السستين" في الفاتيكان، وإن شعرت بالكثير من النفور آنذاك من قدرة البعض وجرأتهم على تصور الخالق ورسمه، وهي إلى هذه اللحظة لا تزال تحمل شيئا من الدهشة حيال تلك الجرأة. وتنهدت بحرقة، وخاطرة تطوف برأسها على عجل:" نوهم النفس بأننا من الخالدين في لحظة غفلة، ثم نكتشف فجأة أننا من المخدوعين في لحظة نور خاطفة لا تلبث أن تنطفئ بمثل ما ومضت، ونعود إلى الغفلة من جديد، كما يعود الظلام الدامس إلى فلاة بلا تخوم بعد اختفاء نور برق عابر،ولا يبقى إلا هدير الرعد في الأذان، والظلام المحيط& ببصر انتفت قيمته. ولا تدري لماذا طاف الخيام بذهنها في تلك اللحظة، وأحسست بالست وهي تغني في رأسها، وكأنما تغني لها وحدها: لبست ثوب العيش لم أستشر، وحرت فيه بين شتى الفكر".. .ثم لا يلبث أبو ماضي أن يدخل على الخط وهو يشتكي حائرا :" جئت، لا أعلم من أين، ولكني أتيت "...
طردت الخيام وأبا ماضي من ذهنها، وحاولت التخلص من آهات الست ورجع صوتها في رأسها، وألقت باللحاف المخملي جانبا، فأحسست بقشعريرة برد لذيذة، ورغم تلك الحرارة التي كان يبثها جهاز التكييف، ثم تأكدت من إحكام الغطاء على جسد صالح بجانبها، وغطت فخده السمراء الدقيقة المكشوفة، وقد علا شخيره أكثر من ذي قبل، وانتشرت رائحة الكحول في كل أرجاء الغرفة. كم كانت تتأذى من هذه الرائحة في البداية، وكانت تثير المشاكل مع صالح من جراء شربه الليلي المستمر، وتهاونه في أداء واجباته الدينية، وهو المسلم ابن الحمولة ولا يصح منه مثل هذا السلوك، وخاصة صلاتي الفجر والعصر، اللتين يكون خلالهما مستغرقا في نوم عميق، مذكرة إياه بتشديد الخالق جل وعلا على الصلاة الوسطى خاصة في كتابه الكريم.إلا أنها في النهاية رضخت لما رأت أنه قدرها في الحياة، وتقبلت زوجها على علاته، وأقنعت نفسها بنصائح أمها الدائمة من أن "طاعة الزوج من طاعة الرب، وأن الرسول الكريم قال إنه لو كان آمرا أحدا بالسجود لغير الله، لأمر الزوجة بالسجود لزوجها، أو كما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم....فالأجر على قدر الشقة، ولعل الله يهديه على يديها وإن طال الزمان، فيتضاعف أجرها عند علي قدير لا تخفيه خافية".
وهي لا تزال تذكر نصائح والدتها لشقيقتها قماشة،حين تأتيها وقد فاض بها الكيل من" جلافة" زوجها وقذارته التي تجاوزت كل حدود، فكانت تهدئ من روعها، وتقول لها دائما: " طوبى للنساء يا بنيتي، فطريق الجنة أمامهن سهل يسير، وما عليهن إلا الصبر على هذه الفانية وفيها. فالمرأة يا بنيتي إذا صلت فرضها، وصامت شهرها، وصانت فرجها، وأطاعت بعلها، وقرت في بيتها فإنها تدخل الجنة من أي باب شاءت إن شاء الله....عليك بالصبر يا بنيتي في هذه الفانية، فالعاقبة هي السعادة الدائمة إن شاء الله، وما نحن في هذه الدنيا إلا كمسافر استظل تحت شجرة ثم لم يلبث أن غادرها، كما يعلمنا سيد الخلق أجمعين،صلوات الله وسلامه عليه"..
رحم الله الوالدة، فقد كانت كلمتها تفعل فعل السحر في شقيقتها، فتعود إلى بيت زوجها راضية، رغم أن "عيون الفأر" كما كانت& تسمي زوج شقيقتها، لا يمكن أن يحتمله ولا الخنزير ذاته، رغم أنها لم تر خنزيرا حقيقيا في حياتها، ولكنها تعلم أنه الأقذر بين مخلوقات الرحمن. وطاف ظل ابتسامة على ثغرها وهي تتذكر تلك القصة التي قرأتها في أحد الكتب التي أدمنتها في وحدتها أيام الزواج الأولى، حين قالت إحدى الجميلات لزوجها الدميم :"أنا وأنت في الجنة" . وحين سألها لماذا، أجابت بأنه رزق بمثلها فشكر، وبليت هي بمثله فصبرت، والصابر والشاكر في الجنة "
والحقيقة أن مثالب صالح لم تكن كثيرة عندما تمعن التفكير في أيامها معه، مقارنة بآخرين تعرفهم من أقاربهم ومعارفهم. بل العكس من ذلك، كان كثير الحسنات، لولا حكاية الشرب هذه، والسفر الكثير إلى الخارج، الذي أدمنه في فترة من الفترات، وخاصة إلى مصر وشرق آسيا في البداية، ثم إلى المغرب وأوروبا بعد ذلك، والتي لم يكن يؤوب منها حتى يعود إليها ثانية. وعندما كانت تسأله عن سر هذه السفرات الكثيرة، كان يتأفف وهو يتذرع باحتياجات العمل وضغطه الذي لا يهدأ، ولكن عينيه الصغيرتين الحادتين كانتا تومضان ببريق غريب، وينفخ دخان سيجارته الكثيف في أرجاء الغرفة، وتفتر شفتاه الداكنتان الغليظتان عن بسمة سريعة غامضة لم تكن تجد لها تفسيرا، ثم لا تلبث أن تنسى المسألة بعد حين، أو تضغط على نفسها كي تنسى، وتخنق كل تلك الشكوك التي تنخر صدرها، والتي كانت تزداد وتصبح كالنار في الصدر بعد كل جلسة تجمعها بجاراتها وصاحباتها، وخاصة جارتهم أم فهد، والتي تكاد تكون شكا مجسدا على شكل امرأة.
بل إن صالحا في الآونة الأخيرة لم يعد يشرب إلا قليلا، وغالبا في ليالي الجمعة، وأكثر الأحيان بمفرده دون الذهاب إلى شلة أصحابه المعتادة، أو مجيء الشلة إليه، وعندما كانت تسأله عن السبب، كان يضحك باقتضاب، ثم يقول "اشتقت لك...هل من ضير في ذلك؟..فتبتسم بلذة ودلال، ولكنها تعلم في داخلها أن الطبيب قد حذره من مغبة الإفراط في الشرب، حين تبين أن وظائف الكبد لديه لم تكن بالدرجة المرضية تماما، بعد رحلة علاج سياحية إلى أمريكا، قبل حوالي خمس سنوات، لم يكن يحس بشيء حينها، ولكنه ذهب إلى "كليفلاند" ومستشفاها الشهير، تقليدا لأثرياء الطفرة الجدد، الذين أصبحت رحلات الفحص الطبي في بريطانيا وأميركا وألمانيا جزءا من الإعلان عن الثراء قبل أن يكون لحاجة حقيقية. كما أنها تعلم أن "البزنس" لم يعد جيدا كما في الأيام الخوالي. فبعد انتهاء حرب تحرير الكويت، كما أسموها، أو "الفضيحة" كما تحب أن تسميها، وكل تلك الأموال التي ذهبت أدراج الرياح، وبعد انخفاض أسعار النفط وارتفاع مديونية الحكومة وعدم وجود مشاريع ومناقصات جديدة، بالإضافة إلى عدم قدرة الحكومة على الوفاء بالتزاماتها كما في السابق، وكدت الحركة، وسكنت سوق العقار، بل وكافة الأسواق، وانخفضت أسعار الأسهم، ولم يعد صالح يجد نفسه مجبرا على ذلك الجلسات الاجتماعية المظهر، أو جلسات النفاق كما تسميها، والمكرسة لعقد الصفقات قبل عقدها بالفعل.
ومع الأيام، اعتادت علة مكوثه الليلي غير المعتاد في المنزل، وكانت مسرورة بذلك، ولكنه كان سرورا مشوبا ببعض القلق، فقد بدأ يتسرب إلى داخلها خوف من المستقبل رغم الثروة، وقلق من عودة أيام الفقر رغم أن كل شيء يوحي بأن أيام الفقر والمسغبة ولت يغير رجعة. فحساباتهم في بنوك أوروبا وأمريكا وحدها كافية لأن يعيشوا في بحبوحة إلى أجل غير منظور، ولكن هذا الإحساس بالخوف من المجهول لا يريد تركها، وهو إحساس لا تدري كنهه ولا هي قادرة على السيطرة عليهن رغم علمها بأن لا مبرر له.
وتمطت بكسل وهي تنهض من السرير، ثم تلفعت بروبها المخملي الأزرق البراق وهي تحس بلذة الدفء في جنباته، بعد احتواء لسعته الباردة الأولى، وأحكمت الغطاء على جسد صالح الهزيل، بعد أن أمعنت النظر لبرهة في آثار الكي الكثيرة على بطنه وظهره، وخاصة ذلك الأثر الكبير الذي يبدو بوضوح على مؤخرة العنق، وكأنها ترى هذه الآثار لأول مرة. وابتسمت وهي تذكر كلماته في أول رحلة لهم إلى لندن حين قال لها ضاحكا :" هل تعلمين يا لطيفة؟..أستطيع أن أميز ابن نجد من بين جميع أصناف البشر..." ودون أن يعطيها فرصة التعجب قال "انظري إلى مؤخرة عنقه، وسترين الدمغة النجدية...دمغة الجودة..كي على اتساع ريال الفضة العربي القديم لا تجدينه عند أي جنسية أخرى" ويضحك الاثنان بحبور أطفال قرية يكتشفون طعم الأيس كريم في أول رحلة لهم إلى المدينة، فيما يتحسس صالح مؤخرة عنقه وهو لا يزال يضحك.
اتجهت إلى النافذة الزجاجية الواسعة وبسمة صافية لا زالت تحتل ثغرها المرسوم بدقة فرشاة فنان من عصر النهضة، وأخذت تتأمل شوارع "العليا" الفسيحة الخالية في مثل هذه الساعة المبكرة من يوم الجمعة، إلا من بعض سيارات ساهرة تجوب الشوارع دون هدف، أو ربما لهدف لا تدري عنه، وقد غسلها رذاذ خفيف من مطر خجول ومغرور طال انتظاره، وأقيمت صلوات الاستسقاء بأمر الملك نفسه من أجله، فبدت لامعة وجميلة بشكل غريب في مثل تلك الساعة من ليل ينحدر نحو الهاوية. وطافت فكرة غريبة في ذهنها، ولكنها سرعان ما طردتها، أو هي قمعتها على رأي الدكتور سليم كزبرة.. لماذا يصلون صلاة الاستسقاء في أيام الموسم فقط؟ لماذا لا يجربون الصلاة في الصيف مثلا؟ ولم تستطع المضي الى الاخر في فكرتها تلك، فقد سيطر عليها الهلع لمجرد التفكير بذلك، فطردتها بعجلة وهي تستغفر الله كثيرا، وصورة هيفاء عصفور تحتل ذهنها كله..
ثم نظرت الى السماء الصافية في الاعلى، وغابت مع ضوء نجمة بعيدة شديدة اللمعان في الأفق الغربي، كأنها الكوكب الدري في الأفق، وطاف ابو فراس في ذهنها وهو يشتكي متألما: "اذا الليل أضواني بسطت يد الهوى، وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر"، فأحست برغبة عارمة في البكاء، ومسحت دمعة صارعت حتى استطاعت الفرار من سجن عينها. أخذت نفساً عميقاً، فوجدت لذة غريبة تسري في جنباتها وهي ترى كل تلك النجوم الساطعة، وقد زينت تلك السماء الصافية الغارقة في ظلام ساحر يستوعب كل أبعاد المكان والزمان. وأحسست لبرهة أنها جزء من هذا الكيان الساحر، وأنها نجمة في سلسلة من نجوم هائمة في ملكوت لا أول له ولا آخر، بل تصورت للحظة أنها "فينوس" ذاتها وقد تاهت دلالا على بقية النجوم بجمالها وألوانها الزاهرة. ثم لم تلبث هذه البرهة ان تنجلي بالسرعة ذاتها التي حلت بها، وهي لذلك من الآسفين..
لم تتغير السماء ولا نجومها ولا فراقدها ولا كواكبها، هي السماء ذاتها& والنجوم ذاتها التي كانت تراها في القرية الصغيرة، ولكن كل ما تحت تلك السماء وتظلله النجوم قد تغير وتحول. ربما لو كانت هي نجمة من نجوم السماء تنظر الى الارض لطافت في ذهنها الفكرة نفسها، حيث تصبح الارض هي السماء، وتصبح السمءا هي الارض، وتنتفي الفروق بين الاعلى والاسفل، ولا يعود إلا كون بلا أبعاد.. ربما..
وطردت أيضاً هذه الفكرة العابرة الثقيلة من خيالها، وفتحت النافذة لبرهة صغيرة، وأخذت تستنشق بعمق ولذة هواء باردا مشبعا برطوبة في غاية النعومة، ثم اغلقت النافذة باحكام وهي تعود الى ذاتها.. يا الهي ما اجمل الرياض في الشتاء وبعض اسابيع من الربيع، بل ما اجمل الدنيا كلها في تلك الايام! فلا يقارن بقسوة الرياض وسمومها في الصيف، الا جمالها أيام النسيم والمطر. ولكن " لولا القبح ما كان الجمال، ولولا الخريف ما كان الربيع". وابتسمت وهذه الخاطرة تعبر ذهنها، وتأخذها لحظة اعتداد بالنفس، فقد اصبحت فيلسوفة دون ان تدري.. ولم لا؟ ألم يقل أرسطو ان الفلسفة ما هي الا لحظة اندهاش وتعجب؟ كم كانت تتمنى لو انها قادرة على قرض الشعر، فربما جادت قريحتها بانشودة مطر تتحدى بها أنشودة السياب البصري وبكائيات بويب، وشتائيات نزار الدمشقي خلف الأبواب الموصدة، أو تخرج بقصيدة "عدت يا يوم مولدي" تتحدى بها بيرم وآهات فريد. رباه! لقد& تغيرت الرياض كثيرا منذ مجيئها اليها لاول مرة، بل وفي بضع سنين معدودة، ولم يعد من الممكن تحديد أين تبدأ وأين تنتهي، لردجة ان الرياض لم تعد هي الرياض، بل تحولت الى "رياضات" منذ مجيئها اليها لأول مرة.
التفتت بتلقائية نحو الساعة العاجية بجانبها. كانت عقاربها الفسفورية قد تجاوزت الرابعة صباحا، وعما قليل ستنشر أنفاس الصبح أريجها على الهاجعين والسارين. تثاءبت بقوة كاشفة عن أسنان لؤلؤية المظهر والبريق، صغيرة الحجم بتناسق واضح وفريد، وبياض ناصع كبياض نوارس الشتاء على جزر الخليج المنسية متحدية كل عتمة، ثم تمطت بلذة وهي تطلق أنينا خافتا في غاية الاسترخاء،أشبه ما يكون بأنين النشوة وارتواء الشهرة، وقد غارت عيناها باسترخاء، ونظرت إلى النائم بجانبها، وقد علا شخيره كمنشار مثلومة أسنانه يحاول شق طريقه في قطعة خشب قديمة أحرقتها شمس خالدة السطوع، قبل أن تجد طريقها للاحتراق والتشتت في يم الفناء.ابتسمت بحنان وحب خالصين، وشريط خاطف من الذكريات يمر في خاطرها، ثم حاولت أن تستعيد لحظات النوم الهاربة....
تقلبت ذات اليمين وذات الشمال، وتكومت تكوم جنين في بطن أمه تارة، وكما دودة قز في شرنقتها تارة أخرى، أو كما عصفورة في عشها تارات و تارات. واضطجعت على ظهرها تارة وعلى بطنها تارة أخرى، ونصائح أمها ترن في أذنها في التحذير من النوم على البطن للذكر، وعلى الظهر للأنثى، فالشيطان موجود دائما، وهو لا يفوت الفرصة لتحقيق هدف وجوده، وأذية بني آدم أجمعين، الذكور منهم والإناث، منذ الأزل وإلى الأبد. ولكن الكرى الهارب يأبى أن يعود، وجفناها يرفضان الانتماء إليها، وبقي السهاد سيدا للموقف.كانت مستعدة للاستلقاء في أي وضع ووضعية، شريطة أن يغازلها من لا ترفض مغازلته،ويعانقها من لا يملك صده. لقد كان رأسها مليئا بأفكار كثيرة تتصارع في داخله هذه الأيام، فاستسلمت لتفكير لم يكن لها معه من حيلة إلا الاستسلام. فإن لم تستطع هزيمة الخصم، فعليك أن تجاريه...أو حتى أن تنضم إليه..هكذا علمتها الأيام ولحظات الزمان وفلسفة الأمريكان التي أمست فلسفة هذا الزمان. فهكذا هي الدنيا :لكل وقت أذان، ولكل عصر فلسفة وكيان....
وهذه الأيام التي وإن كانت كغيرها من أيام تحددها شمس الشروق وشمس الغروب، إلا أنها ليست كغيرها بالنسبة لها. فالزمن ليس شيئا واحدا، ولكل ذات زمنها رغم أن الزمن واحد. فهي تعلم أنها اليوم قد عانقت الخمسين من عمرها، أو ربما تكون قد تجاوزتها، أو أقل منها بقليل، لا تدري على وجه الدقة. فهي في الحقيقة لا تعرف تماما متى ولدت، ككل امرأة ورجل من جيلها، ومن هم قبل جيلها، ومعظم من هم بعد جيلها، رغم حرصها على الاحتفال بعيد ميلادها كل عام، منذ انتقالهم إلى حي العليا، وفي تاريخ اختارته في العشر الأواخر من آذار،حين تعود عشتار منتصرة من العالم السفلي، تقود تموز بيدها، فينتشر الخصب ، ويعم الرغد، وتزغرد الأرض فرحا بعودة الحياة، وتعزف السماء على أوتار الوجود نشيد الأمل ولحن الخلود. كان الجميع يعرفون أنها لا تعرف يوم مولدها. وكانت هي& تعلم أنهم يعلمون أنها لا تعلم، كما تعلم أنهم لا يعرفون تواريخ ميلادهم أيضا، ولكنهم كانوا يهرعون إلى حفلات عيد ميلادها، كما تهرع هي إلى حفلات أعياد ميلادهم، محملين بالهدايا الثمينة، وهم يغنون: سنة حلوة يا جميل تارة، وHappy Birthday to you تارة أخرى"، فتشعر بسعادة طفل سمح له بتناول ما شاء من حلوى. ففي قريتها لم تكن التواريخ& تعني الشيء الكثير لأحد، بل ولا كل الزمن، مجرد شمس تشرق وأخرى تغرب، وبينهما قمر يظهر هلالا وينتهي محاقا بعد أن يكتمل بدرا. يولد ويكتمل ثم إلى النقصان يسير، وكان الله بعباده لطيفا.
لا يحتاجون الشمس إلا لتحديد أوقات الزرع والحصاد، أو لتحديد أوقات الصلاة، أو للتاريخ بمدايناتهم وعقودهم القليلة، أو لبعث شيء من الدفء في أجسادهم الهزيلة أيام الشتاء وزمهرير الصحراء الذي ليس كمثله زمهرير، وماعدا ذلك فهو غير مهم، وليس له أن يكون مهما. ولا يحتاجون القمر إلا لتحديد متى يكون الصوم ومتى يكون الفطور. متى يكون الحج إلى البيت العتيق، ومتى تتوجب الأضحية، ومتى تكون الليالي البيض حيث يتضاعف الأجر لدى خالق الخلق الرحمن الرحيم، ويحلو السمر على الرمال الناعمة في ليالي الصيف الحارة، حين تزفر الصحراء نارا صافية في النهار، كما التنين في بلاد الصين والوجوه الصفر، بل وزفرات جهنم ذاتها في الظهيرة. يولد الناس ويتناكحون ويتناسلون ويموتون ويدفنون، دون حاجة لتحديد زمن هذا أو ذاك، فالأمور تجري هكذا،وكانت دوما تجري هكذا، ولا حاجة لتقييدها باليوم أو الساعة أو الدقيقة، فما هذه الأمور إلا مما اتفق عليه البشر، وليست من طبائع الأشياء كما خلقها الله. هكذا كان الأمر منذ آدم، وهكذا سيبقى الأمر حتى يأتي ابن مريم، ثم ينفخ في الصور، ويبعث ما في القبور،وينتشر ما في الصدور، ويرث الله الأرض وما عليها. فليس الزمن في النهاية إلا عقابا لآدم وحواء وذريتهما بعد خطيئة الأكل من تلك الشجرة المحرمة، وعذابا مؤقتا في انتظار تلك اللحظة التي يطوي فيها الديان السماوات والأرض بين يديه كما تطوى الصحف، ويعود آدم إلى جنة الخلد التي أهبط منها كارها، ويلقى بإبليس اللعين في أسفل سافلين جزاء جريمته السرمدية، وتحديه رب الخلق أجمعين.
ولكن أحاديث والديها المتفرقة تشير بعض الإشارة إلى متى كان ذاك اليوم الذي خرجت فيه إلى الوجود، واستنشقت أول نسمات الحياة. فهذه الأحاديث تؤكد أنها ولدت فجر ذات يوم من أيام الشتاء، في أعقاب ليلة اختفت فيها الأرض، وغابت فيها السماء ونجومها، واشتد بردها، وعبثت عواصفها، وارتدت فيها الدنيا لباسا حالك السواد، من أيام العقرب الأول أو أوائل العقرب الثاني على أكثر تقدير. ورغم كل ذلك،كانت ليلة ولادتها ليلة خير وبركة، على حد تعبير والدها، فقد انشقت السماء عن قرب مترعة بالماء بعد طول انتظار، حتى خشي البعض أن يكون طوفان نوح قد عاد من جديد عقابا للبشر على خطاياهم التي أصبحت أكثر عددا من حبات الرمل وفراقد السماء، فهرعوا إلى المسجد تلك الليلة متضرعين إلى العلي القدير أن يجعلها سقيا رحمة لا سقيا عذاب، وحواليهم لا عليهم، وفي الآكام وبطون الأدوية، في ذات الوقت الذي كانت قلوبهم ترجف هلعا من أن ينهار المسجد الطيني عليهم،أو تنهار بيوتهم على أطفالهم ومن يحبون.غير أن مطوع القرية وإمام المسجد طمأنهم تلك الليلة بأن الطوفان لن يعود من جديد، فقد أخذ الله على نفسه عهدا بعد طوفان نوح بأن لا يتكرر الحدث، وما قوس قزح إلا علامة من علامات الرب الرحيم بأنه لن يهلك الأرض ومن عليها بالطوفان. هكذا كانت أقاصيص والدها تقول فيما تتذكر...
وقد أسموها لطيفة، كما تذكر أمها دائما، استبشارا بلطف الله بعباده تلك الليلة،إذا انقشعت الغمة مع تباشير الصباح الأولى، وكان فجرا منيرا باسما، فكانت سقيا رحمة لا سقيا عذاب، وفي الآكام وبطون الأدوية،حتى أن وادي الرمة العظيم، ووادي حنيفة جريا كما لم يجريا منذ سنين، وفاضت الشعبان الأخرى كما لم تفض من قبل، كما أكد كبار السن من أهل القرية. وتناقل الجميع خبرا يقول بأن نجدا مقبلة على طقس أشبه ما يكون بطقسها تلك الأيام الخوالي قبل آلاف من السنين، عندما كانت الأرض سخية بعطاياها، رغم التوجس بأن ذلك قد يكون من علامات الساعة القريبة، وما أدراك ما صيحة الساعة، فذاك يوم شديد، وعلى العالمين عصيب. فقد كانوا يروون حديثا عن رسول الله بأن جزيرة العرب سوف تعود خضراء كما كانت، وتجري فيها الأنهار في آخر الزمان ونهاية الحياة على هذه الفانية، فكان فرحهم مشوبا بقلق عظيم.وقد علمتهم الأيام ألا يفرحوا كثيرا بأي شيء، فكما أن الدنيا تقبل أحيانا، فإنها تدبر دائما، وهم يتوجسون خفية حين إقبالها من أن أدبارها قادم لا محالة. بل انهم يستعيذون بالله من الشيطان الرجيم حين إقبالها يستغرقون أحيانا في الضحك في ساعة من ساعات الصفاء النادرة، ويرددون والخوف يغشى قلوبهم: اللهم اكفنا شر هذا الضحك.... اللهم اكفنا شر هذا الضحك... وينقلبون إلى أهلهم قلقين. لكم تمنى والدها لو كان هذا المولود المبارك الجديد ذكرا، كي ينضم إلى أخويه محمد وعبد الرحمن، فيفاخر بهم أهل قريته، ويشدون من عضده، وتمتد بهم عائلة الأثلة وتقوى، ولكن الخيرة فيما اختاره الله على كل حال، كما كان يردد دائما. وكان الوالد يريد أن يسميها مزنه على اسم أمه المتوفاة، وهو كان سيسمي ابنته الكبرى بهذا الاسم، ولكن الجدة كانت على قيد الحياة آنذاك، ولم تأذن له بذلك، تطيرا ونفورا من تسمية حفيدتها باسمها وهي لا تزال على قيد الحياة، رغم تجاوزها الثمانين، فكان أن سماها الوالد قماشة، على اسم جدته لأمه، تنفيذا لرغبتها.ولكن بعد تلك الليلة المطيرة، لم تعد "المزنه" مما يتمنى أو يستحب، فهي أخت السحابة أو ابنتها، كما كانت والدتها تعلق ضاحكة وهي تستغفر رب العرش العظيم، فهي كالنسيم حين يرق، ولكنها كالإعصار حين يهب، وقد علمتهم الأيام أن لا يثقوا حتى بالمزن وإن صفت. فالفرق بين العقاب والثواب هو كالفرق بين الليل والنهار: لحظة من غسق سريع أو سحر عجل، لا يلبث أن ينتهي إلى ليل أو نها، عتمة أو ضياء.
كما أن أخاها الكبير محمد، أكد لها أن مولدها كان بالتأكيد في أحد أيام رمضان، وبالتحديد في أحد العشر الأواخر منه، إذ لا يزال يذكر متابعتهم للقمر وهو يموت، في طريقه لأن يولد من جديد ويكون العيد، حيث الملابس الجديدة ، وكل ذلك اللذيذ من طعام، وخاصة ما يجلبه صالح ابن عمهم معه من الرياض. كما أنه لا يزال يذكر ليالي التهجد الطويلة التي كان والده يوقظه فيها من فراشه الدافىء، والعتمة لا تزال تجثم بكلكلها على كل المكان، والزمهرير يئز بين النخيل التي تبدو وكأنها رؤوس الشياطين انبثقت من حيث لا أحد يدري، حتى يرافقه إلى مسجد القرية. ومع استخدام حسبة بسيطة لاحقة قام بها طارق على جهاز الكمبيوتر، خمنت أن يوم ميلادها لا بد أن يكون في مثل هذا اليوم من أيام شباط الباردة، أو قبله أو بعده بيوم أو يومين أو حتى عدة أيام. على أية حال، فهي لا شك في الخمسين من عمرها، قد تزيد قليلا وقد تنقص قليلا، ولكنها فيها أو تدور حولها، فماذا تعني عدة أيام أو حتى شهور بالنسبة لنصف قرن من الزمان، فهي إن لم تكن قد ولدت في السنة الأخيرة للحرب العظمى، فلا بد أن يكون ذلك بعدها أو قبلها بسنة على الأكثر، حيث أن أحاديث والدتها عن تلك الفترة كانت تؤكد أن السكر الأبيض النقي كان متوافرا في سنة ولادتها، وكانت كافة مستلزمات النفساء من حلبة ورشاد وغيرها، تملأ الأسواق، بالإضافة إلى بضائع عقيل وغيرهم من تجار نجد، من أقمشة الشام وحلي مصر تمن العراق، وهم الذين لم يعرفوا قبل ذلك إلا ذلك السكر الأحمر، وتلك الحوانيت الخالية طوال سنوات الحرب.
خمسون عاما سرقها منها الزمان، أو سرقتها هي من الزمن، أو تناوبا السرقة فيما بينهما، فليس هناك معيار دقيق للتفرقة بين السارق والمسروق، والغاصب والمغصوب، حين يكون الزمن هو القاضي وهو الجلاد وهو المتهم وهو المجني عليه، وهو الفاعل والمفعول فيه في الوقت ذاته، بل هو البطل في مسرحية من فصل واحد، تكون فيها لحياة هي المسرح، خمسون عاما مرت وكأنها مجرد خمس دقائق، أو ربما مجرد شيء أشبه ما يكون بلحظة ما بين طرفة العين وانتباهتها، أو أقل من ذلك، رغم أنها مرت بأوقات كانت تشعر فيها وكأن الثانية الواحدة فيها قد تحولت إلى دهر أو أطول من ذلك بكثير.
وابتسمت بطرف فمها وهي تتذكر أحاديث أبيها عن الموت في آخر أيامه وكيف أن المحتضر تمر أمامه كل تفاصيل حياته بسرعة عجيبة، حتى أن كل الحياة التي عاشها لا تتجاوز اللحظة أو بعضها، أو حتى ومضة برق عابرة. والحقيقة أن تلك الأيام لم تكن بمثل هذه الأيام، فقد كان الزمن في القرية ميتا أو شبه ميت.أو ربما ليس له وجود من الأساس.اليوم مثل الأمس، والغد مثل اليوم، ولم يكن هناك حاجة لشريط كي يصور ما جرى وما يجري، بل إن مجرد صورة فوتوغرافية صامتة وساكنة كافية بالغرض، وربما لأجل ذلك كانت أيام زمان أطول من أيام هذا الزمان، إذ كلما تباطأ وقع الحياة، كان الزمن أطول، رغم أن الزمن هو الزمن في كل الأحوال، ولكنه ليس كذلك في كل الأحوال. وابتسمت وهي تتصور أن الشريط الذي يمر في ذهن محتضري القرية لا بد أن يكون جديدا، فليس هناك ما يمكن أن يكون مطبوعا عليه من صور.. واستغفرت الله بسرعة وعجلة وهي تتذكر قولا لأبيها، رحمه الله، بأنه ليس المهم هو ما يجري حولنا، ولكن المهم هو ما يجري فينا.. الزمن إحساس لما في الداخل، وليس حسابا لما في الخارج. لم يكن أبوها فيلسوفا، ولم يعبر عن المسألة كما تفكر هي فيها الآن، ولكن الحياة جعلت منه فيلسوفا على طريقته دون أن يشعر، رغم أنه لم يكن يعلم ما هي الفلسفة، ولم يكن يهمه أن يعلم، وربما لو علم لاستعاذ منها كثيرا. والحقيقة أنها لم تكن تكترث كثيرا "بسوالف" والدها آنذاك، وما كان أكثرها وخاصة أيام رمضان ولياليه، ولكنها مع تقدم العمر، وتسارع وقع الحياة التي لا تتوقف، بدأت تفكر بالحياة فعلا وكأنها شريط سينمائي سريع، أو شريط فيديو لا يلبث أن ينتهي بمجرد أن يبدأ.
وأحست برعشة سريعة تعتريها، وينتفض لها كل جزء في جسدها المكتنز.. رباه ...أكل تلك الآمال والآلام، وكل تلك الأحزان والمسرات، وكل ذلك الانتظار الذي يخاله الفرد في حينه دهرا، أكل ذلك مجرد لحظة مجرد لحظة عابرة، أو حتى أقل من ذلك ؟ خمسون عاما بأفراحها وأتراحها أو هي اتراحها وومضات أفراحها، مرت دون أن تدري أن العمر يضوي كما يضوي كل شيء حكم عليه بالفناء، أو شمعة لا بد لها في النهاية أن تنطفىء مهما كان حجمها أو طولها. فكل ما له بداية لا بد أن يكون له نهاية، وصرخة الميلاد ليست إلا إعلانا عن تناقص العمر وعويل الموت بعد حين، وما حرارة الميلاد وفرحه، إلا بداية لبرود الموت وترحه. إنها تدري بهذه الحقيقة، أو قل إنها تشعر بها دون أن تدربها ربما، ولكنها تتجاهلها ككل البشر منذ أن جبل الرب العظيم آدم بيديه من صلصال لا روح فيه، وحتى يكون يوم البعث والنشور ومحاسبة من في القبور.
وطافت في ذهنها صورة رجل وقور بلحية بيضاء طويلة يسبح في الفضاء، ويمد يده إلى رجل عار على الأرض، فابتسمت وهي تتذكر لوحة خلق آدم لمايكل أنجلو تلك اللوحة التي بهرها جمالها وأسرتها روعتها حين رأتها لأول مرة تحت قبة "السستين" في الفاتيكان، وإن شعرت بالكثير من النفور آنذاك من قدرة البعض وجرأتهم على تصور الخالق ورسمه، وهي إلى هذه اللحظة لا تزال تحمل شيئا من الدهشة حيال تلك الجرأة. وتنهدت بحرقة، وخاطرة تطوف برأسها على عجل:" نوهم النفس بأننا من الخالدين في لحظة غفلة، ثم نكتشف فجأة أننا من المخدوعين في لحظة نور خاطفة لا تلبث أن تنطفئ بمثل ما ومضت، ونعود إلى الغفلة من جديد، كما يعود الظلام الدامس إلى فلاة بلا تخوم بعد اختفاء نور برق عابر،ولا يبقى إلا هدير الرعد في الأذان، والظلام المحيط& ببصر انتفت قيمته. ولا تدري لماذا طاف الخيام بذهنها في تلك اللحظة، وأحسست بالست وهي تغني في رأسها، وكأنما تغني لها وحدها: لبست ثوب العيش لم أستشر، وحرت فيه بين شتى الفكر".. .ثم لا يلبث أبو ماضي أن يدخل على الخط وهو يشتكي حائرا :" جئت، لا أعلم من أين، ولكني أتيت "...
طردت الخيام وأبا ماضي من ذهنها، وحاولت التخلص من آهات الست ورجع صوتها في رأسها، وألقت باللحاف المخملي جانبا، فأحسست بقشعريرة برد لذيذة، ورغم تلك الحرارة التي كان يبثها جهاز التكييف، ثم تأكدت من إحكام الغطاء على جسد صالح بجانبها، وغطت فخده السمراء الدقيقة المكشوفة، وقد علا شخيره أكثر من ذي قبل، وانتشرت رائحة الكحول في كل أرجاء الغرفة. كم كانت تتأذى من هذه الرائحة في البداية، وكانت تثير المشاكل مع صالح من جراء شربه الليلي المستمر، وتهاونه في أداء واجباته الدينية، وهو المسلم ابن الحمولة ولا يصح منه مثل هذا السلوك، وخاصة صلاتي الفجر والعصر، اللتين يكون خلالهما مستغرقا في نوم عميق، مذكرة إياه بتشديد الخالق جل وعلا على الصلاة الوسطى خاصة في كتابه الكريم.إلا أنها في النهاية رضخت لما رأت أنه قدرها في الحياة، وتقبلت زوجها على علاته، وأقنعت نفسها بنصائح أمها الدائمة من أن "طاعة الزوج من طاعة الرب، وأن الرسول الكريم قال إنه لو كان آمرا أحدا بالسجود لغير الله، لأمر الزوجة بالسجود لزوجها، أو كما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم....فالأجر على قدر الشقة، ولعل الله يهديه على يديها وإن طال الزمان، فيتضاعف أجرها عند علي قدير لا تخفيه خافية".
وهي لا تزال تذكر نصائح والدتها لشقيقتها قماشة،حين تأتيها وقد فاض بها الكيل من" جلافة" زوجها وقذارته التي تجاوزت كل حدود، فكانت تهدئ من روعها، وتقول لها دائما: " طوبى للنساء يا بنيتي، فطريق الجنة أمامهن سهل يسير، وما عليهن إلا الصبر على هذه الفانية وفيها. فالمرأة يا بنيتي إذا صلت فرضها، وصامت شهرها، وصانت فرجها، وأطاعت بعلها، وقرت في بيتها فإنها تدخل الجنة من أي باب شاءت إن شاء الله....عليك بالصبر يا بنيتي في هذه الفانية، فالعاقبة هي السعادة الدائمة إن شاء الله، وما نحن في هذه الدنيا إلا كمسافر استظل تحت شجرة ثم لم يلبث أن غادرها، كما يعلمنا سيد الخلق أجمعين،صلوات الله وسلامه عليه"..
رحم الله الوالدة، فقد كانت كلمتها تفعل فعل السحر في شقيقتها، فتعود إلى بيت زوجها راضية، رغم أن "عيون الفأر" كما كانت& تسمي زوج شقيقتها، لا يمكن أن يحتمله ولا الخنزير ذاته، رغم أنها لم تر خنزيرا حقيقيا في حياتها، ولكنها تعلم أنه الأقذر بين مخلوقات الرحمن. وطاف ظل ابتسامة على ثغرها وهي تتذكر تلك القصة التي قرأتها في أحد الكتب التي أدمنتها في وحدتها أيام الزواج الأولى، حين قالت إحدى الجميلات لزوجها الدميم :"أنا وأنت في الجنة" . وحين سألها لماذا، أجابت بأنه رزق بمثلها فشكر، وبليت هي بمثله فصبرت، والصابر والشاكر في الجنة "
والحقيقة أن مثالب صالح لم تكن كثيرة عندما تمعن التفكير في أيامها معه، مقارنة بآخرين تعرفهم من أقاربهم ومعارفهم. بل العكس من ذلك، كان كثير الحسنات، لولا حكاية الشرب هذه، والسفر الكثير إلى الخارج، الذي أدمنه في فترة من الفترات، وخاصة إلى مصر وشرق آسيا في البداية، ثم إلى المغرب وأوروبا بعد ذلك، والتي لم يكن يؤوب منها حتى يعود إليها ثانية. وعندما كانت تسأله عن سر هذه السفرات الكثيرة، كان يتأفف وهو يتذرع باحتياجات العمل وضغطه الذي لا يهدأ، ولكن عينيه الصغيرتين الحادتين كانتا تومضان ببريق غريب، وينفخ دخان سيجارته الكثيف في أرجاء الغرفة، وتفتر شفتاه الداكنتان الغليظتان عن بسمة سريعة غامضة لم تكن تجد لها تفسيرا، ثم لا تلبث أن تنسى المسألة بعد حين، أو تضغط على نفسها كي تنسى، وتخنق كل تلك الشكوك التي تنخر صدرها، والتي كانت تزداد وتصبح كالنار في الصدر بعد كل جلسة تجمعها بجاراتها وصاحباتها، وخاصة جارتهم أم فهد، والتي تكاد تكون شكا مجسدا على شكل امرأة.
بل إن صالحا في الآونة الأخيرة لم يعد يشرب إلا قليلا، وغالبا في ليالي الجمعة، وأكثر الأحيان بمفرده دون الذهاب إلى شلة أصحابه المعتادة، أو مجيء الشلة إليه، وعندما كانت تسأله عن السبب، كان يضحك باقتضاب، ثم يقول "اشتقت لك...هل من ضير في ذلك؟..فتبتسم بلذة ودلال، ولكنها تعلم في داخلها أن الطبيب قد حذره من مغبة الإفراط في الشرب، حين تبين أن وظائف الكبد لديه لم تكن بالدرجة المرضية تماما، بعد رحلة علاج سياحية إلى أمريكا، قبل حوالي خمس سنوات، لم يكن يحس بشيء حينها، ولكنه ذهب إلى "كليفلاند" ومستشفاها الشهير، تقليدا لأثرياء الطفرة الجدد، الذين أصبحت رحلات الفحص الطبي في بريطانيا وأميركا وألمانيا جزءا من الإعلان عن الثراء قبل أن يكون لحاجة حقيقية. كما أنها تعلم أن "البزنس" لم يعد جيدا كما في الأيام الخوالي. فبعد انتهاء حرب تحرير الكويت، كما أسموها، أو "الفضيحة" كما تحب أن تسميها، وكل تلك الأموال التي ذهبت أدراج الرياح، وبعد انخفاض أسعار النفط وارتفاع مديونية الحكومة وعدم وجود مشاريع ومناقصات جديدة، بالإضافة إلى عدم قدرة الحكومة على الوفاء بالتزاماتها كما في السابق، وكدت الحركة، وسكنت سوق العقار، بل وكافة الأسواق، وانخفضت أسعار الأسهم، ولم يعد صالح يجد نفسه مجبرا على ذلك الجلسات الاجتماعية المظهر، أو جلسات النفاق كما تسميها، والمكرسة لعقد الصفقات قبل عقدها بالفعل.
ومع الأيام، اعتادت علة مكوثه الليلي غير المعتاد في المنزل، وكانت مسرورة بذلك، ولكنه كان سرورا مشوبا ببعض القلق، فقد بدأ يتسرب إلى داخلها خوف من المستقبل رغم الثروة، وقلق من عودة أيام الفقر رغم أن كل شيء يوحي بأن أيام الفقر والمسغبة ولت يغير رجعة. فحساباتهم في بنوك أوروبا وأمريكا وحدها كافية لأن يعيشوا في بحبوحة إلى أجل غير منظور، ولكن هذا الإحساس بالخوف من المجهول لا يريد تركها، وهو إحساس لا تدري كنهه ولا هي قادرة على السيطرة عليهن رغم علمها بأن لا مبرر له.
وتمطت بكسل وهي تنهض من السرير، ثم تلفعت بروبها المخملي الأزرق البراق وهي تحس بلذة الدفء في جنباته، بعد احتواء لسعته الباردة الأولى، وأحكمت الغطاء على جسد صالح الهزيل، بعد أن أمعنت النظر لبرهة في آثار الكي الكثيرة على بطنه وظهره، وخاصة ذلك الأثر الكبير الذي يبدو بوضوح على مؤخرة العنق، وكأنها ترى هذه الآثار لأول مرة. وابتسمت وهي تذكر كلماته في أول رحلة لهم إلى لندن حين قال لها ضاحكا :" هل تعلمين يا لطيفة؟..أستطيع أن أميز ابن نجد من بين جميع أصناف البشر..." ودون أن يعطيها فرصة التعجب قال "انظري إلى مؤخرة عنقه، وسترين الدمغة النجدية...دمغة الجودة..كي على اتساع ريال الفضة العربي القديم لا تجدينه عند أي جنسية أخرى" ويضحك الاثنان بحبور أطفال قرية يكتشفون طعم الأيس كريم في أول رحلة لهم إلى المدينة، فيما يتحسس صالح مؤخرة عنقه وهو لا يزال يضحك.
اتجهت إلى النافذة الزجاجية الواسعة وبسمة صافية لا زالت تحتل ثغرها المرسوم بدقة فرشاة فنان من عصر النهضة، وأخذت تتأمل شوارع "العليا" الفسيحة الخالية في مثل هذه الساعة المبكرة من يوم الجمعة، إلا من بعض سيارات ساهرة تجوب الشوارع دون هدف، أو ربما لهدف لا تدري عنه، وقد غسلها رذاذ خفيف من مطر خجول ومغرور طال انتظاره، وأقيمت صلوات الاستسقاء بأمر الملك نفسه من أجله، فبدت لامعة وجميلة بشكل غريب في مثل تلك الساعة من ليل ينحدر نحو الهاوية. وطافت فكرة غريبة في ذهنها، ولكنها سرعان ما طردتها، أو هي قمعتها على رأي الدكتور سليم كزبرة.. لماذا يصلون صلاة الاستسقاء في أيام الموسم فقط؟ لماذا لا يجربون الصلاة في الصيف مثلا؟ ولم تستطع المضي الى الاخر في فكرتها تلك، فقد سيطر عليها الهلع لمجرد التفكير بذلك، فطردتها بعجلة وهي تستغفر الله كثيرا، وصورة هيفاء عصفور تحتل ذهنها كله..
ثم نظرت الى السماء الصافية في الاعلى، وغابت مع ضوء نجمة بعيدة شديدة اللمعان في الأفق الغربي، كأنها الكوكب الدري في الأفق، وطاف ابو فراس في ذهنها وهو يشتكي متألما: "اذا الليل أضواني بسطت يد الهوى، وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر"، فأحست برغبة عارمة في البكاء، ومسحت دمعة صارعت حتى استطاعت الفرار من سجن عينها. أخذت نفساً عميقاً، فوجدت لذة غريبة تسري في جنباتها وهي ترى كل تلك النجوم الساطعة، وقد زينت تلك السماء الصافية الغارقة في ظلام ساحر يستوعب كل أبعاد المكان والزمان. وأحسست لبرهة أنها جزء من هذا الكيان الساحر، وأنها نجمة في سلسلة من نجوم هائمة في ملكوت لا أول له ولا آخر، بل تصورت للحظة أنها "فينوس" ذاتها وقد تاهت دلالا على بقية النجوم بجمالها وألوانها الزاهرة. ثم لم تلبث هذه البرهة ان تنجلي بالسرعة ذاتها التي حلت بها، وهي لذلك من الآسفين..
لم تتغير السماء ولا نجومها ولا فراقدها ولا كواكبها، هي السماء ذاتها& والنجوم ذاتها التي كانت تراها في القرية الصغيرة، ولكن كل ما تحت تلك السماء وتظلله النجوم قد تغير وتحول. ربما لو كانت هي نجمة من نجوم السماء تنظر الى الارض لطافت في ذهنها الفكرة نفسها، حيث تصبح الارض هي السماء، وتصبح السمءا هي الارض، وتنتفي الفروق بين الاعلى والاسفل، ولا يعود إلا كون بلا أبعاد.. ربما..
وطردت أيضاً هذه الفكرة العابرة الثقيلة من خيالها، وفتحت النافذة لبرهة صغيرة، وأخذت تستنشق بعمق ولذة هواء باردا مشبعا برطوبة في غاية النعومة، ثم اغلقت النافذة باحكام وهي تعود الى ذاتها.. يا الهي ما اجمل الرياض في الشتاء وبعض اسابيع من الربيع، بل ما اجمل الدنيا كلها في تلك الايام! فلا يقارن بقسوة الرياض وسمومها في الصيف، الا جمالها أيام النسيم والمطر. ولكن " لولا القبح ما كان الجمال، ولولا الخريف ما كان الربيع". وابتسمت وهذه الخاطرة تعبر ذهنها، وتأخذها لحظة اعتداد بالنفس، فقد اصبحت فيلسوفة دون ان تدري.. ولم لا؟ ألم يقل أرسطو ان الفلسفة ما هي الا لحظة اندهاش وتعجب؟ كم كانت تتمنى لو انها قادرة على قرض الشعر، فربما جادت قريحتها بانشودة مطر تتحدى بها أنشودة السياب البصري وبكائيات بويب، وشتائيات نزار الدمشقي خلف الأبواب الموصدة، أو تخرج بقصيدة "عدت يا يوم مولدي" تتحدى بها بيرم وآهات فريد. رباه! لقد& تغيرت الرياض كثيرا منذ مجيئها اليها لاول مرة، بل وفي بضع سنين معدودة، ولم يعد من الممكن تحديد أين تبدأ وأين تنتهي، لردجة ان الرياض لم تعد هي الرياض، بل تحولت الى "رياضات" منذ مجيئها اليها لأول مرة.
***
&
&
دار الساقي
Dar al SAQI
26 Westbourne Grove - London W2& 5 RH
tel: 00 44 20 7221 9347&&& Fax 00 44 20 72297492
التعليقات