شعار اوروبا الموحدة
الاتحاد الاوروبي في مكان والاوروبيون في مكان· من تراه اذا ينجح في انزال المؤسسة من البرج العاجي الى··· الأرصفة؟ ان الذي يلاحظ وجود تلك الفجوة هو رئيس المفوضية الاوروبية رومانو برودي الذي يطلق خمس قواعد لاصلاح المؤسسة: الشفافية، المشاركة، المسؤولية، الفاعلية والتماسك،
&مراهنا على احداث ثورة في عمل الاتحاد من الآن وحتى عام 2004 حيث الموعد الكبير لإحداث التعديلات المؤسساتية· لكن المهم بالنسبة لـ برودي هو بناء الثقة بين المواطن والمؤسسة، وإلا فإن مصير الاتحاد الاوروبي لن يختلف البتة عن مصير الاتحاد السوفييتي·
ان الساسة هم الذين يعملون، والخبراء الماليون، ورجال القانون، أين الآخرون؟ وقبل اشهر طرحت احدى الدوريات الالمانية هذا السؤال للجدل، والمثير للذعر في ان: اين هو الوجدان السياسي في هذه المؤسسة السياسية؟
بالتأكيد لا يعني هذا التعبئة الرومانسية والا انفجرت اوروبا في الحال، فحتى البراغماتية لها اصولها ولها قيمها، خصوصا عندما يفترض الوضع السياسي العتيد تفكك الشخصية القومية، وزوال التاريخ بطبيعة الحال، واذ يكبر حجم الجغرافيا يتقلص حجم السيادة، متناقضات قد تكون خلاقة، كما تقول الـ فيجارو الفرنسية، لكن المسألة تقتضي اقامة علاقات دافئة بين الفرد و المؤسسة وإلا فإن المواطن الاوروبي، وسواء كان في بريطانيا أم في الدانمرك، مرورا باللكسمبورج، سيتعامل مع الاتحاد الاوروبي على انه حالة امبريالية تسحق الجميع دون استثناء ويفترض الكفاح ضده بكل الوسائل·
ماذا اذا علمنا حجم الضغط الاميركي على القارة العجوز، فوزير الدفاع الاميركي رونالد رامسفيلد والذي يعتبر منظر الادارة الراهنة، وصف، في كلام أخير له اوروبا بالحالة العقارية، مشككا بوجود كيان اوروبي· هذا يعني ما يعنيه، ولقد بدأ مناصرو الاتحاد يبحثون عن نقاط الخلل في المؤسسة الاوروبية ليعيدوا النظر فيها قبل ان يفاجأوا بأن الاتحاد الاوروبي قد يتداعى، في لحظة ما، مثل الاتحاد السوفييتي أو مثل الاتحاد اليوغسلافي·
الرئيس الفرنسي السابق شارل ديجول، وان كان مأخوذا كثيرا بقوة التاريخ، وهو الذي يعتبر عراب الاتحاد، انتبه في وقت مبكر جدا لهذه النقطة· صحيح ان محاولة اقناع الاوروبيين بمزايا اوروبا الموحدة قد يستغرق قرونا، وصحيح ان اقامة المؤسسات ووضع الناس أمام واقع ملموس يقلص تلك المدة الى عقود، لكن الصحيح ايضا وايضا ضرورة جعل الفرد في القارة يشعر بأن الوحدة هي قضيته الشخصية في عالم يتجه اكثر فأكثر نحو التكتلات· هذا لا يعني أبدا اغفال العامل الفني، إنه لأمر مثير ان يتقبل الفرنسي الاغنية الاميركية اكثر مما يتقبل اغنية الجارة الالمانية، فيما لا يشعر النمساوي أو الايطالي بعاطفة تذكر حيال الجزر البريطانية، اي ان التصدع يبدو كما لو أنه في الاساسيات الفلسفية لقيام القارة التي نشأت فيها دول طالما كانت الحدود فيما بينهما هي حدود النار·
المزرعة اليهودية
بالطبع، كانت رئيسة المفوضية الاوروبية السابقة اديث كريسون مثالا رديئا لما ينبغي ان تكون عليه الحاكمية الاوروبية· اقامت نوعا من المزرعة اليهودية داخل المؤسسة الاوروبية، والنتيجة فضائح بالفساد تمت لملمتها بسرعة حتى لا ينعكس ذلك بصورة سلبية على المزاج الاوروبي القابل بسرعة للتقلب أو للانكسار·
لكن المعالجة كانت حاسمة على كل حال، وجرى الاتفاق على الاختيار الدقيق الذي تتقاطع فيه النزاهة مع الفاعلية، والواقع انه جرى انتقاء الايطالي رومانو برودي لرئاسة المفوضية الاوروبية لسبب آخر، فالرجل ليس ببيروقراطيا بل انه صاحب افكار، والمؤسسة الاوروبية باتت بحاجة الى الافكار لتظل في حالة بالغة على المؤسسة رغم انه شغل المنصب في مرحلة ضبابية، إذ قال بالتطوير الديناميكي المتواصل لمفهوم الاتحاد الاوروبي بحيث لا يصيبه الترهل كون الساسة في اوروبا يصابون بالصدأ السريع، ربما نتيجة الجاذبية المخملية والمعقدة للسلطة·
رومانو برودي كتب أخيرا في الصحافة الاوروبية عن اعادة اوروبا الى الاوروبيين· العنوان مؤثر، وهو يعكس مدى الفجوة التي كان يستغلها معارضو الاتحاد بصورة منهجية وساحقة، يقول ان القادة السياسيين في القارة يواجهون مفارقة غريبة، فمن جهة ينتظر منا المواطنون ايجاد حلول كبرى للمشكلات التي تواجهها مجتمعاتنا، ومن جهة أخرى، فهم يبدون حذرا متزايدا حيال المؤسسات الاتحادية وحيال السياسات التي تعتمد في هذا المجال،والكثيرون منهم يتعاطون بلا مبالاة مع المشروع لاسيما ازاء المؤسسات التي لها علاقة بالشؤون اليومية للمواطنين·
وهو يلاحظ ان النظام السياسي للاتحاد معقد الى الحد الذي يجعل من الصعب على المواطن العادي ان يفهمه، هذا فضلا عن ان ثمة شعورا لدى الناس بأن صوتهم ليس مسموعا داخل تلك المؤسسة الغامضة أو على الأقل بأنهم لا يمتلكون الوسائل التي تجعل صوتهم مسموعا· واذا كانت هناك من حاجة الى دليل اضافي، فهذا ما اظهرت المشاركة الضعيفة في الاستفتاءات الخاصة بالاتحاد، وكان آخر مؤشر على ذلك ما خرج به الاستفتاء الايرلندي حيث كان لأحد القرويين ان يقول لمراسل تلفزيوني: لا أتصور ان العظمة الاوروبية ستقدم الشعير لابقاري، فيما قالت سيدة في مدينة دبلن في منتصف العمر انه تفضل ان تصبغ شعرها في يوم الاستفتاء بدلا من ان تذهب الى صندوق الاقتراع، هذا لتبدي ملاحظة من وحي ما ستفعله هي في ذلك النهار: عبثا يحاولون ان يصبغوا شعر هذه القارة العجوز·
هذه المشاهد التقطت على الشاشة يوم الاستفتاء، فالناس كانوا بعيدين جدا عن القضية، فيما يقول بروديانه حان الوقت لمواجهة هذه المشكلة بحزم وبطريقة يتم التوافق عليها، مشيرا الى ان الاتحاد الاوروبي تبنى في 25 يوليو 2001 كتابا أبيض حول اصلاح الحاكمية الاوروبية وبالصورة التي تجعل عمل الاتحاد اكثر شفافية واكثر بساطة واكثر ديموقراطية·
2004 هو الموعد
برودي اشعل الجدل في الارجاء الاوروبية من أجل تقديم وبلورة الافكار الخاصة بمستقبل الاتحاد، وهذا يأتي في سياق الاستعدادات الخاصة باحداث تغييرات مؤسساتية يقتضي اقرارها في عام ،2004 ولم تكتف المفوضية الاوروبية باطلاق الشرارة، بل انها طرحت مقترحات يمكن ان يتمحور حولها الجدل، فنظرية برودي تقوم على رفض العمل في الضباب، بل ان كثيرا يفترض ان يتم في النهار الكبير حسب تعبيره هو شخصيا، لافتا الى ان أهم قاعدة للتطوير وللتفعيل هي التي تقوم على الثقة· يقول رئيس المفوضية الاوروبية: سنحاول ان نجعل من كل اوروبي معنيا باوروبا، فنحن، وبطبيعة الحال، لانصنع الاتحاد من أجل مواطني كواكب، أو قارات أخرى·
وعلى هذا الاساس، فقد اعلن الاستنفار داخل المفوضية من أجل اعداد خطة سريعة ومكثفة للتواصل مع الناس، ومع مشكلاتهم، ولابد من مناقشة الخائفين أو الذين مازالوا متمسكين على طريقة القرن التاسع عشر بذلك النوع من القوميات الذي يلغي القوميات الأخرى·
القواعد الخمس للاصلاح
ويرى برودي انه قبل الشروع في اصلاحات مؤسساتية جديدة، ينبغي ان نفعل كل ما بوسعنا لتغيير طريقة عملنا مع اتخاذ الاجراءات الخاصة بذلك، وهذه، قبل كل شيء قضية ارادة سياسية، ليوضح ان بالإمكان احداث سلسلة من الاصلاحات الاساسية دون الحاجة الى معاهدات أو اتفاقات جديدة، هذا مع وجود جهات اوروبية ترى انه من الضروري اطلاق اصلاحات مؤسساتية أكثر عمقا في عام ·2004
وفي نظره فإن اصلاح حاكمية الاتحاد تعني اصلاح عمل المؤسسات الاوروبية على القواعد الخمس التالية: الشفافية،المشاركة، المسؤولية، الفاعلية والتماسك·
بالطبع ليس كل اوروبي هو أرسطو أو افلاطون فكل فكرة مستقبلية تبدأ بالخيال· تطير كثيرا، لكنها لا تلبث ان تحط على كتفي الواقع· برودي يدرك ذلك جيدا فهو يرى ان عمل الاتحاد ينبغي ان يكون اكثر سهولة لفهمه وبالصورة التي تجعل الجمهور يدرك اكثر ما هو تأثير اوروبا على حياته اليومية· وقد اقترحت المفوضية آليات جديدة تسمح لمجالس المناطق وللسلطات المحلية المشاركة بصورة اكثر فاعلية في مسار القرار، إذ يجب ان يثق المواطنون بالقرارات التي تتخذ باسمهم والتي يفترض ان يفهموها أولا·
ويعتبر برودي انه مهما كانت طريقة وضع مجموعة القوانين يقتضي ان تكون قابلة للفهم، وعلى التشريعات ان تركز على العناصر الاساسية دون ان تضيع في التفاصيل· وبعبارة أخرى يفترض ان تدرس التشريعات على الأرض لا ان يتم اقرارها أولا ثم يجري اختبارها فإما ان تستبقى أو ان تلغي أو ان تعدل· هذا يحدث ردة فعل نفسية سلبية للغاية· كل شيء يجري بصورة منهجية مع اعتبار ما يفكر به الناس لا تقول به اليوتوبيا·وعلى هذا الاساس، على مجلس الوزراء والبرلمان الاتحاديين التركيز اكثر على التوجيه السياسي وعلى مضمون السياسات، مع ترك مسألة التنفيذ للمفوضية·
برودي يخرج بتلك الفكرة التي طالما أثارت مخاوف غلاة القائلين باطار اتحادي صارم، فهو مع تعزيز اللامركزية، على ان يرافق ذلك التشجيع على قيام تعاون أكبر بين السلطات الوطنية والمناطقية والمحلية على أساس أهداف يحددها اتفاق مشترك·
الوصول عبر السراديب
بالدرجة الأولى يقتضي توضيح عمل النظام، فاستمرار الوضع الحالي يعني ان الكثير من الاوروبيين يشعرون ان الوصول الى الاتحاد لا يتم الا عبر السراديب· هذا يعني سقوط الثقة، وبالتالي نشوب صراع لابد ان يأخذ منحى انفجاريا ذات يوم: نحن لا نبني دولة اتحادية لكي نقوضها، ملاحظا ان المسألة لا تتعلق بـ فانتازيا القوة وانما بالمفهوم المستقبلي لمنطق القوة الذي يقوم على التفاعل الخلاق بين الفرد والمؤسسة·
برودي يرى ان السنوات الثلاث المقبلة هي سنوات الفرصة الأخيرة، انه متفائل بطبيعة الحال، وان كان يلاحظ ان الاستجابة تبدو بطيئة في بعض الاحيان: نفكر مثل السلحفاة ونقفز مثل النمر لا مثل الارنب الذي يقفز دائريا كما في نادرة الكاتب الفرنسي المعروف لا فونتين·
بعيدا عن الآراء المعلنة ثمة من يحذر من انهيار الاتحاد إذا ظل في البرج العاجي: على أولئك الاساقفة الأجلاء في بروكسل ان يسمعوا ما تقوله الارصفة· تكتب ذلك الـ فايننشيال تايمز·
برودي يفعل هذا الشيء ملوحا بالاستقالة إذا لم تؤخذ افكاره بالاعتبار وينزل الاتحاد من البرج العاجي الى الرصيف لكي يكون للناس لا للتاريخ·&(عن صحيفة "الاتحاد" الإماراتية) ، 26 آب (غسطس) 2001