مازال الحديث جارياً عن ظاهرة الدعاة الجدد، تلك التسمية التي أطلقت، ومازالت، على ثلة من الوعاظ الذين لمعوا، أو لُمعوا (إن سمحنا لأنفسنا الكلام بذهنية أصحاب "نظرية المؤامرة")، في محيط الفضائيات العربية، على مدار السنوات القليلة الماضية.

الموضوع حساس، حتى الهشاشة؛ ولأسباب عدة، ليست سياسية أو اجتماعية أو ثقافية..أو حتى عقائدية فحسب، وإنما، وهذا هو الأهم، لأسباب تتعلق ب"البُعد الإعلامي"؛ فالإعلام غدا، في وقتنا هذا، "الساحة" التي تجمع، دون خجل، كافة الأقطاب المتنافرة في ملعب واحد، وهو، فوق ذلك، أس الكثير من الظواهر التي ألمت بمجتمعاتنا العربية مؤخراً، إن سياسياً أو اجتماعياً أو ثقافياً.

ثمة جانبان ينبغي التركيز عليهما عند معالجة هذه الظاهرة الجديدة التي هي جد كارثية، رغم هشاشة حساسيتها، ومقلقة، وتشي بدلالات رمادية يصعب معها اختزالها في نتيجة أو دلالة واحدة.

هذان الجانبان هما "المنهج" الذي يطبقه الدعاة الجدد في توصيل رسالتهم الدعوية، ثم طبيعة "محتوى" الخطاب الدعوي ذاته.

كيف يلقي الداعية الجديد خطابه الدعوي؟ ما محتوى خطابه؟ قد تبرز إجابات دالة إذا عقدت مقارنة بين مدرستين عرفتها أكثر المجتمعات العربية، في العصر الحديث، الأولي يمثلها نماذج من قبيل الشيوخ محمد متولى الشعراوي وعبد الحميد كشك، والثانية ممثلة في الدعاة الجدد، كما يظهرون في أسماء من قبيل خالد الجندي وعمرو خالد وطارق السويدان.

كيف اختلفت هاتان المدرستان، من حيث الأداء والمحتوى، في الخطاب الدعوي الموجه؟ بما تشي هذه الاختلاف من دلالات اجتماعية وثقافية وسياسية..وربما دينية؟

مع الشيخ الشعرواي والشيخ كشك، شريحة عريضة من الجمهور المتابع المشدوه بخطابي الشيخين كانت تأخذ وتصب في الطبقة المتوسطة المصرية، وربما الأقل، وخاصة تلك التي لم تحظ من التعليم إلا بالحد الذي يسمح لها بفك الخط وقراءة صفحة الرياضة أو الفن والفنانين أو الحوادث والقضايا، أو حل الكلمات المتقاطعة، في الجرائد اليومية. ولسنا في حاجة إلى التذكير بهذه العداوة المستحكمة بين جمهور المثقفين المصريين، بالتحديد، وبين الشيخ الشعراوي مثلاً ؛ لا لأنه كان "إسلامياً حكومياً"، كما يلمح البعض، وإنما لسطحية مدرسة الشيخ، وتبسط منهجه في تفسير القرآن الكريم؛ والمثقفون، على اختلاف مشاربهم الفكرية، وتنوع تياراتهم الثقافية أو السياسية، في أي زمان أو مكان، يمقتون التسطيح والتبسط أشد المقت، بالذات في أمور بحجم تفسير القرآن الكريم؛ نخبويون بطبعهم.

الجمهور المستهدف، عند الدعاة الجدد، يختلف، طبقياً ومظهرياً وتعليمياً. انظر هذا الشاب الذي تبدو عليه أمارات النعمة والرفاهية والنعومة، ثم انظر هذه الشابة التي تطفو على محياها علامات الترفع والخفة والتمكن من التصرف والتحرك، بثقة، في مجتمع يتمايز، لا اقتصادياً فحسب، بل وحتى سلوكياً ولغوياً وتعليمياً. انظر له، وانظر لها، وستدرك، حتماً، طبيعة الجمهور المستهدف الذي يتابع الخطاب الدعوي لأي داعية جديد، عمرو خالد، مثلاً، أو طارق السويدان.

لذا، لا غرابة أن تجد الدعاة الجدد وقد ذاع صيتهم، ودوت كلمتهم، في النوادي والتجمعات الراقية التي لا يؤمها سوى أبناء الطبقة العالية في السلم الاجتماعي.

ولئن اختلفت طبيعة الجمهور المستهدف، طبيعي أن يختلف الأسلوب الذي يعتمده الداعية الجديد في توصيل خطابه الدعوي.

إذ يستخدمون لغة الجسد التي يعرفون حجم مكانتها وقدرتها على التأثير في الجمهور المستهدف، ويوظفون تقنيات الإخراج المسرحي، في المشهد الدعوي ذاته، بتفاصيل إضاءة دقيقة، وإيماءات ديكورية جذابة، تجعلك تتساءل، مضطراً، عن اسم مخرج العرض الدعوي، ولا مانع من مقارنة مهاراته وقدراته بزميل له يخرج العرض الدعوي لداعية آخر. فهناك داعية يلقي خطابه واقفاً، أمامه مجموعة محدودة العدد من النظارة الشباب، من الجنسين طبعاً، مختلطين طبعاً، جالسين على كراسي، لا الأرض، كما كان يحدث مع مريدي الشيخ الشعراوي أو الشيخ كشك، أو أي شيخ أو إمام منذ أيام الرسول الكريم وحتى وقتنا هذا. ثم هناك داعية آخر يلقي خطابه من وراء منضدة أنيقة على منصة أمامها ما يشبه المدرج الجامعي الذي يخلط، عن عمد، في تركيبة الجلوس بين الجنسين، دون إحساس بالتوتر أو الريبة من شبهة الاختلاط في سياق ديني كهذا. وهناك أيضاً الداعية الذي يدير خطابه الدعوي من داخل سيارة جيب أمريكي، في طريقها إلى رحلة خلوية، مع صحبة خفيفة الدم، تجيد تطعيم عربيتها بمفردات إنجليزية، فتبدو متمكنة من الإنجليزية قدر تمكنها من العربية، وربما أكثر.

ثم قبل كل هذا، المسجد، المكان الدعوي التقليدي منذ أيام الرسول الكريم حتى بزوغ الظاهرة تلك، أخفي (بضم الهمزة) من المشهد الدعوي تماماً.

لم يعد مهماً أن يلقي الداعية درسه أو يدير خطابه من المسجد؛ هناك أماكن كثيرة، أكثر جاذبية وأريحية، ترحب بالخطاب الدعوي وبملقيه ومتلقيه (دعك الآن من مسألة تمكن الدعاة الجدد من استخدام أداة العصر في تسويق المعلومة ونشرها، ألا وهي الإنترنت؛ فهذه النقطة بالتحديد، جذورها وفروعها متشعبة، وتستدعي مقاماً أوسع ومدخلاً مختلفاً).

واختفاء المسجد من الخطاب الدعوي الجديد ربما ساعد عليه طبيعة المناخ الإعلامي الذي تتسيده وتديره ثقافة وصناعة الفضائيات. الإعلام هنا ضليع في هذا التحول.

هكذا تعبر الظاهرة عن نفسها.

فمع اختلاف الأسلوب، تختلف طلعة الداعية على المشهد، بل ويتمايز بملبسه (لماذا لا نلاحظ تلك الأناقة وذاك الحرص التام على التزام أحدث خطوط الموضة في رابطات العنق والقمصان والبذلات الزاهية الألوان التي يرتديها الدعاة الجدد؟). ومع اختلاف أسلوب الداعية وطلعته على المشهد، وتمايز ملبسه أثناء الأداء الدعوي، طبيعي أن يختلف "محتوى" خطابه الدعوي.

مع الشيخ الشعرواي، ارتكز محتوى الخطاب الدعوي على تفسير القرآن الكريم. كان الشيخ حريصاً كل الحرص على وصف جهده الدعوي في تصديه لتفسير القرآن بأنها مجرد خواطر، لا تفسير. هل لكي يتفادى مسئولية ما تحملها من قبلها جمهور المفسرين التراثيين؟ لا نقطع بإجابة دقيقة. على أي حال، هذا المحتوى جلب عليه، دون قصد ربما، سخط المثقفين؛ للسبب السالف الذكر، وحقق له، ربما عفوياً ودون ترتيب أو اتفاق مسبقين، انسجاماً مع الحكومة والبسطاء (لم يعرف في سيرة الشيخ حبه للسلطة أو سعيه وراء المناصب الرفيعة؛ بل العكس، هناك تلك الحادثة التي يرويها كثيرون، من مريديه ومناوئيه، عن سجوده لله وتقبيله للأرض، حمداً وشكراً، يوم تأكده من خبر هزيمة عبد الناصر يوم 5 يونيو 1967، وهناك أيضاً منْ يتحدث عن استقالته من منصب وزاري في عهد السادات، فقط لرفضه ارتداء الزي الغربي ممثلاً في البذلة والتزامه بارتداء الجبة والقفطان أو "الكاكولا"، باصطلاح الأزهريين).

ثم شد هذا المحتوى، رغم تعقده وثقله، انتباه الجمهور، المحدود في حظه من الثقافة والتعليم، ونجا تفسير الشيخ، بأسلوبه المتبسط لمحتوى معقد، من أي ردة فعل نقدية ربما تجره، والرأي العام بأكمله، إلى حقل ألغام من الرأي والرأي المضاد، تذكرنا، مجرد التذكير لا أكثر، بفصول النزال العقائدي السياسي الدموية، مثل الفصل المسطور في التاريخ الإسلامي باسم مسألة "خلق القرآن"، وهي المسألة التي تحولت إلى محنة كان بطلها الإمام أحمد بن حنبل، وخاضها ضد المؤسسة الدينية الرسمية، والتي كان الجاحظ المعتزلي يحرك كثيراً من خيوطها، إبان الدولة العباسية الثانية، في عهد الخليفة المأمون.

نجا الشيخ الشعراوي من نزال كهذا أو من أي نزال شبيه له، رغم أن محتوى خطابه الدعوي انصب على تفسير القرآن؛ لكنه لم ينزلق إلى أي نزال فكري ثقيل الوزن تكون أرضيته تفسير القرآن الكريم، عدا ملاسنة كانت تظهر من وقت لآخر على صفحات بعض الجرائد والمجلات، حول إشكاليات اجتماعية أكثر منها فكرية، وكانت تصدر أساساً من جانب المثقفين الرافضين للشيخ وخطابه الدعوي شكلاً وموضوعاً. (هذا في حد ذاته جانب إعجازي في الخطاب الدعوي للشيخ الشعرواي، ويحتاج إلى قراءة متأنية؛ فقد ركز الشيخ على القرآن الكريم، ومع ذلك مرت تجربته الدعوية التفسيرية الانطباعية دون ضجيج فكري يذكر، أو آثر يذكر في حركة إصلاح الخطاب الديني الإسلامي المنشودة منذ مطلع القرن التاسع عشر).

ركز الشيخ الشعرواي على القرآن الكريم، بأسلوب متبسط بعيد عن التعقيد والعمق الأثيرين لدى المثقفين النخبويين، وفسر أو قال خواطره، وأفرد التلفزيون الرسمي المصري، لا بمحض "الصدفة"، نافذة أسبوعية لبث هذه الخواطر، ثم انتهى الخطاب الدعوي بمنتج ضخم حمل العلامة التجارية المعروفة، حالياً، في سوق أدبيات الدعوة التقليدية ب "مكتبة الشعراوي"، وهو منتج مازال يحقق ضمن منتجات أخرى، حتى الآن، أعلى المبيعات للدار التي تحتفظ بحق طباعة المكتبة ونشرها وتوزيعها، في شكل كتب وشرائط كاسيت وفيديو.

السؤال: الخلاصة الفكرية التي خلفها الخطاب الدعوي للشيخ الشعراوي أين هي من الوعي الجمعي الحاضر، وبخاصة لدى المجتمع المصري؟ هل أسهم الجهد الدعوي للشيخ الشعراوي بدور ما في تجديد الخطاب الديني، هذا المطلب الذي بات عنواناً طناناً لكثير من الأدبيات والمؤتمرات والطروحات داخل أكثر المجتمعات العربية؟ ما طبيعة هذا الدور وحجمه إن كان ثمة تأثير حقيقي يذكر للجهد الدعوي للشيخ الشعراوي؟

مرة أخرى، لا نقطع بإجابة.

مع الشيخ عبد الحميد كشك، كان محتوى الخطاب الدعوي فجاً إلى حد ما، شعبياً إلى أبعد حد، ميالاً للنغمة الانفعالية في أكثر جوانبه، وتحريضياً في مجمله. كانت مادة المحتوى ذاتها تركز على أعلام الطرب المصري في وقتها، وترصد بشكل خاص الرموز السياسية، وعلى رأسها السادات ومن قبله عبد الناصر.

هذه المادة حققت (في ظاهرة إعجازية أخرى تحتاج إلى قراءة متأنية أيضاً) صيتاً ذائعاً للشيخ كشك من كثرة سب أعلام الطرب والشعر الغنائي، وعلى رأسها أم كلثوم وعبد الحليم، وبالطبع من شتائم التكفير والتأثيم التي كان يكيلها فوق رأس السادات وعبد الناصر من ميكروفون جهور الصوت، ومن فوق منبر مسجد، يتبع رسمياً وزارة الأوقاف المصرية (وهنا المفارقة!)، حمل اسم الشيخ كشك نفسه، اعتبارياً، بعد أن كان يحمل اسم "عين الحياة" (أخت الخديو إسماعيل)، كل هذا في قلب حي شعبي بالقاهرة، هو حي دير الملاك (أحد الأحياء الشعبية التي يزاحم فيها المسلمون والأقباط بعضهم بعضاً). كان الشيخ يكيل، في سلاطة لسان لاذعة، كل الشتائم والسباب ضد عبد الناصر والسادات، لكونهما أكبر "طواغيت العصر" في مصر.

كان محتوى الشيخ كشك، دون شك، مثيراً، واختار لنفسه وترين حساسين يلامسان عصب الحياة عند الناس، الفن والسياسة؛ فنجح، باقتدار، في شد انتباه جمهور عريض، مثقل بهموم العيش في زمن ما بعد الحرب؛ جمهور رأى في مادة الشيخ كشك تنفيسا أسبوعياً، رخيص الثمن، بل مجانياً إن شئنا الدقة، يمارسه قبل كل صلاة جمعة، فيفكك (هكذا توهم) متاعب وآلام ذاك الزمن الثقيل الذي يعقب كل حرب مريرة تضع أوزارها.

والغريب أن أكثر مريدي الخطاب الدعوي للشيخ كشك، كانوا من أشد المعجبين لطرب أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، بل ومتابعين، عن قرب وإعجاب شديدين، لظاهرة المطرب الشعبي أحمد عدوية التي تزامن ظهورها وهذا الخطاب التعبوي التحريضي.

لقد لمس الجمهور في الشيخ كشك "قدرات فنية"، فطرية غير مفتعلة، على الإضحاك والسخرية، قدرات قلما تتوافر إلا لدى رموز الكوميديا الاجتماعية السوداء الكبار من أمثال نجيب الريحاني وعلى الكسار.

يوازي ذلك ملحوظة أبداها بعض المهتمين بدراسة حركات الإسلام السياسي، في الشرق الأوسط، إبان عقد الثمانينيات، وعلى رأسهم الكاتب البريطاني ديفيد هيرست، وخصوصاً في ختام حقبة مصر الساداتية؛ إذ لم يظهر، لمحتوى الخطاب الشيخ كشك، على براعته الانفعالية ومهارته التحريضية، أي أثر في فكر منفذي عملية اغتيال السادات، بوصفها الرمز الرامز لتصاعد هذه الحركات ووصولها إلى ذروة العنف الدموي. بقول آخر، لم يبد أصحاب الفكر الجهادي، في مصر الساداتية، أي اهتمام يذكر بمحتوى الخطاب الدعوي للشيخ كشك، خاصة إذا قارناه بتأثرهم بفكر أبي الأعلى المودودي أو الشيخ سيد قطب.

هل كانوا يعتبرون الشيخ كشك مهرجاً خفيف الدم أكثر منه محرضاً؟ لا نملك، حقيقةً، دقة الإجابة.

وماذا عن محتوى خطاب الدعاة الجدد؟

من الوهلة الأولى، يمكن لمتابع خطاب الدعاة الجدد أن يلاحظ على محتواه نقطيتين أساسيتين. النقطة الأولى هي الابتعاد عن السياسة والفن، كشخصيات أو أفكار (الوترين الحساسين اللذين كان يضرب عليهما خطاب الشيخ كشك). أما الثانية فتكمن في تجنب الخوض في المسائل العقائدية أو الفقهية (التي قد تبرز عفواً أو قصداً لو أن خطابهم عالج تفسير القرآن الكريم مثلما عالجه الشيخ الشعرواي في خطابه).

خطاب الدعاة الجدد ينزل إلى الإشكاليات الاجتماعية التي تمس تفاصيل الحياة اليومية عند الناس، خصوصاً عند فئة الشباب.

يركزون على أفكار التغيير، لا بمفهومه الجمعي أو الثقافي أو السياسي، وإنما بمفهومه الفردي، لا بأسلوب تحريضي صدامي، بل بأسلوب حواري يعتمد على محاولة الإقناع والاقتناع. في خطابهم، تجد تساؤلات لا تثير معها أي قلاقل سياسية ولا تهدد السلم الاجتماعي: كيف نغير من أنفسنا؟ كيف نتخلص من السلبيات، ونكتسب الإيجابيات؟ كيف نستثمر طاقاتنا؟ كيف نبدع؟ كيف نبتكر؟ كيف نضع لأنفسنا "خطة عمل" و"قائمة أهداف" واستراتيجية لتنفيذ هذه وتلك؟ كيف ندير الوقت؟

إنها أفكار تذكرنا بالمدرسة الأمريكية في إدارة الأفراد والموارد البشرية.

عناوين تبدو جذابة، لافتة للحواس، جديدة على الأسماع وعلى الثقافة الشعبية، والكلام فيها كثير ومتنوع ويأخذ من مصادر متباينة تعفيهم من عناء الالتزام بخط أو منهج فكري محدد.

فلا نقد أو سباب لرموز السياسة أو الفن، كما كان يفعل الشيخ كشك، ولا تحمل لمسئولية، تنوء بها الجبال، في التصدي للقرآن الكريم وتفسيره، ولو بمنهج انطباعي، وتحليل لغوي متمكن وعفوي، مثلما برز عند الشيخ الشعرواي. هناك مناطق أخرى أسهل تناولاً، أشد جاذبية، أكثر تخففاً من المسئوليات الأدبية والمعنوية التي يتحتم قبول تحمل مسئوليتها، بشجاعة وجرأة، لو أن زللاً ما وقع في تفسير آية، أو خطأ ما اقترف في الاجتهاد أو استنباط حكم فقهي آني.

خطابهم يلامس الثقافة الإدارية، في بعدها البشري، ولاسيما بمفهوم المدرسة الأمريكية وأفكارها.

ولأن الفرد، أي فرد، هو مدار الخطاب الدعوي وهدفه لدى الدعاة الجدد، فلا بد أن تكون المادة التي يستقون منها الأمثلة والنماذج الحية لخطابهم الدعوي مادة مثيرة، درامية، توفر عناصر التشويق والمتعة والغرائبية، بعيدة عن الأفكار المجردة، نائية عن أجواء التنظير المملة والمعقدة والثقيلة على نفوس الجمهور، أياً كان مستوى تعليمه أو رغبته في متابعة الخطاب والدوام على متابعته.

كما أن محتوى كهذا، خفيف وسهل المنال، يعفيهم من الدخول في محراب العلم بمعناه الشامل، ويستثنيهم من واجب التفاني في تحصيل العلم والمعرفة، والتزام هذا المحراب، في تواضع وسكون بعيدين عن أجواء الشهرة والأضواء، تواضع ونكران ذات وإن طال العمر كله، كما تحكي لنا تراجم كبار المفكرين والعلماء في التاريخ الإسلامي.

كما أن إيقاع العصر، حالياً، لا يسمح بهذا المنحى الفكري. والقدرات والملكات الفردية، المتواضعة جداً، لا تسعف.

إذن، لا أفضل من اللجوء لكتب السيرة والتاريخ، واستدعاء قصص الصحابة والتابعين، من عصور الإسلام الأولى، والأكثر إثارة من قصص الصحابة، سيرة الرسول الكريم محمد عليه السلام، فهذه المادة، بعناصرها المشوقة الغزيرة، وسهولة تناولها وطرحها من جانب أي فرد، وموافقتها لقوانين صناعة الإعلام الفضائي ومفرداته التجارية الربحية، ستضرب، بحجر واحد، مئة عصفورا وعصفور!