عندما أطل شبح البطالة برأسه على دول مجلس التعاون الخليجي بدأت الحكومات تبذل جهوداً لإيجاد المزيد من فرص العمل لمواطنيها وبدأت توفر لهم فرص التدريب والتأهيل الفني والتقني والإداري وفرص إستحداث وظائف جديدة وهذا يعني أن هذه الدول تتبنى مبدأ التجربة والخطأ في علاج العديد من مشكلاتها أي غياب التخطيط السليم قبل وقوع المشكلة.

وأول ما إهتدى إليه أصحاب القرار هو عملية "الإحلال" أي أن يحل المواطن بديلاً عن الوافد وفرض الرسوم والضرائب على الوافدين لينشأ ما أصطلح عليه صندوق تنمية الموارد البشرية لتمويل عمليات التدريب والتأهيل الفني دون دراسة الآثار السلبية على عملية الإحلال نفسها وعملية فرض الرسوم والضرائب وبالتالي المشاكل المستقبلية التي ستواجه هذه الدول وبعدها ستتبنى نفس سياسة التجربة والخطأ في إيجاد الحلول لتقع في ما أصطلح عليه بالحلقة المفرغة التي سنتناولها بالشرح والتفصيل لاحقاً.

ويبدوا من ظاهر الحلول التي أتخذت أنها ستعالج المشكلة ولكن في بعدها الإستراتيجي والبعيد المدى لن تحل المشكلة ولهذا بدأ الخبراء والمفكرين في الإجتهاد لإيجاد حلول تكون أكثر واقعية وعملية وأقرب إلى العلاج الطبيعي منه الى القسري وهو تفعيل دينامية السوق في المنافسة وتأهيل المواطن بصورة طبيعية وليس قسرية.

لهذا تواجه دول مجلس التعاون الخليجي تحدياً حقيقياً في توفير فرص العمل لمواطنيها خلال العقود القادمة إستشراقاً للمستقبل، ومن المتوقع أن يدخل سوق العمل في دول الخليج العربي أعداد كبيرة تتدرج من مئات الآلاف الى الملايين لأول مرة والعديد منهم سيكون من الشباب الخليجي الباحث عن العمل وقد تخرج حديثاً من جهات متعددة كما وسيكون الخريجين من الجنسين.

وفي بعض دول مجلس التعاون الخليجي نجد أن هناك وظائف جديدة تم إستحداثها ولكن تتطلب نوع من التأهيل والتدريب وهذه الوظائف تضاعفت عدة مرات مقارنة بوظائف الأعوام السابقة ولكن نسبة تضاعف الوظائف هذه لاتكفي لإيجاد فرص عمل لجميع الخريجين والعاطلين عن العمل.

ويحتدم الجدل بخصوص المهارات اللازمة للتنافس على الوظائف الحكومية منها ووظائف القطاع الخاص وخصوصاً تلك التي تدفع رواتب مرتفعة نسبياً، ولكن من الواضح أن فرص العمل المتاحة ستكون في عددها أقل من عدد الخريجين أو العاطلين عن العمل وهذا سيؤدي في النهاية الى وجود بطالة بين صفوف الخريجين والعاطلين عن العمل إلا إذا حدثت معجزة أو ثورة إدارية أو أي أسباب قدرية أخرى على إعتبار أن الأرزاق بيد الله خالق هذا الكون البديع.

وهنا يتبادر الى الذهن عدة تساؤلات منها :
هل سيجد هؤلاء الباحثون عن العمل الوظائف التي تحقق طموحاتهم ؟، فيما يتعلق بالأجور واستخدام مهاراتهم ؟ هل ستكون دول مجلس التعاون الخليجي قادرة على تزويدهم بوظائف كافية ؟ إن كانت الإجابة بالنفي، فإنهم سيواجهون البطالة، أو سيبقون في وظائف غير مرضية، لا تكافئهم بما يستحقون، أو سيجبرون على الهجرة من دولهم للبحث عن فرص أفضل في دول أخرى رغم وجود الوافدين من جميع دول العالم في دول مجلس التعاون الخليجي.

إن الغرض من هذه المقالات هو محاولة إستكشاف كيف يمكن لدول مجلس التعاون الخليجي أن تواجه هذا التحدي في إيجاد فرص العمل، وسوف نستعرض في هذه المقالات أهم دعائم الإصلاح وبشكل تفصيلي ولكي ينجح الإصلاح في إقامة "دورة حميدة "من الازدهار المتزايد، يشترط أن يكون شاملاً ومتكاملاً في آن واحد.

والإصلاح الشامل يعني أن دول مجلس التعاون الخليجي يجب أن تفكر بمنظور واسع فيما يجب عمله لضمان الازدهار، فلا يوجد حل واحد يحقق المعجزة، ولا عصا سحرية تقلب الأحوال على رأسها، أما الإصلاح المتكامل فيعني أن كل جهود الإصلاح يجب أن تدعم بعضها البعض وتسهم في تحقيق الهدف النهائي المتمثل في توفير وظائف للمواطنين تتميز بالنوعية العالية والرواتب الجيدة وطبقاً لقواعد دينامية السوق الحر.

وبالتالي ستستفيد قطاعات المجتمع المختلفة من برنامج الإصلاح الإقتصادي الشامل، فالمواطن الخليجي من أصحاب المهارات المنخفضة يواجه صعوبات عسيرة، لأن عبء البطالة يقع عليه أكثر من غيره، وليس أمامه إلا قلة من خيارات التوظيف، ومن ناحية أخرى، ستتكون الأغلبية العظمى من المنضمين الجدد إلى سوق العمل من أصحاب المهارات المتوسطة والعالية، وهم سيتوقعون الحصول على الوظائف التي تتماشى مع تعليمهم وخبراتهم.

وفي هذا الإطار، ينطوي الإصلاح الشامل والمتكامل على ثلاثة دعائم أوعناصر رئيسية تلبي حاجات المواطنين الخليجيين من مختلف مستويات المهارة وهي كما يلي :

إصلاح سوق العمل سيضمن أن المواطنين الخليجيين، وبصفة خاصة ذوي المهارات المنخفضة والمتوسطة، سيستفيدون من النمو الاقتصادي ولن يواجهوا عقبات هيكلية تعترض عثورهم على الوظائف.
الإصلاح الاقتصادي سيحفز خلق فرص عمل جديدة في القطاع الخاص، خصوصاً الوظائف ذات الأجر العالي والمتوسط للمواطنين الخليجيين أصحاب المهارات العالية.
إصلاح التعليم والتدريب سيرتقي بالمهارات والمعرفة والسلوكيات، من أجل
المساعدة على نقل أكبر عدد ممكن من المواطنين الخليجيين إلى الوظائف ذات الراتب المرتفع، كما سيضمن زيادة إنتاجيتهم ويجعلهم خياراً جذاباً أمام أرباب العمل من القطاع الخاص.

ومن الناحية النظرية يبدوا الطرح السابق كلام جميل ولكن عند التطبيق العملي على أرض الواقع تنشأ عقبات بحاجة الى قرارات مؤلمة وحكيمة ومبنية على دراسات ورأي خبراء في شتى المجالات وإعتراف بالحقائق والمسئولية عن الأخطاء لنواجه الإصلاح الشامل والمتكامل ونبدأ التخطيط على أسس سليمة واضعين أمامنا الفرص والتهديدات ونقاط القوة ونقاط الضعف.

ومن الحقائق التي يجب أن نعيها هي أن نموذج دول مجلس التعاون الخليجي الإقتصادي الحالي لن يكون قادراً على إيجاد الوظائف الكافية للمواطنين الخليجيين لأن الإعتماد التاريخي على وظائف القطاع العام لم يعد ممكناً كما كان سابقاً ونموذج مشاريع القطاع الخاص التي تعتمد على العمالة منخفضة الأجر لا يخلق فرص عمل للمواطنين الخليجيين داخل دول مجلس التعاون الخليجي لخصوصية طلباتهم وإرتفاع أجورهم ورواتبهم.

ولهذا نحن بحاجة الى تغيير النموذج الإقتصادي الحالي الذي يتطلب إصلاحاً شاملاً ومتكاملاً لضمان أن يكون القطاع الخاص هو المحرك لنمو الإقتصاد في دول مجلس التعاون الخليجي سواء في الدول مجتمعة أو في كل دولة على إنفراد وترك آلية السوق تعمل بشكل طبيعي مع تبني شعار العدل والمساواة بين الكفاءات الإدارية والفنية والمهنية لشغل الوظائف في القطاع الخاص ونترك شعارات تبنيناها ومازلنا مثل بحرنة وقطرنة وأمرته وعمننة وكوتنه وسعودة وغيرها.

إن إصلاح سوق العمل خطوة مهمة، لأنه يصحح أوجه الخلل الأساسي في تركيبة سوق العمل، بما يضمن أن المواطنين الخليجيين يمكنهم التنافس بفعالية على الوظائف المتاحة وليس بالإحلال القسري وعبر قوانين وأنظمة تعطل دينامية السوق الحر، ومجابهة تحديات سوق العمل تتطلب إزالة فروق التكلفة بين المواطنين الخليجيين والوافدين في شريحة قطاع الرواتب المنخفضة، وكذلك إزالة القواعد الجامدة التي تحكم سوق العمل.

كما ينبغي علينا أن نأخذ بتوصيات خبراء صندوق النقد الدولي الذي أبدى العديد من المراقبين الدوليين قلقهم من أن حجم القطاع العام قد وصل إلى التشبع بالفعل في دول مجلس التعاون الخليجي. ومن ذلك مثلاً تقريراً نشره صندوق النقد الدولي مؤخراً يقول إن الإستراتيجية المطبقة في بلدان مجلس التعاون الخليجي لاستيعاب أعداد كبيرة من المواطنين في القطاع العام "قد وصلت عملياً إلى منتهاها لأن إجمالي تكلفة الأجور قد بلغ مستويات مفرطة لا يستطيع الاستمرار معها في الارتفاع."

يضاف إلى ذلك أنه إذا لزم على القطاع العام في دول مجلس التعاون الخليجي أن يحاول استيعاب المنضمين الجدد إلى سوق العمل، عن طريق الحفاظ على الحصة المخصصة حالياً للمواطنين الخليجيين، والتي تبلغ نسبتها 40 بالمائة في بعض الدول وزادت حسب قوانين العمل الجديدة في بعض الدول الأخرى الى 75 بالمائة، سيتعين على القطاع العام أن ينمو بأكثر من 8 بالمائة سنوياً الى 16 بالمائة طيلة السنوات العشرين المقبلة، أي من أربعة أضعاف الى ثمانية اضعاف الزيادة التي حققها خلال العقد الماضي.

وتحقيق ذلك يبدوا مستحيلاً ويستدعي زيادة حصة الإنفاق الحكومي المخصصة للرواتب، مما يتعارض مع متطلبات الاستثمار في الميادين المهمة الأخرى، مثل الصحة والتعليم والأمن والأشغال العامة. وإلى جانب ذلك، فإن زيادة وظائف القطاع العام نادراً ما تضيف إلى الثروة الإجمالية في البلاد، بل بالعكس، يتنافس القطاع العام على الموارد مع القطاع الخاص، الذي هو عصب الاقتصاد المنتج الذي يحقق الرخاء.

من الجلي تماماً أن نموذج دول مجلس التعاون الخليجي التقليدي المتمثل في توفير احتياجات مواطنيه من خلال وظائف القطاع العام لم يعد خياراً ممكناً وأن توفير إحتياجات المواطنين الخليجيين من خلال وظائف القطاع الخاص والمحرك للإقتصاد عبر القوانين والأنظمة القاسية بحق أصحاب هذا القطاع لم يعد ايضاً خياراً ممكنا فماهو الخيار الممكن ؟.

مصطفى الغريب – شيكاغو