بإقرار الدستور العراقي مؤخرا، يطوي العراقيون صفحة أخرى من تاريخ بلادهم الجديد، بعدما وافقت النسبة العظمى منهم في عملية الاستفتاء على مشروع الدستور، بعد شد و جذب طويلين بين مختلف الأطراف السياسية في العراق حول بنوده و فصوله، في وضع طبيعي تتعرض له أية عملية سياسية في العالم، مادامت تتسيد عليها أجواء حرية الاختيار و تعدد الأفكار، بعيدا عن مساوئ الاحتكار و تفرد حزب أو طائفة أو جماعة دون غيرها في العملية السياسية، كما الحال في دول تتشدق عبثا باسم النظام الجمهوري و الديمقراطية و التعددية الحزبية.
لهذا، فبموازاة حماس العراقيين، وثقتهم بعد إقرار الدستور بأنه طريق نحو تكريس قواعد الدولة الحديثة و العصرية، و نجاح حكومة الدكتور إبراهيم الجعفري في تثبيت أركان الدولة على أرض الواقع في فرض الأمن و هيبة القانون و تطهير البلاد من الإرهابيين – ولو بصورة غير كاملة – لابد أن ترتفع أصوات الناعقين و من خسروا رهان رفض الدستور الآن، بالتشكيك بالدستور و العملية السياسية، بذريعة أنها تحت الاحتلال، و لم تحظى بالإجماع المطلق من قبل جميع الأطراف العراقية.
مع قراءة المشهد السياسي العراقي أبان إجراء الانتخابات البرلمانية أوائل العام الحالي، و التركيبة التي خرج بها البرلمان العراقي، و الحرص على تمثيل الجميع دون استثناء – بمن فيهم المقاطعون و الرافضون – لتظهر صورة فريدة من نوعها بل و يتيمة، بأن يكون للخاسرين و المقاطعين و المحرضين بالرفض نصيب في المشاركة بالعملية السياسية. و تمثل ذلك في تشكيل هيئة رئاسة الجمهورية و رئاسة الجمعية الوطنية و الحكومة العراقية و لجنة صياغة الدستور. والأخيرة عانت كثيرا و سعت للم شمل جميع الأطراف العراقية، ولم تعتمد مبدأ فرض رأي الأغلبية، وهو مشروع في التجارب الديمقراطية. إلا أن الحرص على مشاركة جميع الأصوات، و الآراء في عملية صياغة الدستور، لتأكيد مشروعيته و إجماعه التمثيلي وليس التوافقي.
وراقبنا عملية صياغة الدستور، بما حدث من مبادرات مختلفة تنشد التئام المشاركة الجماعية من قبل غالبية الأطراف المشاركة، في مقابل مناورات و مساومات طرف واحد يقدم رجلا و يؤخر أخرى، أثار الشارع العراقي حيرة و غضبا من تصرفاته، و فتح المجال أكثر للإعلام العربي تشكيكا و تضليلا لواقع العملية السياسية العراقية.
ومع ذلك، فقد فوّت الحكماء من غالبية الأطراف العراقية المؤيدة لمسودة الدستور الفرصة على المشككين و الرافضين، بتأجيل بعض النقاط الإشكالية و العالقة للبرلمان العراقي المقبل. وسط ترحيب و تأييد الطرف المعارض و المتحفظ، بل و دعوته للمشاركة في إقرار الدستور العراقي. ولكن دخيلتهم تقول : إنا لَنَبَشُّ في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم !
و تفضح نتائج الاستفتاء نية هؤلاء، ومشاركتهم القوية في محافظاتهم لإسقاط الدستور، بما يعني الدفع للتشظي الطائفي و السقوط ثانية في حالة الفوضى و عدم التوافق و التجانس مع الآخرين، و استئناف و تبرير عمليات العنف ثانية.
لتتضح الرؤية الآن للعقلاء، بمن يقـود العراق لعقد السلام، و بمن يدخله نفق الظلام. إن نتيجة الاستفتاء على مسودة الدستور العراقي، التي يفترض أنها حظيت بموافقة الجمعية الوطنية و إجماع لجنة صياغة الدستور، كشفت و عرّت تلك النوايا المضللة و السيئة تجاه العراق و أهله، عندما أرادوا إسقاط مثل هذا المشروع الوطني، الذي سينقل العراق لمرحلة مهمة جدا نحو استقرار الوضع السياسي و الأمني و الاقتصادي و الاجتماعي. هذه النوايا المضللة ما كانت لولا دعم رموز النظام البائد و جماعات التكفير و أجهزة الإعلام العربية المحرضة و شخصيات أخرى سقطت عن وجوهها أقنعة القومية و الجهاد و المقاومة.
لتدخل الجامعة العربية على الخط، فيراها البعض متأخرة. إلا أنها جاءت كمحاولة لتمكين الخاسرين و الخارجين عن الإجماع العراقي في المشاركة في العملية السياسية. و هو ما أراه تحركا و توقيتا مقصودين، و إلا لماذا لم تتحرك الجامعة ساكنا أثناء تزعزع الوضع السياسي و الأمني في العراق ؟
أم أن نجاح العملية السياسية بمباركة غالبية القوى العراقية و بمساندة الأمم المتحدة، ألزم على الجامعة بأن تتحرك سريعا لاقتسام كعكة الإنجاز و الحصول على نصيب من الإشادة تبروزها في سجل إنجازات الأمين الحالي ؟
لأطرح سؤالا آخر.. عن أي وفاق أو حوار أو مصالحة عراقية يتحدث السيد الأمين العام، و هو واقع بالفعل على الساحة العراقية منذ تشكيل مجلس الحكم العراقي و حتى لحظة إقرار مسودة الدستور ؟
لهذا كان تحفظ القوى الرئيسية في العراق عند مقابلتها للأمين العام، مما جعلها تشترط عدم مشاركة الجماعات الإرهابية و رموز النظام البائد و كل من تلطخت يديه بدم الشعب العراقي، بعدما استشعروا ريبة في عقد هذا المؤتمر خارج العراق.
أخيرا.. أوجه دعوة للحذر لمن ارتضوا على أنفسهم الانسلاخ عن النسيج العراقي الواحد تحت مسميات عدة، أبرزها العرب السنة، الذي بموجبه تستمر نية حامليه و مطلقيه في استشراء النفس العرقي و الطائفي، محاولين إثارة من حولهم و الدخول في صراعات عرقية و طائفية تحت ذريعة مناصرة حقوقهم و الذود عن مطالبهم. وهو ما تجسد فعلا في ألقاب و مسميات و بيانات جماعات العنف في العراق. و إلا..أليس من السنة أكراد و تركمان، و أليس من العرب شيعة و مسيحيون و غيرهم ؟!
والعاقبة لمن يعقل و يتدبر

فهد توفيق الهندال
إعلامي و كاتب كويتي
[email protected]