بقيَ الفكر الحر على امتداد الأزمنة يكابد كل أشكال العسف والقمع والاضطهاد وبقيَ أصحابه يدافعون عن حقهم الكامل في وجودهم وممارسة فعلهم الثقافي والفكري..
ولم تستطع محاولات الإبادة الفكرية وعمليات الأدلجة اعتقال الفكر الحر داخل المربعات الخانقة أوسجنه في السراديب المعتمة وشهدت المعركة بينهما فصولا ً كثيرة في الصراع الحاد وكانت أن ألقت بتداعياتها القاتلة على أصحاب الفكر الحر واتهموا دائما بتخريب روح الأمة والعبث بالتراث والنيل من المقدسات والعمل ضمن الطابور الخامس..
وتوضّحت معالم وملامح الفكر الحر مع بدايات الأزمنة الحديثة حينها أخذ منحى ً واضحا ً في تبني الفكر الإنساني الكوني البعيد عن جغرافية الانتماءات الضيقة و الهويات الخانقة وثقافة الأفضليات القاتلة وقداسة التابوهات السياسية والدينية وعملَ على الانحياز المتفهم لروح الأخوة البشرية وقيم الإنسانية بعيدا ً عن تناقضات الأديان وحروبها الفكرية وأحقادها المتوارثة..
وليس مستغربا ً أن الفكر الحر المنعتق من أدران الملوثات المؤدلجة يُجابه بحرب ٍ شرسة من قِبل الذين يجدون فيه تهديدا ً حقيقيا ً لموروثاتهم الماضوية وهشاشتهم الفكرية التي لا وسيلة للحفاظ عليها متماسكة إلا بمحاربة الفكر الحر ونعتهِ بالشيطانية والعمالة وإفساد المعتقدات والتطاول على المقدسات..
ولم يتجه الفكر الحر في حراكه الثقافي الفعال لمخاطبة العواطف ودغدغة المشاعر بل اتجه بصورة أساسية لتحريك العقل وتحريره من الأغلال والقيود التي لا زال يرسف بها ولذلك دعوته لمواجهة التابوهات العريضة في ثقافة المجتمع ليس الغاية منها نسفها لمجرد النسف فقط بل لكي تكون هناك مساحة حقيقية وحرة للعقل يتحرك فيها وينظر إلى الأمور بعقلانية ومنطقية وكلما اتسعت هذه المساحة في التفكير كلما كانت قدرة الإنسان على التحرر من الموروثات الفكرية المقيدة للتفكير الحر والمستقل كبيرة وفاعلة..
ولا يعني تركيز الفكر الحر على إيجاد مساحات رحبة للعقل إهماله للجانب الآخر في الذات الإنسانية وهو جانب الروحانية بل يسعى الفكر الحر لترسيخ هذا الجانب في الإنسان من خلال تركيزه على أن الروحانية الفردانية مهمة لأنها تعني تشرب الفرد الأخلاق العامة التي تهدف إلى تأسيس قناعة فكرية لديه مفادها أن هدفه في الحياة أن يكون مفيدا ً لنفسه ولعائلته ولكل الذين من حوله ولا يتعمد إلحاق الأذية بنفسه وبالآخرين..
هل تجدون أن هناكَ عقلانية ومنطقية في المسلكيات وأسس التفكير لدى أغلبية مجتمعاتنا الإسلامية من حيث إنها لا زالت تمارس فعلها الثقافي وفق مقتضيات النصوص التراثية الماضوية وتدافع عنها وكأنها مناطق محرمة لا يجوز أن تجوسها أقدام النقد الفكري الحر ولا زالت غارقة في وحول الخرافات والأوهام والخزعبلات الدينية ولا زالت ترهن عقولها لتفسيرات دينية وأصولية ربما كانت صالحة لذلك الوقت الغابر والبدائي ولازالت مجتمعاتنا غير قادرة على تجلى الأبعاد الروحانية في منطق الأديان من حيث إنها علاقة وجدانية وروحانية مباشرة بين الإنسان والسماء ولا يحق لأحدٍ التدخل فيها في حين حولت مجتمعاتنا الدين إلى مجرد أشكال هندسية مزخرفة مسلوبة الروح و المعاني وجمالية العلاقة الخاصة المباشرة ولذلك حينما يسعى الفكر الحر إلى مواجهة تلك الممارسات والمسلكيات والثقافات والتابوهات فأنه يركز على أن للعقلانية دور مهم وأساسي في تجلي الأبعاد الحقيقية للأشياء ومن ثمّ التعامل معها على هذا الأساس الذي يرى كل شيء عبر عدسة صافية لا تفسد عليه رؤية كل ماحوله بوضوح تام ويعرف من خلالها مسئولياته تجاه نفسه ومجتمعه والدين وتحدد له علاقته بالواقع السياسي والثقافي ويُرجع الأمور إلى مقياس العقل والمنطق وليس رهن حاضره ومستقبله للماضي وللتفسيرات المطلقة والأحكام النهائية..
الفكر الحر لا يقبل الترويض المؤدلج ويحارب آفة الخضوع للمسلمات الفكرية ويؤمن بالآفاق الرحبة ويذهب مع امتدادات المدى إلى نقطة الضوء الأخيرة لذلك يتقلص فيه المطلق إلى درجة اللاوجود ويمارس فعله الثقافي مدعوما ً بآليات النقد الحر وكل الأشياء تخضع عنده للمساءلة والنقد والمكاشفة والتمحيص..
ومن هنا يتجه الفكر الحر لكي يكون مستقلا ً باعثا ً للضوء الذي يتمدد فيه كالهواء النقي ولا يخضع للفكر السائد المتخشب الثابت عند نقطةٍ معينة وكما يقول جوستاف لوبون في كتابه سيكولوجية الجماهير :
( إن الفرد لوحده يكون مستقلاً عاقلاً يتمتع بالقدرة على النقد فإذا انخرط بين كتلة الجماهير فقد استقلاليته وطاش لبه وماتت الحاسة النقدية عنده ) وليس معنى هذا أن الفكر الحر يقبع في الأعالي ومنعزل عن التفاعل مع حركة الناس بل يتفاعل ولكنه يحتفظ باستقلاليته الفكرية ولا يقبل الذوبان في الثقافة السائدة أو التعاطي الساذج معها أو مهاد
التعليقات