تمثل عملية "استعادة الأمل" أول تدخل دولى مسلح لاعتبارات إنسانية تشرع فى تنفيذه الأمم المتحدة فى واحدة من الدول الأعضاء بها وهى الصومال رغبة فى وضع حد للمأساة الهائلة التى عانى منها الشعب الصومالي، نتيجة للقحط والجفاف الشديدين من جانب، والحرب الأهلية والصراع القبلى على السلطة فى أعقاب انهيار نظام حكم سياد برى فى يناير 1991 من جانب آخر..

ففى منتصف ديسمبر من عام 1991، ومدفوعة بالانتقادات القاسية من قبل كل من الصليب الأحمر ووزارة الخارجية الأمريكية، أرسلت الأمم المتحدة نائب أمينها العام جيمس جوناه إلى الصومال، وبرفقته ممثلين عن منظمة الوحدة الأفريقية والجامعة العربية، للتفاوض مع زعماء الفرق المسلحة حول وقف إطلاق النار.. الزيارة التى خطط لها على نحو عاجل كشفت جهل الأمم المتحدة بطبيعة الحياة والتوازن القبلى فى الصومال، فقد فرضت حينها الأمم المتحدة حظراً على توريد الأسلحة إلى الصومال، وحضت الدول الأعضاء على إرسال مساعدات إنسانية إليها، قبل الدخول فى مفاوضات مع أقطاب النزاع الصومالى لتمهيد الطريق أمام قوافل الإغاثة...

وفى منتصف شهر فبراير من عام 1992، استدعت الأمم المتحدة مفاوضين عن الزعيمين الصوماليين على مهدى وعيديد إلى نيويورك، وبعد يومين فقط من المفاوضات أعلن عن وقف إطلاق النار.. لكن الفرقاء الصوماليين برغم ذلك لم يكفوا عن القتال..!

وفى أواخر ذلك الشهر زار مقديشيو ممثلون عن الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامى، لفرض تنفيذ اتفاقية وقف إطلاق النار، وساعدت قوة تابعة للأمم المتحدة قوامها خمسون مراقباً غير مسلحين، مخولون من قبل مجلس الأمن فى تعزيز وقف إطلاق النار بين قوات مهدى وعيديد.. كان وقف إطلاق النار فعالاً فى ذلك الوقت، غير أن ثمة عمليات للسلب والنهب من قبل أحزاب خارج السيطرة كانت ما تزال تجرى فى بعض أنحاء البلاد...

لم تصل المساعدات الغذائية إلى السكان الذين يتضورون من الجوع، ولم تفلح وساطات الأمم المتحدة مع الأحزاب والمليشيات التى تهيمن على الأراضى الواقعة بين الميناء البحرى والسكان الجائعين فى الداخل لضمان وصول القوافل الإنسانية إليهم، فقد كان من المستحيل عقد اتفاقيات مع أناس لا يتمتعون بصفة شرعية ويفرضون مطالبهم من أجل حماية المساعدات الإنسانية، علاوة على أن الطعام كان يجرى تقسيمه قبل توزيعه من قبل المليشيات المسيطرة على الميناء البحرى والمطار والطرق..!!

وبرغم نصائح الزعماء المحليين بحتمية الاستعداد قبل إجراء أى تسوية، فقد انطلقت الأمم المتحدة كفرس جامح، وصمت آذانها كما لو كانت تخوض لعبة بلا هدف..

وبحلول شهر يوليو من عام 1992، كانت الأمم المتحدة تلعب دوراً طويل الأمد فى الصومال لحماية وضمان أمن الإغاثة الإنسانية.. بدأت الأمم المتحدة بالإشارة لحاجة الصوماليين إلى قوات للحماية، وأعداد أكبر من المراقبين.. ثم استعرضت رسالة من الأمين العام إلى مجلس الأمن صعوبات التوصل إلى معاهدات مع بعض الأطراف الرئيسية فى الحرب الأهلية، وذهبت أبعد من ذلك إلى تبرير استخدام الفصل السابع من وثيقة الأمم المتحدة، مطالبة باتخاذ "كل الإجراءات الضرورية" لحماية الإغاثة الإنسانية.. وهو التبرير الدبلوماسى للقيام بتدخل عسكرى! وتصبح هذه هى المرة الأولى التى يستخدم فيها الفصل السابع لتطبيق السلام فى نزاع يقع ضمن الشؤون الداخلية لدولة من الدول الأعضاء فى الأمم المتحدة...

كان يفترض بالأمم المتحدة أن تنجز وحدها المهمة، لكن فشل قوات أمنها المؤلفة من 500 فرد فى تحقيق الأهداف المطلوبة، أغرى الرئيس الأمريكى جورج بوش الأب باستثمار الفشل الدولى للهروب من ساحة الحرب فى يوغوسلافيا، فأرسل 27 ألف جندى إلى الصومال، بقيادة تحالف من قوات عدة دول على رأسها إيطاليا وكندا فى عملية عسكرية ضخمة، انحرفت بموجب قرار مجلس الأمن رقم 814 عن أغراضها الإنسانية...

الأمم المتحدة: قوات محتلة!

غير أنه نظراً لهيمنة القوات الأمريكية على العملية، ورفض الولايات المتحدة الأمريكية إخضاع قواتها لإدارة الأمم المتحدة، ظهرت العديد من الخلافات بين الأمين العام للمنظمة الدكتور بطرس غالى والإدارة الأمريكية، ونظرت بعض الفرق الصومالية المسلحة إلى هذه القوات بوصفها محتلة، أتت لاغتصاب خيرات بلدها المنهك، خاصة بعد أن صدرت عن تلك القوات ممارسات غير إنسانية بحق بعض المدنيين الصوماليين..

وبعد ذلك الفشل الذريع فى الصومال، كلفت الأمم المتحدة لجنة مستقلة من 3 أعضاء، يرأسها القاضى الزامبى السابق ماثيو نجلوى برفع تقرير يتحرى على نحو أكثر دقة أسباب ذلك الفشل.. وقد تضمن التقرير نقداً حاداً للأمين العام ولقيادة هذه القوات، التى انغمست فى خلافاتها، ونسيت جوهر مهمتها الإنسانية مما تسبب فى قتل نحو 6 آلاف صومالى، و81 من جنود الأمم المتحدة وانتقد التقرير المنظمة الدولية لتخليها عن حيدتها التقليدية، وأوصاها بدفع تعويضات عن الأضرار التى لحقت بالضحايا الأبرياء فى الصومال من جراء "عدوان الأمم المتحدة".. لكن آذان المجتمع الدولى ظلت إحداها من طين والأخرى من عجين!!

* * *

كنت منهمكاً فى استعادة تلك الملاحظات حول عمل الأمم المتحدة في الصومال، عندما دخل الدكتور بطرس غالى إلى غرفة مكتبه في باريس، حيث كنت بانتظاره منذ دقائق.. تسارعت خطى الجميع لتحيته، وكانت سيماء البشر والسرور بادية على وجهه.. كنت مندهشاً لرشاقة حركاته برغم تقدمه فى العمر.. والمثير أن نحافته لم تكن عائقاً، بل مؤهلاً للحرفة التى يمارسها، خاصة عندما تدفعه هذه الحرفة إلى التسلل فى "دهاليز" السياسة الخانقة!!

وهكذا بعد طواف عاجل ومختصر حول أسرار شخصيته المثيرة ألقيت بأسئلة كانت على أقل تقدير "استفزازية" وربما اعتبرها هو "غير لائقة"! حول جملة ما واجهه من اتهامات خلال فترة عمله بالأمم المتحدة، والانتهاكات التى وقعت فى عهده على أيدى القوات الدولية فى الصومال، وشرعية الضربات العسكرية التى وجهت فى تلك الفترة ضد العراق.. وفما يلى نص ما يتعلق من ذلك الحوار بأزمة الصومال، ودور الأمم المتحدة، وكل من إيطاليا والولايات المتحدة فى تعقيدها...

عملية الصومال: أسباب الفشل!

بعثة الأمم المتحدة دخلت إلى الصومال بمقتضى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وقرار مجلس الأمن رقم 794 الصادر فى 3 ديسمبر من عام 1992 بغرض حفظ السلام، وتدرجت المهمة إلى القيام بعمليات لفرض السلام، وانتهت بتورط القوات الدولية فى معارك مع بعض الفصائل المسلحة، وخرجت القوات الدولية ومعها الولايات المتحدة وهي تحمل معها أكفان العشرات من جنود هذه القوات.. من المسؤول فى رأيك عن هذه الوصمة فى جبين الأمم المتحدة خلال فترة ولايتك لها؟

هناك اعتراف من أمريكا بأنها هى المسؤولة الأولى، كان هناك مندوب ممثل للأمين العام للأمم المتحدة وهو أدميرال أميركى، ورئيس القوة العسكرية كان تركياً، لكن نائب الرئيس الجنرال مونتجمرى كان أمريكياً، وكان هناك أربعة جنرالات أمريكيين موجودين فى الصومال، وكانوا مختلفين فيما بينهم.. هذا هو السبب الرئيسى.. وهناك أسباب أخرى، أهمها أن الشعب الصومالى لم تتوفر لديه الإرادة كى يجد تسوية سلمية!

ولكى تفهم دور الأمم المتحدة.. الأمم المتحدة بمثابة طبيب مستعد لمساعدة المريض، والمرض هنا هو الحرب الأهلية فى الدولة الفلانية.. إذا توافرت الإرادة لدى المريض فى أن يتناول العلاج.. فسوف ينجح الطبيب، بينما إذا كان المريض يرفض تناول هذه الأدوية وزاد المرض.. فالمسؤولية مسؤولية من؟؟ الأمم المتحدة فقط تحاول، لكن إذا لم تتوافر الإرادة السياسية لدى كافة الأطراف لتسوية النزاع، فلن تستطيع الأمم المتحدة عمل أى شئ!

نجحت إيطاليا فى ابتزازك لقبول مشاركتها فى عملية الأمم المتحدة لحفظ السلام فى الصومال، في مخالفة صريحة لسياسة الأمم المتحدة بعدم السماح لأى دولة كانت مستعمرة لدولة أخرى فى القيام بعمليات عسكرية فيها، وسعت إيطاليا بالفعل إلى إفساد عمليات الأمم المتحدة وفقا لاعترافك أنت باتصالها ببعض زعماء الفصائل المسلحة..

يجب أيضا ألا نبالغ فى هذا، أولاً لا توجد قاعدة مكتوبة تنص على عدم إيفاد قوات من دولة لدولة كانت تستعمرها الدولة الأولى..

ولكن الأمم المتحدة درجت على ذلك منذ فترة طويلة..

ليس شرطاً.. وهذه هى الصعوبة الحقيقية، إذا كنت محتاجاً لقوات إضافية، ولا توجد أى دولة مستعدة لأن تقدم هذه القوات الإضافية، وإيطاليا مستعدة أن تقدم.. ما العمل؟ لقد كنت فى حاجة إلى عشرة آلاف جندى، والعدد الموجود عندى هو ثمانية آلاف فقط، والتقارير العسكرية التى تلقيتها تقول: إذا لم تأتنا ألفين زيادة، فلن نستطيع أن نواصل العمل.. لقد كنت فى الواقع مضطراً...

ولكن إيطاليا ساومتك مقابل المشاركة ضمن عملية للأمم المتحدة فى موزمبيق..

الأمور لا تجرى بهذه الطريقة، ولكن تتم بطريقة غير مباشرة..

هذا هو نص اعترافك على أية حال فى كتابك (5 سنوات فى بيت من زجاج)..

كنت مضطراً للتبسيط.. فأنت محتاج لطائرات فى موزمبيق، الأمم المتحدة ليس لديها طائرات ولا أسلحة ولا حاجة(!!) فتذهب إلى إيطاليا وتقول لها: هل عندكم طائرات؟ فتقول: نعم عندنا طائرات.. "بس احنا واخدين على خاطرنا"، أنتم رفضتم مشاركتنا فى الصومال!!

وماذا كانت مصلحتها فى الصومال؟

بسبب الرأى العام.. الحكومات الديمقراطية تتمشى مع الرأى العام، والرأى العام الإيطالى له رابطة سياسية عاطفية مع الصومال، بما أنها كانت مستعمرة إيطالية..

يعنى له مصلحة فى حل المشكلة الصومالية؟

ليس شرطاً أن تكون له مصلحة..

حتى لو كانت إنسانية؟

هى بالأحرى مصلحة سياسية.. فالرأى العام سيقبل أن تنفق إيطاليا كذا مليون دولار فى الصومال، بينما لن يقبل أن تنفق مليون دولار فقط فى موزمبيق.. المسألة هى كيف تستطيع أن تقنع الرأى العام، أو على الأقل ألا تجد معارضة منه..

فرضخت أنت لما طالب به الرأى العام الإيطالى، على حساب ما درجت عليه الأمم المتحدة..

ضعف القيادة العليا هو ما جعل القيادات المختلفة سواء كانت فرنسية أو إيطالية أو مصرية لا تتمشى مع هذه القيادة العليا.. وكان ضعف القيادة سببه عدم وضوح الرؤية.. لقد كانت هناك عشرات القبائل التى تتلقى نسبة على المساعدات الإنسانية لكى تسمح بدخولها أو خروجها من ميناء مقديشو، وحتى عندما تمر بالمدينة فهناك حاجز آخر يجب أن تدفع عنده..

وصلت هذه الإتاوات إلى 50 %..

بالفعل وصلت إلى 50 %.. وبالتالى حصل نوع من التفكك فى القيادة العسكرية، سواء فى تقديم المساعدات، أو فى اتخاذ القرارات، هذا التفكك كان له صداه فى نيويورك (مقر الأمم المتحدة)، حيث اختلفت الدول فى كيفية علاج هذه القضية..!

ما هى الأضرار التى ترتبت على مشاركة القوات الإيطالية فى عملية الأمم المتحدة بالصومال؟

لا تختلف كثيراً عن أى أضرار أخرى ترتبت على الخلافات بين القيادات العسكرية، كان هناك خلاف داخل القوات الألمانية بعد أن ظلوا وحدهم لمدة خمسة عشر يوماً دون مساعدة، إلا أن هذه المشكلة لم يتعرض لها أحد!!

ولكن القوات الإيطالية أطلعت بعض الفصائل الصومالية المتحاربة على الخطط العسكرية السرية للأمم المتحدة..

نفس الجاسوس الصومالى الذى كان يعمل لحساب الحكومة (أ) كان يعمل فى نفس الوقت لحساب الحكومة (ب) ولمصلحة القائد الصومالى (ج)، لقد تناولت ذلك فى كتابى على سبيل المثال، ولو بحثت فى تفاصيل ما وقع فى الصومال، سأحتاج إلى قرابة 400 صفحة..

ومتى ستصدر هذه ال (400 صفحة)؟

لا أحد سيقرؤها.. كان علىّ فقط فى كتابى (5 سنوات فى بيت من زجاج) أن أكتفى بمثال واحد وهو الخلاف الذى وقع مع إيطاليا.. لكننى على سبيل المثال لم أذكر الخلاف مع ألمانيا، أو الخلاف مع أمريكا، كما لم أتحدث عن المشكلة التى واجهتنا خلال انسحاب القوات الدولية من الصومال، ومن سيحمى هذا الانسحاب.. لقد حدثت عشرات الخلافات... كل ما أريد أن أقوله أن عملية الصومال بالفعل لم تحقق الهدف المنشود، لكن هذا يرجع إلى خلافات القيادة.. الخلافات بين الدول.. الخلافات بين القبائل... خلافات عديدة تراكمت ومازال بعضها مستمراً، ولكن لا يوجد حتى الآن سطر واحد فى صحيفة تحدث بدقة عما وقع فى الصومال مما لم أذكره فى الكتاب!

إذن دعنى أنا أسألك عما لم تذكره فى كتابك...

لن أجيب عليك.. لأن الذى لم أذكره فى كتابn.. لن أذكره لك أنت هنا!!

اسمع السؤال أولاً.. ما هى حقيقة الانتهاكات التى قامت بها القوات الإيطالية فى الصومال خلال فترة وجودها ضمن القوات الدولية؟

صدقنى مش فاكر (!!) لكن أريد أن أوضح أن الأخطاء التى ارتكبها أى جندى فى القوات الدولية، يختص بالنظر فيها قضاء وحكومة بلاده فقط وليس الأمم المتحدة!

إذن تعتبر نفسك غير مسؤول عن هذه الانتهاكات..

أنا عمرى ما قلت كده.. أنا مسؤول عن كافة العمليات التى لم تحقق الهدف المنشود!

والانتهاكات التي كانت ضمن هذه العمليات..

لا شك.. كما أننى مسؤول أيضاً عن العمليات التى نجحت..

لماذا لم تحقق في هذه الانتهاكات؟

أجريت أكثر من 20 تحقيق..

وماذا كانت النتيجة؟

النتائج موجودة فى التقارير.. ولكن لا أحد يقرأ!!

حتى الآن مازالت بعض هذه القضايا مرفوعاً أمام المحاكم الإيطالية من مواطنين صوماليين ولم يتم البت فيها، ما تعليقك؟

هذا موضوع آخر، ربما يعود إلى بطء إجراءات التقاضى أو التحكيم، بعض القضايا يستغرق النظر فيها أكثر من خمسة عشرة عاماً!!

إذا كانت الأمم المتحدة قد توصلت إلى نتائج من خلال التقارير التى تتحدث عنها.. لاكتفى بها المواطنون الصوماليون، ولم يذهبوا إلى المحاكم الإيطالية؟

سبق وأن ذكرت لك أن الأخطاء التى ارتكبها أى جندى تختص بالنظر فيها حكومة بلاده، ولكن لو سألتنى : العملية ككل.. لماذا لم تحقق الهدف المنشود منها؟ أقول لك أن هناك عشرات التقارير واللجان بحثت فى الأسباب.. هناك خمس تقارير تتعلق بمجزرة رواندا، وهناك تقارير أخرى حول يوغسلافيا، وتقارير عن الصومال، كما أن هناك لجنتين برلمانيتين بلجيكية وفرنسية وضعتا تقريراً عن حوادث رواندا، ونفس الشئ قامت به لجنة دولية تابعة لمنظمة الوحدة الأفريقية.. المهم أن هذا الموضوع قتل بحثاً.. آلاف الصفحات حاولت الإجابة عن هذه الأسئلة: أين الخطأ؟ وأين الصواب؟

المصالح الأمريكية!

هناك من يفسر التدخل الأمريكى فى الصومال على أنه كان رغبة صادقة من البيت الأبيض فى التغطية على فشل الأمم المتحدة فى القضاء على أزمة المجاعة وهذا ما دفع الرئيس الأميركي بوش قبل أسابيع من انتهاء ولايته إلى أن يرسل إلى الصومال سبعة وعشرين ألف جندى تحت ستار إعادة الأمل إلى بلد لا يحتكم على بئر بترول واحد وهناك من يبرره بأنه حيلة أمريكية للتنصل من مسئولياتها فى يوغوسلافيا التى كانت تكتوى حينئذ بنار الحرب العرقية بين البوسنة والصرب إذ كان صعباً على الولايات المتحدة فى ذلك الوقت وفقاً لادعائها أن تقاتل فى جبهتين.. كما أن هناك من يعللها بمحاولة أمريكا بسط نفوذها على القرن الأفريقى، يوازن النفوذ الفرنسى والإيطالى... فى تقديرك ماذا كانت المصلحة الأمريكية الحقيقية فى أفريقيا؟ وهل من بينها كما تقول تحليلات أخرى: اختراق الصف الأفريقى، وتهديد الأمن القومى العربى، وإيقاف المد الإسلامى فى وسط أفريقيا؟

أنا غير موافق على هذه التعبيرات.. فالولايات المتحدة هى أقوى دولة فى العالم فى الوقت الحاضر بعد انهيار الاتحاد السوفيتى، وهى قد تكون مهتمة ببترول أنجولا، أو بترول غينيا الاستوائية التى هى جزيرة صغيرة سيكون لديها إمكانات بترولية ضخمة وهى تريد أن توازن البترول العربى بالبترول الروسى أو البترول الأفريقى، ولكن بالنسبة لباقى المشاكل الأفريقية.. هى ليست بحاجة إلى التدخل فيها!

ولا تنس دور السود الأمريكيين ذوى الأصل الأفريقى، وبعض النواب فى الكونجرس المهتمين بأفريقيا،، كما لا تنس عشرات المنظمات الأمريكية الدولية غير الحكومية ذات الأهداف الإنسانية.. إن الشعب الأمريكى يدفع للجمعيات الأهلية 113 مليار دولار سنوياً، فهذه تمثل قوة.. وقد تصل ميزانية جمعية لمساعدة الأطفال أو مكافحة الملاريا فى أفريقيا مثلاً إلى مائة مليون دولار، ولو لم ينفق هذا المبلغ قبل نهاية العام فسيطرد مجلس الإدارة أو المسؤول عن هذه الجمعية، وهذا يبرر اهتمام هذه المنظمات الدولية بأفريقيا.. وكذلك الجامعات، هناك حوالى أربعة آلاف جامعة فى أمريكا، منها ألف جامعة بها إدارة أو قسم خاص بالشؤون الأفريقية، كما أن بها قسم خاص بالشؤون الروسية، وقسم خاص بالشؤون الآسيوية، وقسم خاص بالشؤون الكورية، لذا أريد أن أقول أن الولايات المتحدة باعتبارها الدولة العظمى الوحيدة فهى مهتمة بكافة أنحاء وبلدان العالم، ومنها أفريقيا.. فهى بالنسبة للولايات المتحدة ثانوية.. ما هو تعريف الدولة العظمى؟ هى الدولة التى تهتم بكافة مشاكل العالم.. من هنا فإن أمريكا مهتمة بأفريقيا، ولكن لا تستطيع أن تقارن اهتمام أمريكا بأفريقيا باهتمام أمريكا بأمريكا اللاتينية...

هذا التحليل يتعارض مع كل التفسيرات "التآمرية" التى تشكك فى مصلحة الولايات المتحدة فى الصومال، ومن ثم مصالح القوى الإقليمية الحليفة لها.. السؤال على نحو أكثر دقة: هل يصب الجهد الأمريكى في اتجاه استعادة الحكومة المركزية وإعادة بناء الدولة الصومالية، أم في اتجاه استمرار التفتت والتجزئة وغياب الدولة، بما يتيح مزيداً من مبررات التدخل الأمريكي في شئون المنطقة، حتى ولو عبر وكلاء محليين يوفرون الفرصة للاستفادة من ثروات هذا البلد، تحت مظلة الحرب على الإرهاب؟

أنا أطلق على ذلك (العقدة التآمرية العربية)، التى تتصور أن كل شئ فيه مؤامرة، نعم.. ربما اختلفت الأوضاع بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر، هذا موضوع آخر.. وبالتالى قد تهتم الولايات المتحدة بالحركات الأصولية الإسلامية فى مختلف أنحاء العالم، وإذا وجدت حركات أصولية فى أفريقيا.. سوف تهتم بها لأنها بالنسبة لها مسألة "إرهاب"!!

محمد سعيد محفوظ
إعلامي مصري
[email protected]