توالت الأيام منذا إنتهاء أحداث الأسكندرية المؤسفة بالجمهورية المصرية والتى أظهرت دولة مصرية تنكمش وتعيش فى ظلام الحرية المحسوبة سلفاً، لكن آثار تلك الأحداث لم ولن تنتهى لأن الجهات المعنية بها لم تحسمها وتركت الحبل على الغارب يمسك بأطرافه القوى الظلامية التى تتحكم بمزاجها فى نشر الدعاية اللازمة فى تلك الفترة التى تعيشها مصر.
لم نسمع أن هناك لجان إستماع ومشاهدة للمسرحية " جسم الجريمة " التى هاجت وماجت جماهير من أجلها،وتم فيها تكميم أفواه مصرية عن قول الحق وسرد الوقائع، لم أسمع عن تكوين لجنة لتقصى الحقائق من نواب الشعب أو لجنة مشتركة من رجال مسلمين ومسيحيين ليشاهدوا تلك المسرحية ويقولوا لنا فيها رأيهم وردود أفعالهم بكل صراحة وتذاع أقوالهم فى كل وسائل الإعلام المصرية لتكون درساً حضارياً فى المعالجة الديمقراطية.
لكن الصمت الرهيب خيم حتى يومنا هذا وكأن مسرحية من هذا القبيل تحتاج إلى معمل أبحاث نووى وتحتاج إلى شهور وسنين حتى يستطيع علماء العصر والآوان فك طلاسمها، ورأينا فقط مجتمع مصرى منقسم على ذاته مغمور بالتحريض العلنى والخفى فى كل مكان بلا أستثناء، والكل فرحان وآخر إنبساط بهذه الحرية العمياء التى يجد فيها الحل العجائبى لأمراضه الكثيرة، تلك الحرية التى تكره فيها الآخر لكن أن تقف على الحياد وتقول الحقيقة فهذا ضرب من الدكتاتورية التى لا تسمح بها حرية المصريين الجدد.
الجدية مفقودة ومقصودة فى معالجة تلك الأحداث سواء من الفرد المصرى صعوداً إلى الهيئات والمؤسسات الإجتماعية والدينية والسياسية والنظام الحاكم لها، أصبحت الأحتقانات الدينية هى اللغة التى يتكلم بها الواقع اليومى المصرى ليعبر بها عن مقدرته الإعجازية فى خلط الأوراق واللعب بكل شئ إنسانى فى المجتمع المصرى.
هل الشعب المصرى شعب بسيط وساذج وينسى بسرعة كما نسى عشرات ومئات الأحداث والمآسى فى الماضى ؟ الجواب هو نعم، لكن جزء كبير من الشعب المصرى الذى يتغذى على العنصرية يجيب على هذا السؤال بكلمة " لا "، لأن هذا الجزء من الشعب المصرى " المصريين الجدد " عايش حالة هيام وغرام ومفتون بكل ما هو دينى، لذلك فهو فى شغل شاغل عن الأنتباه لفهم مشاكله المستعصية لأنه لا يراها أصلاً وإن عرضها عليه آخر فهو يعتبرها مشاكل الناس إللى عايشين فى مناطق الإسكيمو، لكنه ولله الحمد ولهذا التدين الذى أغناه وأبعد عنه بلاوى الناس بل وأصبح فكره يسمو فوق تلك " التفاهات الإنسانية " وبقدرة قادر لو كنت تتكلم فى موضوع علمى تجد محدثيك المصريين الجدد أقصد بذلك إللى عايشين فى غرام الدين يحولون الحديث فى لحظة وفى طرفة عين إلى موضوع دينى، وبعد أن كان المصرى مبدعاً وتفوق على أجداده الفراعنة وأول من اخترع وعبأ " الشمس فى ازايز "، أصبح الآن يعبئ الإنسان والعقل والفكر والضمير والحرية والقيم والعلوم والفنون والإعلام والسياسة والأقتصاد والمواصلات ووو.. فى زجاجات مغلقة بإحكام تاركاً فقط الدين حراً يتحكم فى فناء الإنسانية المصرية !
مشكلة المريض يشعر بها عندما يقول آه أو عندما يرى الآخرون إصفرار وجهه مثلاً، لكن المصريين الجدد يشعرون بأنهم أصحاء وجدعان " وآخر جدعنة " يعلو صوتهم بعبارات ومصطلحات مرضية مثل " الفتنة الطائفية "، والموضوع أساساً لا فيه حاجة أسمها فتنة ولا حاجة أسمها طائفية، لأنها كلها مصطلحات تدل على أن هؤلاء المصريين الجدد مرضى ووصلوا لمرحلة الهزيان التى تصاحب غالباً المصابين بالحمى، والمطلوب هو العلاج السريع وهو أن يفهم هؤلاء المصريين الجدد أنهم مرضى وليسوا أطباء وما يفعلونه فى وسائل الإعلام وغيرها من مؤسسات مصر هو نصب وأحتيال وما يقدمونه من تحريض وتعريض وبث ثقافة الكراهية وسموم النفاق والخبث الواضح هو أكبر دليل على أنهم فى مرحلة الهزيان.
الظالم يعرف أنه يظلم ومع ذلك يستمر فى ظلمه وتعسفه وفى سلب حقوق الآخرين، ومن نشأ منذ صغره وتربى على أن يسير متكئاً على عكاز، سيستمر فى الإتكاء على " العكاز " ومن سيقف أمامه لينزع عنه هذا العكاز سيضربه به ليدافع عن حياته التى يشعر بأن لا معنى لها بدون العكاز، وخوفه من السقوط يدفعه إلى الإنفعال والهيجان دفاعاً عن عكازه الذى يشوه به كل القيم الإنسانية، لأنه مقتنع أن عكازه هو أفضل العكاكيز، فهل يمكن لكل واحد من هؤلاء المصريين الجدد أن يتخلى عن عكازه القديم ؟ وقبل أن أترك لنفسى الجواب، أجد تساؤل جديد يقول : هل من المعقول أن النظام الحاكم والمثقفين ورجال الدين والدنيا لا يعرفون المشكلة وعلاجها ؟ هل هو الأنهيار والإنحلال وعصيان صوت الحق والضمير والقيم ؟ هل هى الأحلام الخادعة المستحيلة التى يُستغل فيها صورة الدين بصورة إنتهازية ؟ لماذ إهانة مشاعر الآخر بأسم الدين أصبحت قيمة دينية وشرعية ؟ لماذا يحبون جلوس القرفصاء ويرفضون السير على أقدامهم والعمل بأيديهم ؟ لماذا يرفضون الإجابة ويحلمون بمجتمع هم أسياده والباقى عبيداً ؟


ميشيل نجيب