ثمة أزمة عامة تمسك بخناق العالم تكاد تقتله بل وقد تقتله فعلاً إن لم يتدارك بنو الإنسان أخطارها قبل أن تستفحل ويتجندون في مواجهة جريئة وصادقة وعقلانية قادرة على تفكيكها وإلغائها نهائياً. فحيثما تطلع إنسان اليوم وجد الأفق مسدوداً. توقفت مسارات التطور في مختلف حقول النشاط الإنساني ولم يعد يرى أية امتدادات لها فاعترى عملية تأنسن الإنسان المتقدمة عبر التاريخ إنكشافات في مواقع عديدة فضحت الأصول الحيوانية للإنسان. تبدّى ذلك بانهيار عام في القيم الإنسانية. ولهول هذا الإنهيار عاد الإنسان بصورة عامة إلى الإحتماء تحت مظلة الدين باعتقاد خاطئ منه أن جميع القيم الإنسانية التي عرفها إنما هي من مفردات الدين ؛ كما احتمى إنسان المجتمعات الشرقية أيضاً في شرنقة البطريركية. فيما قبل الربع الأخير من القرن العشرين كان العالم خالياً تماماً من تجارة الرقيق الناشطة اليوم حتى في المجتمعات الأوروبية المتقدمة وما يرافقها عادة من تجارة البغاء والمخدرات. ويعم عالم اليوم حروب الهويّات وهي أدنى أنواع الحروب التي لم يعرفها بنو البشر إلا في العهود البربرية.
الفكر الذي يعتبر عادة المنقذ الأوحد الذي ينتشل البشرية من كل وهدة تسقط فيها عبر مسيرتها التاريخية، هذا الفكر هو بحاجة اليوم لمن ينقذه. فقد تردّى حتى باتت موضوعات من مثل quot; صراع الحضارات quot; لصموئيل هنتغتون و quot; نهاية التاريخ quot; لفرانسس فوكوياما إهتمام مختلف طبقات الفلاسفة والمفكرين والمتخصصين في الدراسات الإستراتيجية رغم تفاهة الأفكار المستندة إليها ومجافاتها حقائق علوم الإجتماع والإقتصاد والسياسة واقتصارها على خطابات عقائدية متطرفة. ويتبدّى القصور الفكري الفاضح في عجز كافة علماء الإقتصاد السياسي في تحديد طبيعة النظام الدولي القائم حالياً أو قيد التشكل.
ولمحة عابرة على الإبداع الأدبي والفني لا بدّ وأن تشي بالمهانة التي وصلت إليها الفنون والآداب. لئن تجرأ أدعياء الإبداعات الأدبية اليوم في الدفاع عن موضوعاتهم التي يكتبون عنها فلن يتجرأوا في الدفاع عن أشكال إبداعاتهم. لقد فقدت سائر الأجناس الأدبية المعروفة أشكالها الجميلة التي بها فقط تتزيا أزياء الفنون الجميلة. وفي الفنون التشكيلية ضاعت كل الدلالات في توزيع الكتلة والفراغ وفقدت المضمون بالإضافة إلى الشكل. وانحطت الموسيقى فلم تعد تستثير العقول وتجنح بالخيال ولم ترقَ إلى ما فوق الأقدام.
وتعمقت الأزمة بعيداً حتى طالت المناخ والبيئة فتشكل ما يعرف بالبيت الزجاجي الذي إنعكس أثره في إختلالات حادة في القواعد العامة للتغيرات الجوية فاضطرب توزيع الأمطار على سطح الكرة الأرضية حتى بتنا نرى مناطق واسعة من العالم ينحبس عنها المطر ويجف فيها الزرع والضرع فيبتلى أهلها بمجاعات واسعة وقاتلة، ومناطق أخرى تغمرها الطوفانات المتتالية التي تغرق معها أسباب الحية ومعظم المحاصيل الزراعية. أما البيئة فقد غدت الشغل الشاغل لقطاع عريض من السياسيين والمفكرين حيث بات تلوثها يهدد مستقبل البشرية.

إزّاء كل هذه الأزمات المتنوعة لا بدّ للمرء أن يتساءل.. لماذا كل هذه الأزمات دفعة واحدة وفي وقت واحد ؟ هل ثمة مؤامرة قدريّة على بني الإنسان ؟
ليس خطأً أن يقول البعض بالقدرية. لكن هذا القدر لا يعني أكثر من التزامن (Simultaneity) والذي لا بدّ وأن يشير تحديداً إلى أن جميع هذه الأزمات إنما هي مظاهر متباينة لأزمة واحدة، أزمة عامة تفشت في كل مناحي الحياة. الأزمة لا تكون عامة إلا في حالة واحدة، عندما تستوجب الحياة نفسها تغيير وسائلها وتبديلها بوسائل أخرى مختلفة، أي عندما لم تعد شروط الحياة القائمة بمختلف أشكالها وألوانها قادرة على الإستمرار طالما أن الحياة ذاتها قد تطورت وفق سنن التطور ولم تعد كما كانت من قبل.

الأزمة الصماء
كان البلاشفة الروس قد اكتشفوا مبكراً آلية تغيير وسائل الحياة القائمة فقاموا بثورة في بلادهم جوبهت بعداء شديد قاتل من قبل قوى كبرى متـنفـذة على الصعيد الدولي تمتعت بامتيازات وفيرة وفق شروط الحياة القديمة. دافع البلاشفة عن ثورتهم حتى النهاية وأثبتوا للعالم أنهم على قدر المسؤولية. ما فاتهم فقط هو تجاهل خطورة العدو الداخلي إذ استنزف عدوهم الخارجي كل جهودهم. بعد أربعين عاماً من الحراسة الشديدة لحدود الثورة الخارجية استطاع العدو الداخلي أن يقوم بثورة مضادة ويسد بالتالي منافذ التغيير ليس أمام الروس وعالمهم الإشتراكي فقط بل وأمام العالم كله.
أمام أنظار العالم أخذت تبلى وتتعفن وسائل الحياة المتوفرة وفق شروط الإنتاج الرأسمالي التي بدورها تهرّأت أيما تهرؤ. يحدث ذلك دون أن يتعرف هذا العالم المأزوم على آلية التغيير وشكل التغيير ودون أن يكتشف ذلك البرزخ الأمين الذي عليه أن يعـبره كي ينتقل إلى عالم رحب جديد. الإنهيار الكلي أخذ يتهدد المجتمعات الإنسانية حيث لم تعد قادرة على تأمين أسباب استمرارها إلا لفترة محدودة وأخرى أكثر تحديداً من خلال تدبر بعض الدولارات المزيفة التي ستفقد كل قيمة لها في وقت قريب. مع ذلك وبالرغم من كل ذلك فإن أحداً في هذا العالم لم يشر إلى برزخ الإنفراج الذي لا بدّ وأن يتواجد في جهة ما وفق ما تقتضيه نواميس الطبيعة. البرزخ الذي كان البلاشفة الروس قد سلكوه بدا في نهاية الأمر مسدوداً مما أقنع العالم بعبثية سلوكه مرة أخرى. عالم اليوم يعاني في غمار أزمة صمّاء.
كان العالم قد عرف أزمة جزئية في مطالع القرن العشرين فحاول التخلص منها بواسطة الحرب (1914 ـ1917) والتي لم تنتهِ قبل أن يظهر إلى الوجود دولة اشتراكية عظمى هي الإتحاد السوفياتي. ثم كان أزمة الثلاثينيات وهي أزمة أعمّ وأشمل وحاول العالم مرة أخرى حلها بواسطة الحرب (1939 ـ 1945) والتي انتهت ليتمدد النظام الإشتراكي ليشمل ثلث المعمورة. غير أن الأزمة الناشبة اليوم هي أزمة عامة لم يبقَ خارجها أي جزء حي كي يعيد إنتاج بعض عناصر الحياة للعالم. إنها أزمة صمّاء لا مخرج منها كما يبدو حتى اليوم على الأقل.
فيما بعد الحرب العالمية الأولى قام نظام إشتراكي في الإتحاد السوفياتي وحقق نجاحات كبرى على صعيد التصنيع والتقنيات كما على صعيد التربية والتعليم والثقافة. وتطور الإنتاج الرأسمالي في الغرب حيث تحقق تقدم ملموس في وفرة الإنتاج. وفيما بعد الحرب العالمية الثانية بدا العالم أكثر حظاً في التطور إذ برزت الولايات المتحدة كدولة عظمى تسبق كل دول العالم في الإنتاج الرأسمالي، وبرز العالم الإشتراكي ومنه الصين يسابق الولايات المتحدة في مجمل الإنتاج ويسبقها في التقنيات. ومن جهة ثالثة نهضت حركة تحرر وطني عالمية واستطاعت عشرات الدول تحقيق استقلالها والشروع في بناء اقتصادها الوطني المستقل. فلماذا كل هذه الحيوية في التقدم وتطوير وسائل الإنتاج ينتهي بصورة مأساوية إلى أزمة عامة صمّاء خلال ثلاثة عقود فقط ؟!!
انتهت الحرب العالمية الثانية بانهيار الإمبراطوريات الإستعمارية القديمة وبروز دولة اشتراكية كبرى على الساحة الدولية مما هيّأ الأجواء لانطلاق حركة تحرر وطني عالمية استطاعت أن تحقق الإستقلال السياسي لعشرات الدول وتتيح لها الفرصة لبناء إقتصاداتها المستقلة. في العام 1971 وجدت مراكز الرأسمالية الإمبريالية الكلاسيكية نفسها محرومة من كل المحيطات التي كانت تسمح لها بتصريف فائض إنتاجها فنزلت بها أزمة قاتلة ومصيرية. بادرت الولايات المتحدة لمعالجة الأمر فأعلنت خروجها من معاهدة بريتون وود (Brittonwood) وكشف عملتها من أي غطاءٍ ذهبي كما كانت تقتضي المعاهدة. وعندما لم ينفعها ذلـك الإجـراء في شيء دعـا وزير ماليتها في العام 1974 جـورج شولتس (George Shultz) نظراءه في الدول الصناعية الكبرى الأربعة الأخرى، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا واليابان للتداول في علاج الأزمة الناشبة التي إنعكست في إضطراب أسواق النقد العالمية بصورة خطيرة وفي تضخم نقدي غير مسبوق. واجتمع رؤساء هذه الدول في السنة التالية في قصر رامبوييه قرب باريس للبحث في توصيات وزراء المالية وأقروا السياسات الواردة في إعلان رامبويية (Rambouillet Declaration) وأهم ما جاء فيه تدعيم واردات الدول النامية من خلال ما سماه quot; المساعدة quot; في تغطية العجوزات في الميزان التجاري لهذه الدول.
انطوى إعلان رامبوييه على سياسات شيطانية رمت بالعالم إلى طريق الجحيم. قرر الزعماء الخمسة الكبار حرف الإقتصاد العالمي إلى الإقتصاد الإستهلاكي (Consumerism) من خلال فتح أبواب خزائنهم المترعة باليورودولار والبترودولار على مصاريعها كي تغرف منها حكومات الدول النامية ما شاءت من قروض سهلة ميسرة شرط أن تنفقها على رفاهية شعوبها مباشرة أي بزيادة الإستهلاك الوطني من السلع والخدمات. ما وفر النجاح لهذا المخطط الشيطاني هو أن الإتحاد السوفياتي ومعه كل الكتلة الإشتراكية كان إذّاك قد دخل في أزمة مصيرية بفعل سيطرة الدوائر العسكرية على القرار السياسي ولم يعد قادراً على مساعدة الدول المستقلة النامية في تطوير إقتصاداتها. وهكذا تصاعدت ديون الدول النامية بصورة تستدعي التساؤل. ففي العام 1974 كان مجموع ديون العالم بأجمعه حوالي 70 ملياراً من الدولارات تراكمت خلال قرنين من عمر النظام الرأسمالي. في العام 75 وحده استدان العالم بما يساوي ما استدانه خلال قرنين، وفي كل سنة كان يتضاعف حجم الديون حتى وصل في مطلع الثمانينات إلى حوالي 3000 ملياراً من الدولارات. بفعل ذلك المخطط الجهنمي القذر إندفع العالم في طريق الإستهلاك المتسارع الذي تعجز عن إيقافة كل القوى والأساليب المتاحة حتى باتت جميع دول العالم تقريباً تعجز عن إنتاج ما تستهلك فتضطر لأن تغطي العجز عن طريق الإستدانة. لا بدّ وأن العالم قد تجاوز كل الخطوط الحمراء على هذا المسار الجهنمي فدولة مثل الولايات المتحدة الأميركية التي تنتج ما يزيد على ربع الإنتاج العالمي هي مدينة اليوم بأكثر من أربعة أمثال مجمل إنتاجها الوطني وبذلك أصبح إنهيارها محتماً، وهو الإنهيار الذي يعجز كل الباحثين عن تخيل كارثيته بالنسبة للعالم كله وليس لأميركا وحدها.
عكس إعلان رامبوييه خطورة الأزمة التي عانت منها الدول الرأسمالية الخمس الكبرى وهي الخطورة التي انعكست في اضطراب شديد بأسواق العملات كما ظهر بانهيار مريع في قيمة العملات الصعبة لهذه الدول حتى وصلت الفائدة المصرفية على ودائعها إلى نسبة 20% كإجراء ضروري لحمايتها.
وهكذا وجد الرأسماليون الكبار أن إقتصاداتهم لم تعد تعمل في النصف الأول من السبعينيات وكان عليهم تفكيكها واستبدالها بنظام اقتصادي يرتكز على الذات وليس على إقتصاد المحيط وراء الحدود مثل نظامهم الرأسمالي الإمبريالي لو أنهم تمتعوا بشيء من الحصافة والأمانة كذلك. لكنهم عوضاً عن تفكيكها على مهل وبصورة هادئة وسلمية سارعوا إلى رامبوييه ليؤسسوا لأنظمة جديدة في التجارة الدولية علها تنقذ إقتصاداتهم وهي على فراش الموت فساقتهم أنانيتهم وسوء تبصرهم إلى وصفة الإقتصاد الإستهلاكي (Consumersim) وغمر أسواق الدول النامية بفيضان من الدولارات.
ليس من شك في أن الهدف من فيض الدولارات على الدول النامية كان تخفيف إحتقان أسواق الدول الرأسمالية الداخلية بفائض الإنتاج المتراكم إلا أن مخططات الخمسة الكبار (G5) لم تكن بريئة من استهداف إقتصادات الدول النامية ذاتها وتفتيتها قبل أن يكتمل نموها. انتهت وصفة رامبوييه الحمقاء لأن تكون سمّاً ناقعاً فتعجل في قتل الإقتصاد الرأسمالي كما اقتصادات الدول النامية.
عالم اليوم يعيش في أرض معركة تغطيها جثث القتلى التي لا تجد من يدفنها. الأنظمة الرأسمالية في معظم الدول بما فيها الدول الكبرى لفظت أنفاسها ومثلها أنظمة الدول النامية التي قتلت قبل أن تبلغ سن الشباب. وفي جهة أخرى من أرض المعركة إنتشرت جثث الأنظمة الإشتراكية للأسباب التي أشرنا إليها. الرائحة النتنة للجيف العفنة تزكم أنوف العالم اليوم وقمة المأساة أن العالم لا يستطيع دفن كل هذه الجثث بل محظور عليه دفنها.

إذاً ما العمل ؟! إنه تساؤل برسم الإجابة من قبل سائر المهمومين بقضايا الإنسان.


فـؤاد النمـري
www.geocities.com/fuadnimri01