يتبنى الإعلام بين فترة و أخرى الادعاءات بوجود تقارب عراقي إسرائيلي محتمل. فمرة يهلل الإعلاميون لمصافحة هذا المسؤول العراقي أو ذاك لنظيره الإسرائيلي في المؤتمرات الدولية العارضة. و تارة يقال بأن إسرائيل تمرح في شمال العراق رغم النفي القاطع للزعامات الكردية هناك و عدم توفر أي دليل ملموس على مثل تلك الادعاءات. و تارة أخرى تثار ضجة مفتعلة لا أول لها و لا آخر حول زيارة الآلوسي الجريئة للدولة العبرية مع إن الرجل ليس لديه ما يخفيه و قد أعلن عن دوافعه النبيلة بالفم الملآن. و قد تعكس هذه الادعاءات و الشكوك مخاوف داخلية و إقليمية، ربما، من سرعة تغير لعبة الموازنات السياسية الهشة التي درجت عليها دول الشرق الأوسط حتى الآن. غير أنها تتجاهل بالتأكيد عواصم التطبيع مع إسرائيل لتثير غبار شكوك قد لا تكون واقعية من أجل وضع المزيد من العصي في دواليب العملية السياسية المتعثرة أصلا في العراق الآن. كما قد فاتها أن الكثير من العراقيين يحضون الآن بفرصة تاريخية للتخلص من عقدة الخوف من التعاطي الواقعي مع إسرائيل أو غيرها.
و آخر ما تداولته الصحف هو بشأن لقاء مثنى حارث الضاري الناطق باسم هيأة علماء المسلمين ( التي يزعم أنها تمثل شريحة من شرائح السنة العرب من العراقيين ) بمسؤولين إسرائيليين أثناء تواجده في قطر. غير إن هذه التسريبات الإعلامية يمكن أن تفهم في سياق التراشق بالاتهامات الجاهزة كالتخوين و العمالة، مع إن التواصل مع إسرائيل لم يعد سبة إلا في نظر ذوي العقول المضحكة. ثم إن هذه الإشاعات تصور الأمر و كأن هيأة الضاري التي تدور حولها شبهات الطائفية العنصرية ليس هنالك ما يدينها سوى الاتهام بالعمالة لإسرائيل، رغم علم الكثير بأنها و أمثالها تتحمل مسؤولية كبيرة عن التحريض على العنف الطائفي و عدم الاستقرار و استرخاص الدم العراقي بشبهة ما يسمى بمعاونة الاحتلال. إذ يستهدف جيش و شرطة العراق المدعومان من القوات الأجنبية الصديقة مع إن استمرار بقاء هذه القوات هو لحاجة الحكومة المنتخبة التي تعبر في نهاية المطاف عن رغبة الشعب الذي انتخبها في بسط سيادة الدولة على المناطق المضطربة غربي البلاد.
فبحجة التلفع بشعاري المقاومة و الجهاد، و هذا كلام حق يراد به باطل، يبدو فيه و كأن الهيأة قد عقدت حلفا شيطانيا غير معلن لتقاسم المهام مع فصائل الإرهاب الإسلامي المتطرف و بقايا النظام السابق من أجل استعادة القبضة على السلطة من جديد. حيث تقوم عصابات التكفير الإجرامية ذات الخلفية الوهابية بكل أعمالها القذرة التي من شأنها إسقاط الحكومة الحالية أو شلها و تعطيلها عن أداء مهامها، في أقل تقدير، على أمل أن تكسب هيأة الضاري و من يقف ورائها، في النهاية، موقفا تفاوضيا يجعلها تتكلم من موقع القوة لإرغام الشيعة و الأكراد على مجرد قبول مبدأ ضمان حصة طائفية ثابتة للسنة العرب أكبر من حجمهم الحقيقي، مثلما تم طرح ذلك من قبل على الدكتور الجعفري إبان ترأسه لمجلس الحكم لأول مرة.
و بالنتيجة، سيتم السعي لإفراغ العملية الديموقراطية المتوقعة من أي محتوى فعلي لها. و هذا هو الهدف المطلوب من تحرك هيأة الضاري الملطخة بدماء العراقيين و التي تدعمها قوى إقليمية و دولية تعتقد أنها ستتضرر لو حالف النجاح تجربة ديموقراطية حقيقية في عراق ما بعد صدام حسين. و لا ندري إلى متى سيستمر تغاضي هذه الهيأة و من مثلها عن واجبها في التحريم و النهي عن الانخراط في فتنة ما يسمى بالمقاومة درء لشبهات الوقوع في المفسدة الطائفية على الأقل. إذ ليس من المعقول أن تكتفي بمجرد الإدانة و الشجب اللذين لا يرقيان إلى مستوى المسؤولية الأخلاقية من وجهة النظر الشرعية. غير إن المثير حقا هو استغلال شماعة الاتهام بالعمالة لإسرائيل بمناسبة أحيانا و من دون مناسبة في أحايين كثيرة لدرجة بتنا فيها نتعلل بوجود مؤامرة إسرائيلية كلما واجهتنا المصاعب. و في ظني يستند هذا السلوك المرضي إلى تراكمات ثقافة العداء و الكراهية و الإقصاء التي اعتاشت عليها حكومات و تنظيمات سياسية و اجتماعية و دينية تكسبت من وراء لعبة ما يسمونه بالصراع العربي الإسرائيلي العقيم.
و يبدو لي إن عدم قدرة العرب و المسلمين في الشرق الأوسط على التعامل مع إسرائيل من باب الواقعية السياسية الممكنة، على الأقل، مؤشر خطير على وجود خلل تضرب جذوره عميقا في العقلية التي تتحكم بمجتمعاتنا و التي لا تريد لها أن تخرج من ماضي أحقادها الدامية ؛ تلك الأحقاد التي ولدتها قرون من الكراهية الناجمة عن الخوف المرضي من الآخر المختلف حتى لو كان من أبناء الجلدة الواحدة و الدين الواحد. فكيف لنا أن نتصور بعد ذلك علاقة سوية لعربي و مسلم مع الإسرائيليين يمكن أن تساهم على نحو أفضل في إيجاد حلول ملائمة للمشاكل العالقة بينهما من دون تصفية العلاقة أولا مع ذلك التاريخ الطويل من العداء و الكراهية.
في الواقع نحن أمم موبوءة بثقافة الإقصاء الطائفي و العنصري. و كل ما فعلناه تقريبا طوال تاريخنا كمسلمين أو كعرب لم يتجاوز صلف الإدعاء كذبا بقيم ثقافة التسامح و قبول الآخر غير الموجودة إلا في الدعايات السياحية لرجال الدين و الدولة عندما يخاطبون ما يسمونهم بالأغراب خارج الحدود للإيحاء بأنهم متحضرون مثلهم تماما. و لكنهم في الواقع، لا يفعلون سوى الترويج لبضاعة لا وجود لها عندهم في الأصل و إنما يفعلون ذلك تحت وطأة الشعور الزائف بالندية و تفاديا للإحساس المزعج بالنقص. كما إننا لا نريد أن نعترف بأن الخطابين القومي العنصري و الإسلامي الطائفي كليهما قد ثبت عجزهما الفاضح عن تقديم أفضل الحلول الممكنة للمشاكل التي يعاني منها واقعنا الاجتماع – سياسي المعاصر. و ذلك بسبب هيمنة النظرة الأحادية التي تدعي احتكار الحقيقة و تستبعد كل رأي مغاير لها على أسس عنصرية أو طائفية في غالب الأحيان.
و يبدو لي الأمر أحيانا و كأن مجتمعاتنا قد نضبت حيويتها العقلية و الأخلاقية فاستسهلت الركون إلى مستحكم العادة في النظر و السلوك حتى بات من الصعب عليها أن تتحلى بشجاعة القدرة على اكتساب عادات و قيم و أفكار جديدة بالسرعة التي تؤهلها للحاق بركب المجتمعات التاريخية مثلما تفعل باقي الشعوب الحية. و لا أقول هذا من باب جلد الذات أو الشعور بالدونية إزاء الآخر المتقدم. و لا كما قد يتوهم البعض في أن ذلك يمكن أن يدخل في باب الترويج لعلاقات إسرائيلية متوقعة مع كل دول المنطقة أجلا أم عاجلا، أو للالتفاف على حقوق الفلسطينيين المشروعة.
لكني في نفس الوقت أميز بين معقولية المطالبة بهذه الحقوق و بين الإرهاب الذي قد مارسته، على سبيل المثال لا الحصر، منظمتا حماس و الجهاد، مثلا، و اللتان استهوتهما غواية سفك دماء الأطفال و المدنيين الأبرياء من اليهود، إخوانهم في الخلقة إن لم يكونوا إخوانا لهم في التوحيد. و هذا بالطبع لا يعني أن نتناسى خطورة عدم تمكن الفلسطينيين حتى الآن من إعادة النظر في وجود دولة إسرائيل الفعلي على الأرض و التعامل على أساس ذلك بواقعية سياسية تضمن الوصول لحلول ملائمة لكلا الطرفين. فمن دون هذه النظرة الواقعية لمعالجة الصراع المؤلم بين الطرفين سيبقى المجال مفتوحا لانتهاز رجال الدين الفرصة من أجل تمرير تصوراتهم اللاعقلانية التي تعود إلى القرون الوسطى تحت ذريعة الالتفاف حول راية خرقة الجهاد التي فقدت تماما مبرراتها التاريخية منذ مئات السنين.
و في ظني لا يتلفع بهذه الخرقة إلا من عجزوا عن الإيمان بعدالة قضيتهم و خلت قلوبهم من الاعتقاد بالمشروعية الوطنية التي تكفي وحدها للانضمام تحت لوائها بدلا من التماسها لدى ذوي العمائم و اللحى ممن يتاجرون بالمقدس فيجترون أقوالا لم تعد ملزمة لأحد. ثم من قال إن مقاطعة إسرائيل و إظهار العداوة لها سيحققان بالفعل المطالب المشروعة. فلقد رأينا رأي العين ما وصل إليه العنف الفلسطيني من انحراف و كيف أضعف ذلك قضيتهم العادلة برمتها. كما إن الدول العربية و الإسلامية التي طبعت علاقاتها مع إسرائيل لم يمنعها هذا التطبيع لا من مناصرة الفلسطينيين و لا من المطالبة بحقوقهم المشروعة. في حين لم يكسب الفلسطينيون من عنتريات من زايدوا عليهم و تاجروا بقضيتهم غير المزيد من الأعباء و المشاكل المتراكمة إذا لم نقل الكوارث.
و بعد هذا كله لماذا هذه الحساسية من إمكانية قيام علاقات عراقية بالذات مع إسرائيل؟ هل يعود الأمر إلى خشية العرب من افتضاح أملهم الواهي في أن يلعب العراق مرة أخرى دور كبش الفداء لكي يبقى بستانا و حديقة خلفية تنام في ظلالها قريش و بعرانها وهي تحلم في أن تتساقط عليها ثمار الوحدة العنصرية الموعودة رطبا جنيا؟ أم لأن الكهان المسلمين يخشون من أن تفتضح دعاواهم الطائفية الإقصائية المتعجرفة و استغلالهم للدين من أجل الوصول إلى السلطة بأي ثمن، إذا ما نجحت تجربة ديموقراطية محتملة في العراق ليست لديها عقدة إزاء إمكانية قيام علاقات مستقبلية مع إسرائيل، الدولة الديموقراطية الوحيدة تقريبا في الشرق الأوسط رغم كل انتقاداتنا لها؟ و مع إن الوضع الراهن في العراق لا يشجع على مد جسور الصداقة مع تل أبيب في المرحلة الحالية رغم حاجة العراق إلى ذلك في ظل الخذلان العربي و الإسلامي المشترك، إلا إنه ليس هنالك ما يعيق فعلا إقامة مثل هذه العلاقات مستقبلا. فدولة إسرائيل موجودة بالفعل على أرض الواقع، شئنا الاعتراف بذلك أم لم نشأ، مثلما ينبغي لنا أن نصدق حقيقة أن نظام صدام الفاسد قد ذهب إلى مزبلة التاريخ من دون رجعة، و إن الشعب العراقي لا بد له و أن يتنسم عبير الحرية التي تهب رياحها الآن على منطقة الشرق الأوسط بأكملها.

كاتب عراقي مقيم في عمان