تعتبر التجربة السياسية الألمانبة من التجارب الغنية، ومن الممكن الاستفادة منها في طريقة إعداد الدستور العراقي. فقد بدء الألمان بتشكيل الأحزاب السياسة والأجهزة الإدارية في مناطق الاحتلال الفرنسية والأميريكية والإنكليزية المنفردة ونمت الحياة السياسة من تحت شيئًا فشيئا.
وفي عام 1949 قررت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا ضم المنطقتين الواقعتين تحت سيطرتهما إلى بعضهما البعض ليشكلا معا منطقة اقتصادية واحدة، وقامت قوات الاحتلال بإجراءات مهمة في المناطق الغربية هدفها تخفيف حدة البؤس والعوز في هذه المناطق والسير في إجراءات مهمة لإقامة دولة على أسس ديمقراطية حرة، وقامت الدول المحتلة لألمانيا، في إعداد العدة والتوصيات لعقد مؤتمر دستوري في الولايات الألمانية الغربية، وأقام الحلفاء جسرًا جويا بين برلين الغربية وألمانيا الغربية لتزويدها بالتموين اللازم وقدمت أيضا مساعدة هامة للدولة الناشئة ضمن مشروع مارشال وحصلت ألمانيا الغربية خلال الفترة 1948-1952 على 1.4 مليار دولار لأعمار البلاد.
اعتمدت ألمانيا الغربية مع الإصلاح النقدي والنظام الاقتصادب القائم على حرية السوق والتكافل الاجتماعي وهذا النظام يسعى إلى جعل الدولة ودورها مقتصر على التنسيق بين أرباب العمل والعمال بين السعي إلى الربح والرفاه العام، وكان النظام الاقتصادي الجديد يهدف إلى الحيلولة دون سقوط الرأسمالية في مستنقع الفساد ودون قيام النظام الاقتصادي المركزي المخطط الذي يقضي على الإبداع والمبادرة.
وفي هذا الوقت صدر ( القانون الأساسي) الذي اعتمد إضافة إلى المبدأ الاقتصادي المذكور، ثلاثة مبادئ مكملة أخرى هي، مبدأ سيادة القانون، مبدأ التكافل الاجتماعي، مبدأ بنية الفدرالية للدولة، وقد سمي الدستور عمدًا (القانون الأساسي) لإبراز طابعه المؤقت، أما الدستور النهائي فقد تأجل إصداره إلى بعد توحيد ألمانيا.
وفي 23 أيار عام 1949 أعلن المجلس البرلماني في بون القانون الأساسي الذي صار نافذًا اعتبارًا من هذا التاريخ. تضمن القانون الأساسي بطبيعة الحال كثيرًا من تصورات القوى الغربية المحتلة وتمت الاستفادة من التجربة الألمانية في عهد جمهورية فايمار وتجربة الحكم النازي. وهكذا قام المؤتمر الدستوري الذي انعقد في جزيرة ( هيرن كيم زيه ) من 10- 23 آب 1948 وتم عقد المؤتمر البرلماني المؤلف من (65) عضوا منتخب من برلمانات الولايات الألمانية واجتمعوا في بون في الأول من أيلول عام 1948 وقاموا بإعداد القانون الأساسي في 8 أيار 1949 وتم إلزام الحكومات والأحزاب والقوى السياسية بأن تتقيد بمبادئ تحول مسبقًا دون العبث بالحقوق السياسية، وأصبح أي سعي إلى إلغاء النظام الديمقراطي الحر وأي محاولة باتجاه الدكتاتورية اليمينية أو اليسارية عملا ممنوعا يعاقب عليه قانونيا، وفي الوقت نفيه تشكلت المحكمة الدستورية مهمتها حماية الدستور وهي التي تقر ما إذا كانت الأحزاب السياسية مخالفة للدستور أم لا، كما تم التأكيد على أهمية النظام الفدرالي ونظام التكافل الاجتماعي والنظام الديموقراطي. كما أن الساسين الألمان الذين ظهروا بعد الحرب العالمية الثانية على المسرح السياسي الألماني، أخذوا الدروس من ويلات الدكتاتورية وآثامها بحيث اعتمد هؤلاء السياسيين على التقاليد الديموقراطية المستمدة من روح انتفاضة 1848 و 1919 ومن ثورة الضمير في 20 تموز 1944 وقد جسدوا جميعهم في أعين العالم ( ألمانيا الأخرى) وكسبوا احترام القوة المحتلة، وظهر رجال عظام من أمثال رئيس الجمهورية الأول ( تيودر هويس) من حزب الديموقراطي الحر والمستشار الألماني الأول (كونراد أديناور ) من الحزب الديموقراطي المسيحي (لودفيغ إرهار)من الجزب الديموقراطي المسيحي أيضًا والأب الروحي للمعجزة الاقتصادية الألمانية، وظهر قادة عظام من الحزب الاشتراكي الديموقراطي المعارض من أمثال (كورت شوماخر و إيرش أولنهاور و كارلو شميت) وهم أضفوا على النظام الألماني سمعة طيبة لا يرقى إليها الشك وتمكنوا شيئا فشيئا من توسيع الحقوق التي يتمتع بها الشعب الألماني في مجال المشاركة في اتخاذ القرار. فقد كانت التجربة الألمانية ولازالت تجربة مفيدة وغنية في مجال اعداد الدستور وفي مجال إعداد القانون الأساسي المؤقت وتحويله إلى دستور ثابت وفي مجال النظام الفيدرالي وهذا ما نتطرق إليه في مقال قادم بعونه تعالى...

علي منهل
مؤرخ و باحث – ألمانيا
Ali Menhel
Am Rosenrain 18
53179 Bonn – Germany
E-Mail : [email protected]