من جبل آثوس في اليونان إلى الواحات الخارجة في مصر
من خلال دوامة الحرب العراقية وتوابعها تتسرب إلى بؤرة الضوء الإعلامي لمحات عن وضع المسيحيين هناك. فعلى عهد صدام لم يصبهم أكثر مما أصاب العراقيين عامة ولم يستهدفوا كالشيعة والأكراد مثلا وذلك لانعدام أطماعهم السياسية. أما عن طارق عزيز فقد استخدم كواجهة ملطفة للنظام الصدامي وكحلقة اتصال مع كنيسة روما عندما كانت الحاجة تدعو لذلك.
ولكن عندما انهار النظام وجد مسيحو العراق أنفسهم بلا قوة سياسية أو عشائرية تسندهم. واتخذ من اشتراكهم في العقيدة مع القوات المحتلة ذريعة لترويعهم وابتزازهم وتفجير الكنائس وخطف رجال الدين. وجرى تهميشهم بحيث لم تصل صناديق الاقتراع في أول انتخابات ديموقراطية إلى الأسيريين في شمال العراق. مما أسفر عن هرب ما يقرب من ربع مسيحي العراق إلى سوريا والأردن أو لأوربا وأمريكا واستراليا.
وفي سياق سعي تركيا إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي تظهر تلميحات عن ضرورة اعتراف الأتراك أولا بالمجازر والتطهير العرقي والإبادة الجماعية التي ارتكبوها في حق الأقليات المسيحية وخاصة الأرمن والأشوريين خلال الحرب العالمية الأولى.
أما في السودان فقد استطاع مسيحو الجنوب بعد أن دفعوا ثمنا غاليا واستخدموا السلاح والتفاوض - إرغام السلطة السودانية على توقيع اتفاقية السلام.
ومن الغريب أن من يربطون المسيحية بالغرب يتناسون سهوا أو عمدا أن هذه العقيدة انبعثت من الشرق وامتدت جذورها فيه. وخلال الفترة ما بين القرن الرابع إلى السابع كانت منطقة شرق البحر المتوسط هي قلب المسيحية ومركز حضارتها.
ومن المؤسف أن تقبل المسلمين )بصفة عامة( للأقليات المسيحية - والذي حافظ على وجودها على مدى القرون الماضية بل وتمتعها بحقوق المواطنة الكاملة في العصر الليبرالي في بدايات القرن العشرين - لم يدم. ونجحت رياح التغيير التي اجتاحت المنطقة وحملت معها اتجاهات الإسلام الأصولي المتشدد في أن تعصف بمسيحية الشرق وتطمس معالمها.
ولسوء حظ المسيحيين كانوا دائما يقعون بين فكي الرحي في الصراعات الدائرة في منطقة الشرق الأوسط ويحاصرون بين مطرقة وسندان الأطراف المتناحرة.
وفي النهاية دفعتهم موجات الاضطهاد والتفرقة ونظرات الشك والتكفير إلى ترك موطنهم والهجرة بأعداد متزايدة. ويعيش حاليا في الشرق الأوسط ما لا يزيد عن 12 مليون مسيحي يجاهدون في سبيل البقاء وسط أغلبية كاسحة من المسلمين. واضطر الكثير منهم إلى الانزواء في غيتوهات منغلقة مهمشة أو الرضاء بأوضاع تقترب من الذمية.
وباستثناء الأديرة العامرة والكنائس المحفوظة في اليونان ومصر وسوريا - بصفة خاصة - فإن نظائرها في تركيا ولبنان وفلسطين على وشك أن تخلو من آخر قاطنيها وتغدو أطلالا مهجورة أو مزارات آثرية.
وفي مواجهة هذا الخطر الداهم قد يتضمن الإعلام الغربي بين حين وآخر برنامجا او مقالا عن محنة مسيحي الشرق وقد تدرج هذه القضية على جداول البحث في مركز الدراسات. ونادرا ما قد يطلق أحد المستنيرين العرب صيحة تحذير من عواقب هجرتهم المتنامية. فعلى سبيل المثال نوه الأمير طلال بن عبد العزيز في مقاله الشهير عام 2002 بالدور الحضاري والتاريخي والاقتصادي والروحي والثقافي للمسيحيين العرب وأوضح أن رحيلهم عن أرض آبائهم سيوجه ضربة قوية إلى مستقبل المجتمعات العربية وسيعني اختفاء حلقة الاتصال بين الإسلام في الشرق والمسيحية في الغرب.
ولكن من المؤكد أن الاهتمام الذي قد يوليه العالم إلى خطر انقراض فصيلة من الحشرات أو الزواحف السامة أكبر بكثير من اكتراثه بخلو أوطان الشرق من سكانها الأصليين.
ومن المؤلم أن العالم الحر يميل إلى تجاهل محنة الأقليات الدينية في خضم تعقد الصراعات الدائرة في منطقة الشرق الأوسط. وأقرب مثل على ذلك هو الحال في فلسطين والعراق.
ففي فلسطين يستغرب المسيحيون من انحياز الغرب إلى إسرائيل على طول الخط رغم المعاناة التي يلاقونها مضاعفة: من الإسرائيليين من جهة ومن العرب المسلمين من جهة أخرى. حيث اعتصروا ما بين مطرقة الاحتلال والتشريد والطرد من أراضيهم وسندان صبغة القضية الفلسطينية بصبغة إسلامية على يد حماس والجهاد وأمثالهما من المنظمات.
وفي العراق تجد الأقليات التي قمعت تحت حكم صدام من يسمع لها - فالأكراد يحتضنهم المجتمع الدولي والتركمان تساندهم تركيا أما الأقليات المسيحية فإن القوات الغربية نفسها لا تعمل الكثير من أجل حمايتهم حتى لا يزيد ذلك من حدة العداء لها ويؤدي إلى تصاعد الهجوم على قواتها.
في هذه الأجواء يعتبر الحديث عن كتاب »من الجبل المقدس.. رحلة في ظلال بيزنطة« أنسب ما يكون.
هذا الكتاب لا يجب أن تقربه ما لم تكن تملك الوقت الكافي لإكماله فهو من نوعية الكتب التي تستغرقك تماما فلا تستطيع تركها قبل الفراغ منها. هو مزيج من أدب الرحلات والسياسة والتاريخ المرصع بقدر كبير من الفكاهة والسخرية.
المؤلف هو ويليام دالريمبل الذي ولد في اسكتلندا وبدأت كتبه تحصد الجوائز وتتصدر قائمة المبيعات وهو لم يتعد عامه الثاني والعشرين. وهو يمتلك كل المقومات التي تؤهله ليكون من أبرز كتاب أدب الرحلات: خليط من عشق التاريخ والرغبة في فهم كل ما يدور في الحاضر ومحاولة استشراف المستقبل. الشجاعة.. حب الاستطلاع والمغامرة. الروح الفكهة... القدرة على التواصل مع رجل الشارع البسيط أو مع السياسي المحنك وعلى انتزاع الحقيقة من كليهما. الصبر على الاعتكاف في دير بحثا عن معلومة مختبئة في تلافيف مخطوطة قديمة أو الانزواء في كهف لاكتشاف نقش على جدار مظلم.
ظهرت الطبعة الأولى من الكتاب عام 1997 حيث أمضى المؤلف ما يقرب من ستة أشهر عام 1994 في رحلة اقتفى فيها أثر الرحالة العظيم الراهب البيزنطي جون موشوس وتلميذه سوفرونيس السوفسطائي في رحلتهم الشهيرة إلى أديرة الإمبراطورية الرومانية الشرقية في أواخر القرن السادس الميلادي. وكان الهدف من هذه الرحلة هو جمع مخزون حكمة وأقوال ومعجزات آباء الصحراء على يد شهود عيان لهذا العصر الذهبي للمسيحية قبل ضياع معالم هذا العالم الذي كانت أركانه قد بدأت في التصدع. حيث أصبحت الإمبراطورية البيزنطية محاطة بالأعداء ومعرضة للهجمات من قبل الفرس وبدو الصحراء. حتى الأديرة لم تسلم من الاعتداءات والحرق وقُتل الرهبان أو اقتيدوا كعبيد. ثم تلى ذلك الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي.
ودون موشوس مشاهداته في مخطوطة »المروج الروحية« والتي كانت من أشهر مؤلفات عصرها. وهكذا كان موشوس وسوفرونيس شهودا على الفصول الأولى من تراجع المسيحية في الشرق وكانت مشاهدات »المروج الروحية« مقدمة لتراجيديا مازالت فصولها الأخيرة تتكشف يوما بعد يوم.
وبعد أربعة عشر قرن جاء كتاب ويليام دالريمبل ليسجل المراحل المتأخرة أو كما يقول المؤلف "بداية النهاية" لهذه الكارثة: تراجع المسيحية في موطن المسيح.
وفارق موشوس الحياة في القسطنطينية ودفن حسب وصيته في دير في أورشاليم مسقط رأسه. أما تلميذه سوفرونيس فقد أصبح بطريركا لأورشليم وبعد حصار دام عاما اضطر من خلال دموعه إلى تسليم مفاتيح المدينة إلى عمر بن الخطاب. ومات بعدها بشهور قليلة كسير القلب ودفن بجوار معلمه في المدينة المقدسة.
يرصد كتاب دالريمبل مظاهر انحسار المسيحية في موطنها الأصلي. إنها مرثية حزينة تهزك.. توقظك.. مع صفحات الكتاب تكتشف حقائق مفزعة تفتح أعين القاريء وخاصة الذي لا ينتمي لهذا الجزء من العالم. في تعليقه على الكتاب كتب أحد النقاد الإنجليز قائلا: "كلما توغلت في الكتاب كلما شعرت بالصدمة وطفقت أسأل نفسي لماذا لم نعرف - نحن في الغرب - هذه الحقائق من قبل؟"
ويخفف الكاتب من وقع المأساة التي يروى تفاصيلها بالملح والنوادر والمفارقات الطريفة التي ينثرها في ثنايا الصفحات.
فيتفكه على لسان طالبة يونانية من تعصب الأتراك وجهلهم بالتاريخ لدرجة أنهم يدعون أن "هومر" الشاعر الإغريقي صاحب الإليادة والهوميروس تركي الأصل واسمه الحقيقي "عمر"!!
ويروي إحدى النكات الساخرة التي كانت تتردد بين السوريين عن الرئيس الراحل حافظ الأسد: بعد ظهور انتخابات الرئاسة، أسرع رجاله ليبشروه بالنتيجة قائلين : "لقد اختارك 99% من الشعب وامتنع فقط 1% عن التصويت. فماذا تطلب أكثر من ذلك؟!" فكان رد الأسد: "شيء واحد فقط : أسماء وعناوين ال 1%".
ورغم تعاطفه الشديد مع محنة المسيحيين فإن ذلك لم يمنعه من أن ينظر إلى بعض تصوراتهم ومواقفهم نظرة ناقدة بلا قسوة، ساخرة بلا تجريح. فعلى سبيل المثال يروي أن الراهب المسئول عن المكتبة في دير إيفيرون في اليونان لم يوافق على أن يطلع ويليام على المخطوط الأثري للمروج الروحية، إلا بعد أن وعد بأن لا يخبر مخلوقا بأنه "هرطوقي" وهو ما يعني في مفهوم رهبان هذا الدير (أي شخص غير ارثوذكسي).
ولاحظ بأسف الخوف الذي يسيطر على تصرفات الكثير من مسيحي الشرق. وهو ما يدفع مثلا أحد تجار الأثاث الأرمن المسيحيين في بعلبك إلى أن يعلق لافتة كبيرة على واجهة متجرة تبايع آية الله الخوميني. ويجعل الأرمن الباقين في تركيا يتظاهرون حسب أوراقهم الرسمية بأنهم مسلمون بينما يتسللون إلى الكنيسة سرا لنوال سر المعمودية. وعندما حاول معرفة الحقيقة وراء الاعتداءات التي وقعت على كنائس قبطية في منطقتي شبرا وعين شمس فوجيء بجدار من الصمت ومحاولة للإنكار من جانب الأقباط لوجود أي مشاكل مع المسلمين.
وفي ثنايا الكتاب يبرز المؤلف لقطات مؤثرة عن مدى امتزاج أتباع الديانات السماوية من بسطاء الناس. ويأخذك العجب من أن هذه المظاهر مازالت تعيش وسط تيارات التعصب والكراهية السائدة.
ففي قرية بيت جالا بجوار بيت لحم توجد كنيسة مار جرجس للروم الأرثوذكس وهي تعتبر مزارا لأتباع الديانات الثلاث. فالمسيحيون يعتبرونها مكان مولد القديس "مار جرجس" واليهود مكان ميلاد النبي "الياس" ومئات من المسلمين يزورون الضريح تبركا بسيدي "خضر". وعندما تستجاب دعواتهم ويرزقهم الله بالخلف الصالح يقدمون بكل بساطة للكنيسة هدايا تشتمل على سجاد للصلاة تزينه صور مكة المكرمة.
وبعد انتهاء الحرب الأهلية عاد الدروز في إحدى قرى لبنان إلى التردد على الكنيسة المارونية كلما أصابهم مرض أو ضيقة وتناسوا تماما العداء المستحكم بينهم وبين المارونيين.
وعندما زار الكاتب ضريح "مار جرجس" في إحدى الجزر قرب اسطنبول وجد الأتراك المسلمين يفردون سجادة الصلاة ويتوجهون في تعبدهم باتجاه مكة وبجوارهم اليونان الأرثوذكس يشعلون الشموع أمام أيقونة القديس.
أما في كنيسة دير القديسة مريم في سيدينا بسوريا فقد فوجيء برؤية مسلمين ملتحين يركعون وسط سحب البخور ونسائهم الملتفات بالشادور الأسود يمضين الليل أمام أيقونة العذراء التي رسمها القديس لوقا يأكلن من الشمع الذائب ويشربن من الزيت المقدس. وعندما تستجاب طلباتهم وينجبون قد لا يتحرجوا من إحضار الأطفال لتعميدهم في الكنيسة وفاء لنذر نذروه.
وفي حلب رأى المسيحيين يزورن ضريح النبي "يوري" وينحرون الذبائح عندما يتحقق لهم الشفاء من الأمراض.
واستخدم المؤلف أسلوب تدوين اليوميات. ولذا ففي الأجزاء التالية من هذا العرض سنصحبه في مسار رحلته الذي بدأها من اسكتلندا ومنها إلى جبل آثوس في اليونان ثم إلى اسطنبول وأنطاكيا. وانتقل بعدها إلى سوريا ثم الضفة الغربية وأورشليم وانتهى بمصر: من الإسكندرية إلى الواحات الخارجة في الصحراء الغربية مارا بالقاهرة ودير القديس أنطونيوس في البحر الأحمر وأسيوط ودير المحرق.
وسنصحبه في ارتحاله ما بين قطارات ولوريات وحافلات ليلية إلى مراكب وعربات تاكسي متهالكة وأحيانا سيارات حكومية فارهة.
وسنقيم معه في صوامع عارية في أديرة مهجورة وأخرى مأهوله في أديرة عامرة بالخدمة والزوار. في حجرات فنادق تفتقر إلى الراحة والنظافة وفي أخرى يفوح منها عبق الماضي العريق. سنزور بيوت بسيطة متقشفة وقصورا فارهة تزهو بالعز والثراء.
فإلي لقاء قريب لنتابع رحلتنا في ظلال بيزنطة.
التعليقات