أصبح الإنسحاب من قطاع غزة أمراً واقعاً بعد أيام من إحياء الذكرى السابعة والخمسون للنكبة والتي إعتبرتها الصحف محطة سوداء في تاريخ الشعب الفلسطيني ولاسيما أن هناك خمسة ملايين فلسطيني في الشتات، يطالبون بحق العودة والحقوق المدنية لهم في أماكن وجودهم ولكن العزاء هو أن هذه السنين كانت مصدراً للعبر والإستفادة من درس هذا الحدث المأساوي للإنطلاق نحو الإحتفالات بيوم الجلاء والتحرير جراء الإنسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة وهدم المستوطنات فيها.

ولم تنهار أحلام الشعب الفلسطيني بالتحرر من الإستعمار وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس رغم بطش التنظيمات الصهيونية، والقيود العربية ورغم الدموع والتشرد والخوف من الهزيمة التي عرفت فيما بعد باسم "النكبة" وبدا اللاجئون واثقين من العودة لديارهم وفي هذه الذكرى تبدو حقائق الواقع أقسى من أحلام الماضي وآلامه.

وها نحن اليوم نرى قطعان المستوطنين وقد جلوا عن المستوطنات طواعية وقسراً بعد ما كان يعدهم قادتهم بالعودة الى أرض الميعاد، أرض الفردوس المفقود نراهم قلقون من المستقبل وهم يرون شارات النصر على أيدي الشعب الفلسطيني.

ورغم هذا الإنسحاب لم يعترف الإسرائيليون حتى يومنا هذا بالمسؤولية عن نكبة الشعب الفلسطيني أو يخففوا من تعنتهم إزاء حق عودة اللاجئين الذي كفلته لهم قرارات الشرعية الدولية
وفي الوقت نفسه يعرب الجيش الإسرائيلي عن "تفهمه العميق" لما وصفه بـ "الألم" الذي يشعر به المستوطنون، وينظر الفلسطينيون إلى خطة شارون لإخلاء مستوطنات قطاع غزة على أنها انتصار للمقاومة الفلسطينية المسلحة ضد إسرائيل كما يرون أن الانتفاضة قد أسهمت في تنفيذ الحقوق الفلسطينية التي فشلت المفاوضات في تحقيقها.

ولكن ماذا بعد الإنسحاب فقد نقل عن شارون قوله أن المجموعات الفلسطينية قد لا تستمر بالالتزام بالهدنة الحالية التي تعهدت بها للسلطة الفلسطينية، ولكنه لم يتحدث عن الأسباب التي دفعته لهذا الاعتقاد ولم يشر إلى الانتهاكات التي تقع من الطرف الإسرائيلي للهدنة غير المعلنة بين إسرائيل والفلسطينيين.

وفي هذه الأثناء تضاربت تصريحات المسؤولين الإسرائيليين بشأن تقييمهم لآثار الانسحاب، حيث أكد وزير المالية الإسرائيلي المستقيل بنيامين نتنياهو أن خطة الانسحاب الإسرائيلية المزمعة "ستشجع الإرهاب" وتهدد مسار عملية السلام وقال أيضاً ان خطة رئيس الوزراء ارييل شارون للانسحاب من غزة قد تجعل اسرائيل تواجه خطر الموت ونحن نواجه عدوا لا يهدد اسرائيل فحسب، بل كذلك مصر والاردن.

أما وزير خارجية إسرائيل سيلفان شالوم فقد أطلق تصريحات عن إتصالات حثيثة مع الدول العربية لتطبيع العلاقات مع إسرائيل وكأن الثمن الذي ينبغي أن يدفعه العرب بعد إنسحاب إسرائيل من قطاع غزة هو التطبيع وخصوصاً مع الدول الخليجية ودول شمال إفريقيا وسيتم ذلك بدعم أميركي.

إن ما جرى من هزيمة نتاج تراكم الفشل العربي من جهة وتراكم النجاح الصهيوني من جهة أخرى، فإلى متى تبقى سياسة "صم بكم عمي" هي المعتمدة عربياً تجاه اللاجئين ومعاناتهم اليومية وفقدانهم لحقوقهم المدنية عوضاً عن المجازر بحقهم سواء كانت على أراضي عربية مجاورة لفلسطين أم داخل فلسطين على أيدي العصابات الصهيونية.

إن العالم العربي بحاجة إلى دراسة أسباب الفشل العربي وأسباب النجاح الصهيوني وتبني فلسفة ديموقراطية جديدة بعيدة عن الخلافات وأن تعطي مزيداً من الحريات لشعوبها من أجل تحقيق الغايات الكبرى للأمة، وأن تساهم في إعادة النظر في القرارات العربية السلبية التي أتخذت بحق اللاجئين ومن ثم إعادة تطوير هذه القرارات بما يتناسب والمرحلة الحالية لتتغير طبيعة وجوهر الأداء ومستواه، والعمل الجاد للتغلب على الضعف والوهن والتجزئة والانقسام والتخلف لأن قواعد اللعبة قد تغيرت الآن.
إن نكبة 1948م أسفرت عن احتلال ثلاثة أرباع فلسطين التاريخية، وتدمير 531 تجمعا سكنيا وطرد وتشريد 58% من السكان الفلسطينيين آنذاك الى الدول العربية المجاورة ومنذ ذلك الوقت والدول العربية تتمسك بعدم إعطاء اللاجئين الفلسطينيين حقوقهم المدنية بل وتمنع تحركهم أو تسهيل مهمتهم بل وتحرمهم من العمل في معظم المهن.

ويقدر عدد الفلسطينيين الذين طردوا في أحداث النكبة بحوالي 150 ألف مواطن، إضافة إلى 350 ألفا عام 1967م، فالتقديرات الحالية لعدد المقيمين خارج وطنهم تشير إلى حوالي خمسة ملايين فرد نهاية عام 2004م. فمن كان السبب في تزايد عدد اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية ؟، وهل كان الإنسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة الذي سيتبعه إنسحاب من الضفة الغربية بسبب المقاومة والإنتفاضة في الداخل أم بسبب وجود اللاجئين في الدول العربية ؟.

إن إسرائيل لم ولن تسمح تحت أي ضغط دولي أو عربي أو غيره لعودة اللاجئين الى فلسطين فهو بمثابة إنتحار لها حيث يعيش نحو 1.7 مليون فلسطيني في الضفة الغربية، وأكثر من مليون آخرين في قطاع غزة، بينما يعيش داخل إسرائيل نحو 1.2 مليون فلسطيني ترى فيهم إسرائيل قنبلة موقوتة وخصوصاً بعد الحادث الإرهابي الذي قام به مستوطن متعطش للدماء أودى بحياة أربعة منهم في مدينة "شفا عمر" قضاء حيفا، الأمر الذي أدى بالحشود الغاضبة الى قتله بأيديهم وتحت أرجلهم وفي اليوم التالي قام أربعون ألف منهم بمظاهرات تعبيراً عن غضبهم وقوة تنظيمهم الأمر الذي جعل شارون ولأول مرة يعترف بأنها عملية إرهابية ومن قام بها هو إرهابي متعطش للدماء.

وبدأ القادة الإسرائيليون يتحدثون عن نوايا إسرائيل من الإنسحاب وعلى لسان كبار المسؤولين فيها بأنه لا يوجد لدولة إسرائيل وللسياسة الإسرائيلية أي شروط أو أي ثمن للانسحاب من قطاع غزة، وأن التوصل إلى نتيجة الانسحاب كان واضحا لأسباب وأهمها أولاً : تحريك العملية السلمية وإيصالها إلى وضع يختلف عما كانت عليه في الأربع سنوات الماضية، وحينما تم الاتفاق وضعت أجندة الإنسحاب من قطاع غزة، وثانيا : إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وليس بسر أن هناك علاقات مع معظم الدول العربية والإسلامية منها علاقات معلنة ومنها علاقات غير معلنة وحين تتحدث إسرائيل مع دول مختلفة نرى أن هنالك رغبة شديدة لتشجيع الجانبين على العودة إلى طاولة المفاوضات.
إن سيلفان شالوم وزير الخارجية منذ عام وهو يتحدث عن قضية التطبيع مع دول عربية بلقاءاته، وإتصالاته مع العرب في أوروبا وفي بعض الدول العربية، وتدعي إسرائيل بأن الانسحاب والعلاقات مع الدول العربية الفائدة منه هو كسب وبناء الثقة والتفاهم بين الإسرائيليين والعرب، بعد صراع دام أكثر من مائة عام.

إن القمة العربية في بيروت عام 2002م، قالت سلام كامل مقابل انسحاب كامل، ولكن إسرائيل تريد انسحاب جزئي وتطمع في تطبيع عربي جماعي كامل، وإسرائيل تقولها صراحة أنها أعلنت عن انسحاب أحادي الجانب كان الهدف الأول والأخير إعطاء الفرصة للعملية السلمية. فإذا إستطاعت السلطة الفلسطينية السيطرة على منطقة قطاع غزة واستطاعت أن تقول لإسرائيل وللعالم أجمع أنها تمكنت من ذلك فحينها ستعود إسرائيل إلى طاولة المفاوضات لتنفيذ خارطة الطريق رغم تحفظات شارون عليها.

وأثناء زيارة شارون الى فرنسا وجه إنتقاداً لاذعاً للدول العربية بقوله للجالية اليهودية في فرنسا بالحرف الواحد إن خطة الانسحاب من غزة ستضمن عدم العودة إطلاقا إلى حدود 1967م، وعدم عودة اللاجئين الفلسطينيين، وأرييل شارون قال في باريس أيضاً لصحيفة لوموند الفرنسية إن إسرائيل توصلت إلى اتفاقات سلام مع مسؤولين عرب ولكن الشعوب العربية لا تقبل بإسرائيل بل قال أن الخرائط في المدارس في الأردن وفي مصر لا يوجد عليها اسم إسرائيل رغم أن مصر والأردن وقعوا اتفاقيات سلام.

وتصر إسرائيل بقولها أن التوصل لاتفاق بين الجانبين يتم عن طريق مفاوضات مباشرة بين الجانبين ومن لا يعتقد أن يكون هنالك تنازلات من الجانبين وهذه تنازلات من الممكن أن تكون مؤلمة إلى الجانبين لن نصل إلى حل، الحل هو أن يكون هنالك مفاوضات مباشرة بين الجانب الإسرائيلي والجانب الفلسطيني.

ومنذ أن أُعلن عن الانسحاب الأحادي في غزة، قال كبير مستشاري رئيس الوزراء الإسرائيلي دوف فيسغلاس وكان مدير مكتبه السابق قال إن الانسحاب من غزة هدفه وضع خارطة الطريق، ومسيرة السلام، ومشروع الدولة الفلسطينية في مختبر للتحنيط.
ولكن الجانب العربي يعتقد أن الإنسحاب من غزة لم تعطى هبة للفلسطينيين وإنما تم الإنسحاب تحت ضغط المقاومة وليس بسبب الدبلوماسية العربية أو الاتفاقيات مع السلطة والدليل على ذلك إن إسرائيل تعتبر إنسحابها من طرف واحد دون التنسيق مع السلطة وهي الشريك في عملية السلام.

انتفاضة الأقصى منعت الدول التي كان لها علاقات تطبيع بشكل غير مباشر في الخليج وفي شمال إفريقيا وذلك بسبب ردة الفعل الإسرائيلية ضد الانتفاضة الفلسطينية، هذه الدول لم تطبع مع إسرائيل إلا بعد أن كانت مفاوضات أوسلو بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

أما قضية ما يقال عن التطبيع بعد الانسحاب من غزة، فربما يكون هناك شيئاً في صالونات السياسة العالمية لتشجيع إسرائيل على تنفيذ خارطة الطريق وقبول إسرائيل لمبادرة السلام العربية التي أطلقها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وتبناها الزعماء العرب في قمة بيروت عام 2002م، ومن أهم بنودها سلام كامل مقابل انسحاب كامل الأمر الذي رفضته حكومة شارون، ووسعت من عدوانها تحدياً للعرب رغم أن العرب إنتهجوا خيار السلام كخيار إستراتيجي عربي واحد.

ومن الغريب في الأمر أن الحكومات العربية تعطي التنازلات لإسرائيل ولا تعطي تنازلاً للاجئين الفلسطينيين على أراضيها إنها لغة القوة التي تؤمن بها النفس البشرية بشكل عام فهذه أحداث شرم الشيخ الأخيرة وأحداث قطارات الأنفاق في لندن أرمت بظلالها على مجمل الأوضاع السياسية في العالم وأصبحت الحرب الحقيقية هي محاربة الإرهاب والإرهابيين، ولكن في الوقت نفسه بدأت الحكومات تراجع سياساتها الظالمة على مستوى العالم بحق الشعوب المستضعفة ولهذا أستجدت بعض المواقف لدى بعض الحكومات العربية والغربية، ومن ضمنها التغيير في قوانين العمل ومنح الجنسية.

ومازال هناك شكوكاً تضع بظلالها حول موضوع الانسحاب الإسرائيلي من غزة، من طرف واحد، منبهة إلى احتمال أن هذا الانسحاب كان مخططا له ومتفقا على آلياته بين أطراف عديدة، وأنه أيضا شمل مقايضات تتخلى بموجبها السلطة الفلسطينية عن حق العودة، وعن التمسك بالقدس كعاصمة للدولة الفلسطينية المرتقبة. وتقوم الحكومات العربية بدورها في تسهيل تنفيذ هذا التنازل، من خلال قبولها بتوطين الفلسطينيين والسماح لهم بالعمل وكانت محرمة عليهم حتى الوقت القريب.

إن الدول التي أقامت علاقات دبلوماسية أو تجارية مع إسرائيل مطالبة أكثر من غيرها بحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين لديها فلا يعقل أن تقيم علاقات تجارية وسلام مع إسرائيل من جهة وتضغط على اللاجئين من جهة أخرى بحجة الضغط على إسرائيل لقبولها بعودة اللاجئين، ولايعقل أن يحق لليهودي أن يستثمر في دولة عربية ويستقدم عمالة خارجية والفلسطيني في المخيمات محظور عليهم العمل في معظم المهن إلا إذا كان هناك إتفاقات غير معلنة مع إسرائيل لمنع هذا اللاجيء من حقوقه المدنية المشروعة.


مصطفى الغريب – شيكاجو