-رؤية نقدية –

تميز الفنان الكوميدي المصري عادل امام منذ بداية مشواره الفني بسرعة البديهة وخفة الظل وبالخروج عن النص ايضا خاصة في مسرحيات كـمدرسة المشاغبين –التى حققت له شهرة غير مسبوقة- و"شاهد ما شافشس حاجة" وصولا الى الزعيم ثم "البودي غارد"، اما على مستوى الافلام فقد تمكن "إمام " من التربع في اعلى هرم الشاشتين الفنيتين لاكثر من عقدين من الزمان كـ "كومديان لا يرقى احد الى تهديد مكانته " او اقتحام أسواره التى بناها بجهد المعتمد على المادة الساخرة تماما من الواقع المعاش بالرغم من سوداويته وقتامة الصورة.. وقد تعمد في العقد الماضي في تناول مواضيع ساخنة اقلقت الشارع المصري والعربي، وبجراءة غير مسبوقة من اقرانه تمكن عادل من إصدار افلام مهمة كـ :"الإرهابي "، "الارهاب والكباب" وغيرها من الافلام التى تناولت ظاهرة الاسلام السياسي وواقع الجماعات المتطرفة التى بدأت عملياتها في الصعيد المصري في منتصف الثمانينيات بشكل بارز وتنامت مع انتهاء الحرب في افغانسان التى قادتها الفصائل الافغانية ضد القوات السوفيتية بمساعدة لوجستية وبشرية مباشرة من عدة دول عربية وإسلامية.

التناول السياسي المباشر والنقد الحاد الذي اعتمده "امام " في الافلام التى انتجها خلال تلك الفترة عرضته للكثير من المخاطر اهمها التهديد الذي تلقاه من الجماعة الاسلامية المسلحة الناشطة في بعض مناطق مصر بإهدار دمه.

ومع تنامي الظاهرة اكثر في دول اخرى وانحصارها في مصر نتيجة المواجهة الشرسة والمنظمة التى وجدتها من قبل الجهات الامنية المصرية، لاحظنا عادل امام وهو يعود الى الكوميديا الصرفة في افلام "كأمير الظلام" و "التجربة الدينماركية "، و"عريس من جهة أمنية " الخ، وهي ذات الفترة- وما قبلها - التى تم فيها تناول أسماء حديثة وشابة لخلافة إمام على عرش الكوميديا والتمييز، خاصة بعد النجاح الباهر التى حققته افلام محمد هنيدي والفنانين الشباب،خاصة بعد " صعيدي في الجامعة الامريكية" وماتلاها من افلام كـ "همام في امستردام " و" صاحب صحبه" وصولا الى "فول الصين العظيم " فضلا عن ظهور عفريت كوميديا جديد أسمه احمد سعد، وتالقه في "الليمبي" و"اللي بالي بالك " ثم "عوكل " وحاليا " بوحة " وهي جميعها افلام ذات شخصية تكاد تكون واحدة، هذا إستثنينا الفنانين الاخرين كأحمد السقا واشرف عبدالباقي والراحل علاء وغيرهم.

ووسط هذا الزخم كان على "الزعيم " ان يؤكد وجوده بشكل يتجاوز نمطية الاطلال السنوي على شاشة السينما، فالبرغم من ادائه الكوميدي الكبير في الافلام الاخيرة ( كالتجربة الدينماركية، وعريس من جهة امنية ) الا انه لم يتجاوز من حيث المستوى والايراد عتبة الافلام المنافسة للفنانين الشباب.

ولعل هذا الهاجس هو الذي يبرر عودة "إمام" مرة اخرى الى المربع ألأول المتمثل في "المدخل السياسي" الذي حتما انه يحقق إقبالا مضاعفا خاصة في ظل التوتر القائم بمنطقة الشرق الأوسط نتيجة التنصل الاسرائيلي عن الاتفاقيات المبرمة وعودة المنطقة مرة اخرى الى المواجهة المستعرة بين شعب اعزل ودولة مدججة بكل تكنولوجيات الدمار، ومتدثرة بإتفاقيات سلام لا تلتزم الا بالحد الادني منها.

عودة "عادل إمام " الجديدة عبر فلمه الأخير " السفارة في عمارة " اذا تندرج –حسب تصورنا- ضمن هذه المفاضلة، ولعل المشاهد لاحظ مدى الاستغلال الركيك والخالي الوفاض عن الرؤية البنيوية للقضية الفلسطينية ولواقع العلاقات القائمة بين اسرائيل والدول العربية، وحتى لادني كيفيات المعالجة الموضوعية، فـ "شريف" مهندس البترول المصري المقيم بالامارات العربية المتحدة، والذي جسد عادل امام دوره بشخصية "دونجوانية"، لم يبدي ادنى اهتمام بما يحدث في فلسطين من انتفاضة وقمع و وو، ولم يكن ذلك مثار اهتمامه ابدا طوال فترة تواجده بدبي، بالرغم من العلاقة الاخوية (علاقة عمر) التى تربطه مع صديقه الفلسطيني وإبنه "....... ولم يبدأ اهتمامه بمسألة "كل العرب والمسلمين والانسانية " إلا بعد عودته الاجبارية الى القاهرة و تحفظ حرس السفارة الاسرائيلية -المحاذية لشقته في العمارة – على الدعوات المفتوحة التى يقدمها "المهندس العائد" لفتيات الليل في شقته، حيث تمثل اعتراضه الاول حول الاجراءات الامنية المشددة التى تفرض على زواره ليس الا.. وهن لسن اكثر من "بائعات هوى "، اما المصدر الثاني للإنزعاج هو إمتناع
المطاعم عن تلبية طلباته الغذائية (ديلفري) الى الشقة المحاذية للسفارة..و لم يتجاوز مطلبه ألأساسي –هنا- من تلك المضايقات سقف ترحيل السفارة عن العمارة التى يسكنها نظرا لتلك المتاعب التى يواجهها.. ولم يذهب المطلب السياسي لما هو أبعد من سلم العمارة.

كما ان التعاطف الذي ابداه الفنان تجاه القضية –لاحقا- لم يكن سوا تعبيرا عن حالة الاستياء والفجيعة التى أصابته نتيجة إستشهاد ابن صديقه الفلسطيني "اياد" الذي عاد الى الاراضي الفلسطينية وسقط برصاص قوات الاحتلال الاسرائيلي وهو في باكورة شبابه – اي ان الدافع كان شخصي جدا وعاطفي بالدرجة الأولى.

فضلا عن ان الدور الذي اداه الفنان (لبيب لطفي ) -والذي جسد شخصية السفير الاسرائيلي - يبدوا متجاوزا للواقع بل يصل الى حد إعتقاد ان "شريف" هو المعتدي والمتطرف، حيث بدا السفير ودودا وايجابيا على طول الخط، وحتى متساميا على إساءات جاره وتحرشاته ولم نلاحظ –طول مشاهد الفلم- اي موقف سلبي من "سعادة السفير " سوا استعادته للهدية التى اتى بها بمناسبة عيد ميلاد "شريف" وذلك بعد طرده من الاحتفال.

الأمر ألآخر هي الصورة النمطية الموغلة التى صورها الفلم عن "قوى مناهضة التطبيع " ففي الوقت الذي تؤكد فيه بعض مشاهد الفلم " عن ان مناهضة التطبيع " مطلب شعبي تلقائي نلاحظ مدى سطحية التعاطي مع اقطاب تلك الفكرة..حيث بدوا قادة القوى السياسية المتبنية لهذا الهدف، مجرد شخصيات واهمة تعارك طواحين الهواء و تتميز بضحالة الفكر وغياب الهدف الاستراتيجي، شخصيات تغرد خارج السرب وتعيش في عصر ماقبل النظام العالمي الجديد ومستحدثات العولمة، تتدثر نظريات ماركس وتتوسد كتب لينين،..مجموعة من الثرثارين وخريجي المعتقلات..تلك الرؤية النمطية التى تصور مناهضي التطبيع "كما يقال بالدارجي شخصيات "غاوية وجع دماغ"..كل ذلك أسقط الفلم في عراك معلن مع ذاته.

بل ان كثير من النقاد قد ذهبوا الى ابعد من ذلك عندما اعتبروا ان الفلم بالاساس يخدم هدف سياسي بعينه، وهو دعوة صريحة للتطبيع وليس عكسه..فقط انه يشترط على الدولة العبرية وقف اعمال العنف التى تستهدف الاطفال، كما يخدم هدفا مهما هو إظهار القوى السياسية المناهضة لاتفاقيات التطبيع بأنها قوة هزيلة وغاية في الضحالة والركاكة الفكرية والسياسية. الامر ألاهم هو ان السفارة الاسرائيلية لم ترى في الفلم متعارضا مع اي من سياساتها، وبالرغم من انها عوضت المشاهد على اعتراضها على اية لقطة سينمائية او مسرحية تشير الى اسرائيل، فإنها هذه المرة قد لزمت الصمت بل قد تكون عبرت عن سعادتها بهذا العرض..

سؤال بديهي : هل يدرك "الزعيم " ما قدمه جيدا ام انها سقطة فنية، وكبوة في سبيل تأكيد الوجود وسط زخم الافلام الشبابية التى هزت الارض تحت اقدام القدماء.

محمود ابوبكر- القاهرة