ما إن غاب شفق مغرب ذلك اليوم الذي قررت فيه التوجه لمقر الحاكم الإداري بمنطقة مكة المكرمة صاحب السمو الملكي الأمير عبد المجيد بن عبد العزيز، بهدف السلام عليه وبث همومي وأحزاني بين يديه، حتى انتابتني رعشة من رهبة، وتملكني القلق، وأصبحت بين مقبل ومدبر، فأنا لم أعتد زيارة الأمراء، ولم أتشرف بلقائهم والسلام عليهم وجها لوجه، ليس لصعوبة ذلك، إذ ما أكثر زملائي الذين أقدموا على هذه الخطوة، ولكن خشية رهبة الموقف، وبخاصة وأن فؤادي وذهني قد تقلبا في أحضان التاريخ، حيث الأمراء ومجالسهم، والخلفاء وإيواناتهم.
قررت أن أتغلب على ضعفي، وتوجهت إليه بمعية الصديق الحبيب الأستاذ واصف كابلي الذي قدمني لسموه خير تقديم، فجزاه الله عني كل خير، وما هي إلا خطوات قليلة، حتى حل الهدوء على مغالق نفسي، وعمَّت السكينة فؤادي، حين تشرفت بالسلام على سموه الكريم الذي وجدته باشا، وقورا، لينا من غير ضعف، صلبا من غير عَنَت، صبورا من غير ضجر، مستمعا من غير ملل، هكذا لامستْ عيناي شخصيته، وبذاك ذاب توجسي ضمن سياق هيبته.
أقوام مختلفة المشارب، ومتنوعة الثقافات، يزخر بهم المجلس، من أوتاد العلم الشرعي إلى أهرامات الثقافة ومعارج الفكر، ومن رجال الأعمال إلى رجال الصحافة والإعلام، يتجاذبون بمعية سموه أطراف الحديث بكل شفافية ووضوح، ودون مواربة أو تحيز، وهو ما يعكس القيمة الثقافية التي ينطلق منها المجلس بشكل عام، الذي يلامس بأطروحاته ومناقشاته ومن ثم آرائه حاجات المجتمع ومتطلباته، وليمثل بجوهره أحد مؤسسات المجتمع المدني في شكله السياسي والاجتماعي والثقافي، وفي ذلك تكمن القيمة الجوهرية لعملية التطوير وآلية البناء ضمن أي مجتمع من المجتمعات ؛ ذلك أن مكمن الخلل متمثل في الفجوة التي يمكن أن تحدث بين الراعي والرعية، الحاكم والمحكوم، بسبب بعد المسافة بينهم من جهة، وصعوبة إجراءات التواصل المؤسسي بين مختلف قطاعاته الرسمية والغير رسمية، كما يؤكد ذلك علماء الاجتماع السياسي.
لقد أدرك الملك عبد العزيز بفطرته السليمة، وخلفيته التراثية، أهمية ما يعكسه تقليص تلك الفجوة بين قطبي الحياة السياسية، على حركة التطور والنماء المجتمعي من جانب، وطبيعة واستقرار الأمن ولوازمه من جانب آخر، ولهذا كان تأكيده الدائم على مواجهة رعيته والاجتماع بهم حتى يستجلي مطالبهم بنفسه، ومن ذلك ما أعلنه في أحد خطبه حين قال : " أنا لا أحب أن أشق على الناس، ولكن الواجب يقضي بأن أصارحكم، إننا في أشد الحاجة إلى الاجتماع والاتصال بكم لتكونوا على علم تام بما عندنا، ونكون على علم تام بما عندكم، وأود أن يكون هذا الاتصال مباشرة وفي مجلسي، لتحملوا إلينا مطالب شعبنا ورغباته، وتحملوا إلى الشعب أعمالنا ونوايانا، إني أود أن يكون اتصالي بالشعب وثيقا دائما، لأن هذا أدعى لتنفيذ رغبات الشعب، لذلك سيكون مجلسي مفتوحا لحضور من يريد الحضور من الساعة الثانية إلى الساعة الثالثة ليلا " بمثل هذه الكلمات الجلية اختط الملك المؤسس عبد العزيز ملامح سياسته الداخلية، القائمة على المشاركة والشوروية، وعلى ذلك سار أبناءه من بعده، ومن ذلك كان منتدى سمو أمير منطقة مكة المكرمة الثقافي والاجتماعي الذي كان لي شرف حضوره، والذي سادت فيه علاقات المحبة بدل الكراهية، والحكمة دون العشوائية، والتواضع عوضا عن العنجهية، والأهم من ذلك، حميمية النقاش الذي يستهدف خدمة الوطن بعيدا عن المصالح الحزبية، والموازنات السياسية، التي قد تؤثر سلبا على المصلحة العامة.
- آخر تحديث :
التعليقات