للمعابد اليهودية قداسة الذاكرة في مغتصبات (يميت وقوش قطيف)

ما زال الكنيس اليهودي الذي أقامه المستوطنون في مدينة (يميت) على شاطئ البحر الأبيض المتوسط شمال سيناء قبل عشرات السنين، ما يزال قائماً على حاله، ويتنفس هواء سيناء النقي، والسبب يعود إلى أن اتفاقية كامب ديفيد التي حمت الكنيس اليهودي من الهدم؛ رغم هدم بيوت المستوطنين ومنشئاتهم، والتي لا تزال مخلفاتها وبقاياها تشهد حتى يومنا هذا على عدم إزالتها، حقيقة مؤلمة لمن يزور المكان!!!

لم تمح أنقاض مدينة (يميت) اليهودية عن الوجود بعد عشرات السنين، وما يزال معبدها قائماً، وله من يخدمه، ويسهر على نظافته وسلامته حتى أيلول 2005، بل ما زال المكان العربي المصري يحمل اسم المستوطنة (يميت) الذي أطلقه الغاصبون عليه رغم مضي ما يقارب خمس وعشرين سنة على هدم المستوطنة، ورغم المحاولة العربية المصرية الجادة لتغيير الاسم العدواني العبراني، والعودة إلى الاسم التاريخي العربي للمكان، إلا أن المسعى للتغير قد فشل، وما زال المكان يحمل اسم (يميت) ومفرق الطرق المؤدي إليه يحلم اسم (سدوت) رغم محاولة العرب في مصر تسميته بمفرق السادات.

إن في المعبد اليهودي في مستوطنة يميت المدمرة حكمة للعرب الفلسطينيين، ودرس كبير، وتنوير مبين للسلطة الفلسطينية التي أبدت حتى الآن حساسية عالية، ومسئولية، ورفضاً قاطعاً لبقاء بيوت المستوطنين، ولكنها للأسف وافقت على بقاء بعض المنشئات اليهودية العامة دون التنبه إلى خطورة احتفاظها بالاسم العبري، والذاكرة اليهودية، والوجدان المعادي، ولم يحترق دم الوزراء في السلطة وهم يؤكدون بقاء التسمية، بالتالي وهم يرددون لفظة ( جوش قطيف، ونفيه دقليم، وكفار دروم، وميراج، ونتساريم، ونيتسر حزاني.

إن نجاح السلطة الفلسطينية في تنقية المكان من ذاكرة العدوان مقرون بتدارك خطأ التجربة العربية في مصر، وإذا كانت التسمية لا تعني مصر كثيراً، لأنها خارج أرض الميعاد في المرحلة الراهنة، إلا أنها في فلسطين لها حساسية خاصة، ومن المعلوم أن تغيير المسمى مرتبط بتغيير الصفات، والموجودات، والدلالات التي ترافقت مع الاسم، وهذا لا يتحقق قبل تجريف المكان الذي أقيمت عليه المستوطنة نهائياً، وإزالة أثارها عن الوجود، ودرس معالمها، ومحو مدارسها وجامعاتها ومعابدها وحماماتها الزراعية عن وجه الأرض، وما عدا ذلك؛ فإنه الخطأ الفادح، والموافقة الرسمية الفلسطينية الصريحة على احتفاظ المكان بالاسم القديم، وبالذاكرة اليهودية التي ستؤرخ للمكان الذي كان يوماً أرضاً يهودية، احتلها الغزاة الفلسطينيون، وطردوا منها الأبرياء اليهود، وهذا هو الخطر الكامن.

إن لجوء عدد من الحاخامات اليهود إلى المحكمة لإصدار قرار قضائي ببقاء الكنس اليهودية في غزة، فيه من الفتوة، والعنف الديني اليهودي ما يتوجب الوقوف أمامه بقوة، فالحاخامات السبعة الذين تقدموا للمحكمة العليا بالطعن ـ كما جاء في صحيفة هآرتس بالعبرية ـ لا يعترفون بأن أرض غزة مغتصبة، ويبررون مطلبهم ببقاء الكنس اليهودية بحجج أيديولوجية، ويقولون: أن هدم الكنس اليهودية في مستوطنات غزة مؤشر سلبي على مستقبل الكنس اليهودية في العالم، وتعد سابقة لا يمكن تقبلها، وأن على رئيس الوزراء شارون أن يتوجه للسلطة الفلسطينية بطلب إبقاء الكنس وحمايتها!

شارون توجه فعلاً إلى السلطة الفلسطينية، ولكن رد السلطة الفلسطينية حتى هذه اللحظة على الطلب الإسرائيلي كان سلبياً، وهو ما دفع الحاخامات في إسرائيل إلى تنسيق تحركات سرية على عدد من المحاور الضاغطة، منها على سبيل المثال توجه حاخام الشرقيين (شلومو عمر) إلى ملك المغرب، وطلب تدخله، ومنها تحرك رئيس حزب شاس الديني (أيلي يشاي) مع مقربي الرئيس المصري، ومنها تحرك الحاخام (مناحيم فرومن) إلى روما للقاء شخصيات من السلطة وحماس كما ذكرت صحيفة هآرتس؛ بهدف إقناعهم بحماية الكنس اليهودية، وأن لهم مصلحة دينية في ذلك، ومنها اتصال الحاخام ( ملكولم هونلاين) والوزير السابق (نتان شيرانسكي) مع الإدارة الأمريكية لاستحثاثها للضغط على السلطة الفلسطينية لحماية الكنس اليهودية.

في إسرائيل يرفض الساسة فكرة الحاخامات التي تدعو إلى تواجد قوات متعددة الجنسيات لحماية الكنس، ويصر السياسيون في إسرائيل على عدم تدخل قوات متعددة الجنسيات في غزة، ومنطقهم في ذلك يقوم على مصلحة إسرائيل الدنيوية، لا على ادعاءات المتدينين؛ ويبررون الرفض بسببين؛ الأول: أن تدخل قوات متعددة الجنسيات في غزة يعد سابقة، قد تفرض على إسرائيل تدخلهم في مناطق حساسة أخرى لا ترغب إسرائيل بتدخل قوات دولية بها. والثاني: تواجد القوات متعددة الجنسيات يمنع تدخل عسكري إسرائيلي في المستقبل ضد المكان الذي ستتواجد فيه!!

ما سبق يؤكد تفهم إسرائيل لمصالحها السياسية حتى ولو كانت على حساب معابدها، وهو ما يفرض على السلطة الفلسطينية أن تتفهم مصالح شعبها الاستراتيجية حتى ولو كانت على حساب مصالح البعض الآنية، والاستجابة للضغوط خارجية.

حتى الآن ينحسر خطأ السلطة الفلسطينية ـ ولغرض في نفس يعقوب ـ في موافقتها على بقاء بعض المنشئات اليهودية العامة، وبعض الحمامات الزراعية، وقد تسلم الغاصبون تعويضاً مالياً من منظمات أمريكية مقابل عدوانهم عليها، فهل ستصمد السلطة الفلسطينية في وجه طلب شارون الاحتفاظ بالكنس اليهودية، وحمايتها له، والحفاظ عليها؟؟ وإلى متى ستصمد أمام هجمة يهودية منظمة، يوظفون لها كل طاقاتهم الدبلوماسية، وطواقمهم الإعلامية، وضغوطهم الدولية؟

إذا كان الأمر صعباً على السلطة الفلسطينية إلى حد الرضوخ، والموافقة، وعدم القدرة على الصمود في وجه الضغوط الدولية، والعربية، أرى أن تبتعد السلطة الفلسطينية لساعات معدودات عن طريق شعبنا العربي الفلسطيني في غزة، وتترك للجماهير أن تقول كلمتها الحق في اغتصاب باطل، يصر على تواصل العدوان تحت مسمى حماية معابد وكنس اليهود!!!