هل تنجح في التحول من النخبة الى الجماهير اشكالية الواقع

لم تكن المنظومة الفكرية والثقافية التي وضعها رواد الحداثة الاوائل كجان جاك روسو، وفولتير، وتشارلز ديكنز ادبا، وسوسير، ونيتشة، وغيرهم، والتي نقلت الغرب من عصر الظلام والانحطاط الى مايشهده من رقي وحضارة وتطور في التنمية وباقي الجوانب الحياتية المختلفة، لم تكن تلك الافكار والنظريات هي الفاعل الوحيد في احداث هذه النقلة بل لابد لنا ان لانغفل عاملا آخر لايقل اهمية عن الاول ان لم يكن اهم اعني قابلية تلك الافكار للهظم والتمثل من قبل جماهير الشعب وتتحول الى زاد يومي يتفاعلون معه، يحولونه الى مفردات حياتية متحركة معهم. بعبارة اخرى لم تبق تلك الافكار التي كانت تتولد باذهان تلك النخب حبيسة رؤسهم او كتبهم او في اطار النخبة يتداولونها كما يتداول الناس اشيائهم الخاصة بل نزلت تلك الافكار للشارع.. يتثقف عليها الناس حيث اقنعتهم انهم لايمكن ان يخرجوا من الوضع الشاذ الذي هم فيه الى وضع افضل مالم يتحرروا من منظومة التعاليم والاعراف البالية التي تقيدهم وتضع العراقيل امام اية محاولة للتقدم والرقي. وحين آمنت الجماهيربتلك النظريات والافكار، تحركت على اساسها وصنعت ثورة مدوية نقلت الغرب الى ماهو عليه الان من تطور وحظارة على مختلف المستويات،تقنية وسياسية وادارية واجتماعية وغيرها.
خلال القرن الماضي والى الان طرحت افكار ونظريات تنويرية حداثوية من قبل مفكرين عرب مسلمين وغير مسلمين تدعو الى العقلانية والتحرر من كل مامن شأنه عرقلة سير الامة نحو التقدم والرقي، وانتشالها من حالة التخلف والتقهقر التي اضحت تتنامى وسط تراجع مخيف للتنمية وكل مايمت الى الرقي بصلة الا ان الملاحظ ان هذه الافكار لم تثمر حركة في واقع الامة ولم تغادر اوساط النخب لتصبح وعيا شعبيا عاما وبالتالي يتحرك الناس على اساسها نحو التغيير. اذ (لابد ان يتحول الفكر الى ايديولوجيا تقدم للجماهير على الطريقة الكانطية ــ اي تحويل الفكر الى فكر جماهيري ولكن ليس بالطريقة التعبوية او عبر ترويج الشعارات والافاق الواعدة الوهمية بل عبر رفع سقف النقاش وتأهيل الجماهير )(1).
خصوصا وان هذا النمط من الافكار مرفوض من قبل عامة الناس لانه يستفزها بل تجد فيه عدوا لمقدساتها التي آمنت بها اشد مايكون وغير مستعدة لمغادرتها لانها تعتبر هذه المقدسات زادها الروحي فبها تدخل الجنة وبها تنال رضى الله تعالى وبها تجد سكونها وهدوئها النفسي. وهي التي توفر لها السعادة والاطمئنان، فتخلد لها وترفض ان يزعزعها احد.
هذا من ناحية ومن ناحية اخرى ان مايطرحه الليبراليون والحداثويون من افكار جديدة يمكن تشبيهها( بالبلدوزر) التي تكتسح كل شيء امامها بلا تمييز بين ماهو حجر او خشب او معدن او غير ذلك، كذلك هذه الافكار فهي تاتي على المنظومة الثقافية والقيمية عند الامة لتكتسحها جميعا بلا تمييز بين ماهو زائف ضار يعد من عوامل تقهقرها، او ماهو عامل حفاظ على اصالتها وديمومتها وارتباطها بخالقها. فهي ــ اعني منظومة الافكار الجديدة ــ تأتي الى كل البناء القيمي والمفهومي والايماني لتهدمه من القواعد، حيث من الواضح ان الجماهير لاتمتلك القدرة على التمييز بين ما ينبغي الحفاظ عليه وما ينبغي تجاوزه والاستعاضة عنه بالقيم الجديدة، والافكار الحديثة.
والسؤال المطروح هنا هو ما جدوى مثل هذه الافكار التي اثبت اصحابها انهم عاجزون عن انزالها الى الشارع وتحويلها الى ايديولوجيا يتثقف عليها الناس، تتحول الى هم لهم... الى رسالة يحملونها، ويؤمنون انها ستحررهم. ستنقذهم من حالة التراجع المرعبة التي يعيشونها، ومن ثم تحركهم باتجاه التغيير ؟
بل يمكن ان ندعي ان هذا النمط من الفكر ربما تترتب عليه اضرار وآثار سلبية كبيرة، المجتمع في غنى عنها جراء عدم تجاوب جماهيرالامة معه لما ذكر.
ومالم يتم النهوض بالمستوى الفكري والثقافي للشعوب وفتح الاذهان على اسئلة لم يعتادوا عليها سابقا، بل تعد من المناطق المحظور التفكير فيها، والممنوع الولوج اليها. شريطة ان تعطى لهم على شكل جرعات كيما يستوعبوها من دون ان تؤدي الى امرين احلاهما مر الاول ان تخلق لهم صدمة اوحساسية تجعلهم يواجهونها بردة فعل عنيفة جدا والثاني ان يتنكروا للدين ويديروا ظهورهم له، ما لم يتحقق ذلك يندر ان نحصل على من هو مستعد ان يتاثر بهذه التيارات الفكرية الجديدة.
انها دعوة جادة وملحة للمفكرين والمثقفين للنزول قليلا من عليائهم وفوقيتهم من اجل النهوض بشعوبهم وانقاذها من الفكر الظلامي والكوارث التي تحيط بها، ولعل مايجري امامنا في العراق يصلح ان يكون النموذج المتصور لمستقبل الامة وهي تئن تحت وطأة اخطبوط التطرف والغاء الاخر.

(1) ابراهيم امهال. فصلية قضايا اسلامية معاصرة. عدد 30