ذات يوم ضَرَبَ الرجلُ الشيءَ المادي بيده اليسرى، غاضباً في وجه من حوله، إزاء خطا صدام حسين في احتلاله للكويت. كان الرجلُ يبكي برومانسية قومية، وبمثالية مفجوعة: [ لماذا فعلتَ هذا يا أبا عدي ]. كان درس هذا الضارب الغاضب quot; الصيدلةَ quot;، في بغداد، وعاد إلى فلسطين، وقد ظلّ ينظر - حتى قبل حرب الخليج الثانية -للعراق النظرة الرومانسية والمثالية. ثمة تَجَلٍّ آخرَ لهذا الانفعال والتوبيخ نجده عند أحد المحتجين على الأوضاع الفلسطينية المتردية، في حياة وممات ياسر عرفات ؛ فهذا المُحتجّ كان قد تمنى مراراً وقال: لو أنّ ياسر عرفات أمامي لصفعته. الشيء ذاته يمكن أن نتصوره ونفهمه ونبرره ثقافياً إزاء ما يتعلق بتوبيخات الداخل للشاعر محمود درويش. إنّنا لم نقل مثل هذا القول الذي قاله أحد المحتجين، لقد اتسم القول بالفعل: صفعناه صفعة حنونة، لكنها جسوراً. ولعلّ الكثيرين من القراء سيرفعون نظاراتهم عن عيونهم وسيرسمون الحلقات والدوائر الحمراء إعجاباً وإشفاقا ؛ إعجاباً برأي المثقف الداخلي، واشفاقاً عليه، لكونه سينال عقاب الملكين، وقد حصل أن مُورس العقاب، حقيقةً.
وكذلك، إشقاقاً على الشاعر وقيادات الصفّ والحرس الثقافي الذين انبروا للدفاع عن الهندام العام أمام التعرية الداخلية المفاجئة، وغير المنتظرة والمتوقعة من هذا المكان التافه الرديء البائس: قطاع غزة! ولعلّ المتابع والنشط ورقياً والكترونياً، سيعدّد معنا المناسبات والمنابر التي انبرى فيها درويش وتوابعه دفاعاً عن الهندام العام. بدءاً بحفل توقيع كتابه الجديد في رام الله وتقديمه لعدد الكرمل، وتوقيعه الكتاب ذاته في الأردن وبيروت، حيث ترددت وتكررت لهجات الدفاع من كل حدب وصوب. الشيء ذاته حصل في بعض الصحف اللندنية الناطقة بالعربية ؛ بالإضافة إلى بعض الصحف الفلسطينية الفقيرة إلى القارئ والموضوعية الجديرة بالاحترام. فالبعضان فتحا الصفحات الثقافية لسيل من ردود الأفعال المستمرة ؛ فضلاً عن الحضور الهستيري في بعض المواقع الإلكترونية المتخصصة. وهنا أريد أن أشير إلى أن اختيار كلمة quot;هستيريquot; تأتي في حدود الردّ على كلمة quot;العصابيquot; التي مُضغت ورُوّجت وسُوقت في فنادق وأسواق الدفاع، كما لو أنّ فرويد بعث من جديد. وسوف يشاطرنا المتابع الرأي في اعتبار الحوار الشامل - على إيقاع الرد الشامل - الذي أجري معه مؤخّراً، ونشر على حلقات في الصحافة الورقية والالكترونية ؛ جاء ليكون حاسماً، وليحقق النجدة الإعلامية للوجه والهندام من غبار الصحافة، فلتات اللسان الداخلي. في كلمات الدفاع التي قرأناها عن كثب، سواء التي قالها درويش أو ما وُصفت بالتوابع والأصداء ؛ كان إصرارٌ على تنظيف المكون الشعري لدرويش من كلمة quot;المقاومةquot; إصراراً حاسماً وخليقاُ بأن يعزى، من قريب ومن بعيد، للخجل العام والخيبة العارمة، على خلفية تكشّف مشروع الثورة عن آلام وخيبات. لقد كان من دواعي ذلك أن يتنكر حاضر الوعي ووعي الحاضر للثورة، وأن يهجر الوجدان القيم الرومانسية. لكن الذي غاب عن وعي المُصرّين المثارين، أو ما تُعمّد تناسيه ؛ هو أن هذه الصفعة الحنونة والجسور من الداخل أولاً، وقبل كل شيء. ثم إنها ما كانت تهدف الحطّ من الشاعر كلقبٍ وإنجاز. سيكون فجّاً وسخيفاً هذا الاعتبار. سيكون من السخافة والحماقة وعدم الرشد العاطفي أن يأمر عاشقٌ من فلسطين حبيبته بعدم قراءة شعر درويش. سيكون ذلك وأداً وإجحافاً بحق الرومانسية بشكلها الوجودي المجرّد. بل كانت تهدف الصفعة إلى تهشيم نظارة الشاعر السياسية. أي، تهشيم نظارة الثقافي النفعي، الذي غض ويَغض النظر على ممارسة السياسي المتوحّش والخاسر، على كلٍّ. لذلك فعلي الخارجي والداخلي والأرزقي فوق ذاك وهذا، أن يعوا جميعاً الفرق ويحدّدوه. التحديد لا يكون إلا بخلع النظارة الإعلامية، وبتدقيق النظر في ما آلت وتؤول إليه الأوضاع الفلسطينية. أن يعوا جيداً بأن لا هالة عاد يرسمها المثقف الداخلي الجسور حول الأسماء، الشيء ذاته بالنسبة لعناوين التحرر، فلم يعد من العقل في نظر الآباء والأمهات أن يوصوا أبناءهم بالثورة والغاية و م. ت. ف. وكل من يموت -الآن- فإنه عبثاً يفعل ذلك، ولكن درجت العادة أن نسميه شهيداً. حتى لو قتل في شجارٍ عائليّ دامٍ.
نصر جميل شعث
التعليقات