تأسيس المجتمع المدني... وصراع المجتمع والدولة
يعبر مفهوم المجتمع المدني عن هموم وظواهر متنوعة هي في الواقع تاريخ مسيرة تطور الفكر السياسي حيث ترتبط الدلالات بالمدلولات ضمن سياق تاريخي محدد. إن تميز دور المجتمع عن الدولة هو الأساس التاريخي للبدء ببلورة فكرة المجتمع المدني حيث هناك ترابط جدلي بين الاثنين إذ لا ينشأ المجتمع المدني إلاّ في حالة تميزه عن الدولة أو السلطة السياسية، فالدولة هي إطار لمبنى إداري وقانوني ينتج عملاً منظماً عن طريق إجراءات وأنظمة تمارس سلطتها على المواطنين المتواجدين في أرض محدودة وعلى أنشطتهم المختلفة.
ويفسر مفهوم المجتمع المدني حسب المنظور الفلسفي والسياسي له حيث بنيان المفهوم في التنظيم الليبرالي عن مثيلاته في التنظيرات الاشتراكية أو الديموقراطية الراديكالية أو الإسلامية، فقد يتمحور الحديث عنه في مسافات المشاركة السياسية في البرلمان أو في مدى دور المنظمات غير الحكومية من مهنية وجماهيرية أو منظمات إنسانية من الدفاع عن حقوق الإنسان والبيئة إلى مجموعات الضغط المتنوعة. ولا شك أن هذا التباين في استخدام مفهوم المجتمع المدني هو تعبير عن أزمة الفكر السياسي عند الحركات التغييرية والنقدية ولاسيما بعد هزيمة الكثير من العقائد السياسية الأحادية والشمولية الاقتصادية والسياسية الجاهزة.
إن تحقيق المجتمع المدني لا يتم بالقفز عن مراحل التحول الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بل يكمن في تحقيق الديموقراطية التي تضمن للإنسان ممارسة حقوقه وحرياته كافه فهو كان يعني في مرحلة ما من مراحل تطور المجتمع ((الحقوق المدنية))، وفي مرحلة أخرى ((المجتمع القائم على التعاقد))، وفي مرحلة ثالثة ((الانتخابات البرلمانية))، وفي مرحلة رابعة ((حريات المواطن وحقوقه السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية)).
إن التحول إلى المجتمع المدني يمثل عملية تطور الديموقراطية ذاتها وبالتالي لا وجود له خارج إطار الدولة الديموقراطية، إذ أن الحقوق والحريات لا تمارس إلاّ في الأنظمة المعبرة عن إدارة مجموع الشعب في إطار تنظيم قانوني وسياسي يضمن لكل مواطن حق المشاركة الحقيقية في الإرادة العامة وتكون حقوق المواطن وحرياته قيوداً على سلطة الدولة ونفوذها. ومن الطبيعي أن بناء المجتمع المدني لا يكون في رفض تواجد الدولة بل في تبلور القوى والتكوينات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وممارستها لأنشطتها بعيداً عن تدخل وسيطرة الدولة وهذا يتطلب إقامة علاقة متوازنة بين الدولة والمجتمع بوسائل سليمة ومنظمة. فالدولة (السلطة السياسية) في نظام المجتمع المدني ليس غاية بذاتها وإنما وسيلة وإطار لخدمة مواطنيها.
أما الأنظمة الشمولية التي تقوم بتوظيف العصبيات العائلية والعشائرية والحزبية لتعزيز سلطاتها القهرية فإنها تحتوي الدولة والسياسة والمجتمع وتخلق حواجز ومتاريس صعبة ومعقدة أمام تشكيل بُنى مستقلة للمؤسسات الاجتماعية، إذ تطرح الدولة في هذه الحالة وتحت مظلة استراتيجية السيطرة والضبط الأمني نفسها الراعي والمسؤول الوحيد لشؤون المجتمع والمعبر عن تطلعاته والمجسد لطموحاته، وفي ظل هذه الرؤى الشمولية في ارتباط المجتمع بوضعية قانون الدولة وبحدوده وصلاحياته يتم تغييب دور المؤسسات التشريعية والقضائية في حماية الإنسان وتصبح عاجزة ومشلولة عن تفعيل الحياة القانونية وتعزيز القيم المساندة للمجتمع المدني.
ومن البديهي عدم انفصام المجتمع عن الدولة إلاّ أنهما مفهومان متميزان ومتلازمان إذ لا وجود للدولة من دون مجتمع كما أنه لا وجود للمجتمع من دون حماية الدولة وبالتالي، فهناك ترابط جدلي بين العمل من أجل المجتمع المدني وبين الدولة الديموقراطية. إذ أن الإطار السياسي الوحيد لتنامي المجتمع هو إطار الدولة الديموقراطية القائمة في جوهرها على التعددية السياسية والفكرية وحرية إقامة التنظيمات والمؤسسات السياسية وغير السياسية واحترام تداول السلطة وضمان حقوق الإنسان. فالديموقراطية هي وحدها تدعم مؤسسات المجتمع المدني الاقتصادية (شركات، بنوك، مؤسسات مالية ومصرفية وغيرها ) والاجتماعية ( تيارات، مجالس منتخبة..الخ ) والثقافية ( جامعات، مدارس، مؤسسات علمية، مراكز أبحاث..الخ ) وتنميتها، كما أن المجتمع المدني هو البيئة الطبيعية التي تنمو في أحضانها الديموقراطية ومؤسساتها الدستورية.
إن الحديث عن استقلال مؤسسات المجتمع المدني لا يعني التقاطع بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي (الدولة والمجتمع) لأن استقرار هذه المؤسسات وعلاقاتها السياسية يعتمد على ارتكازها على بنى اجتماعية وتكوينات ثقافية قائمة في المجتمع، فالدولة تحكم بإحدى أو أكثر من قوى المجتمع المدني كما تؤثر هذه القوى في السياسات والقرارات التي تتخذها الدولة عبر المجالس النيابية أو وسائل الإعلام وجماعات الضغط وأعمال الاحتجاج من مظاهرات واضرابات واعتصامات. وإذا كانت الدكتاتورية هي حصيلة عدم التطابق والتفاعل بين البنى السياسية والبنى المدنية، فإن المجتمع المدني باعتباره ثمرة التفاعل بين هذه البنى لن يكون واضح المعالم لأن مكونات المجتمع المدني لا تشارك جميعها في اختيار النظام السياسي للدولة وتأهيلها لتفجير طاقات المجتمع لبناء قواعد الحضارة والتمدن. ولا ريب أن ذلك يفرض على النظم السياسية ضرورة استيعاب معادلة التوازن والترابط بين الدولة والمجتمع.
عقيل يوسف عيدان
[email protected]
باحث وكاتب، من الكويت
التعليقات