لم تكن ظاهرة الهجرة الجماعية للمسيحيين حديثة العهد، إنما تعود إلى عصور خلت أبان دولة الخلافة الإسلامية المتعاقبة، وكان من الصعب آنذاك الحديث عن المساواة في المواطنة، وكانت مسألة التعايش توضع موضع التساؤل في خضم هيمنة سلطوية صممت وفق قاعدة فكرية متعالية ترفض الاعتراف بالآخر إلى الحدود الدنيا، لهذا السبب كانت العلاقة المسيحية الإسلامية يشوبها الكثير من الخلل على المستوى الفكري والاجتماعي ولم ينظر إلى الطرف المسيحي كمشارك حقيقي في الحياة السياسية والثقافية علما كان لهم دور فاعل في بناء الحضارة العربية. لقد واجه المسيحيون وغيرهم من الاقليات الدينية تمييزا صريحا واعتبرهم المسلمون ذميين في الدولة الإسلامية كان عليهم دفع الجزية وهم صاغرون. ومن لايذكر مشاركة السريان وفعاليتهم الفكرية في العصر العباسي ودورهم في نقل العلوم اليونانية إلى اللغة العربية في مجال الفلسفة والطب والعلوم الطبيعية. وفي الوقت الذي راح الإسلام السياسييغذي أيديولوجيا كفاحية ( الجهاد ) بدأ الضغط على المسيحيين وبدأت الهجرة وفق تواترات التاريخ، وكان العصر الحديث أشد إيلاما ولاسيما في العراق، إذ كانت الهجرة المسيحية تتم بصورة جماعية وبشكل ملفت ومرعب في ظل الدولة القومية العربية المتشددة وحديثا في ظل فوضى تشهدها البلاد وبروز تنظيمات دينية عقائدية متشددة تتبنى خطابات وتصورات دوغمائية في منتهى الخطورة ولا تعترف بالآخر بأي شكل من الأشكال، إن كان هذا الآخر مسيحيا أو صابئيا أو يزيديا.. والآن من الصعب جدا معرفة عدد المسيحيين الذين هاجروا من العراق، فهناك عشرات الآلاف في كل من سورية ولبنان والأردن ومئات الآلاف ممن حالفهم الحظ ووصلوا إلى الدول الأجنبية، كل ذلك هربا من الموت والاضطهاد الديني. في هذا الصدد لا بد من ذكر الحادثة الأليمة التي وقعت منذ أيام من كتابة هذا المقال وهي اختطاف رجل دين مسيحي في مدينة الموصل يدعى بولص اسكندر وذبحه ثم رميه في أحد الشوارع. الرجل، بالطبع، لم يكن في موقع المنافسة السياسية لهؤلاء القتلة، فقط كانتquot; خطأه quot;أنه كان يدعو إلى الوئام بين الناس والمحبة والسلام. وهكذا قضى الكاهن البار في يوم وعلى مرأى من أناس أبوا أن يقروا بقيمة الإنسان والإنسانية، سلوك يتفرد به هؤلاء الظلاميون، فلا جنود هولاكو ولا محاكم التفتيش بهذا المستوى من الهمجية والظلامية المقيتة. هذه هي الحال. والمناخ السائد هو الذي دفع المسيحيين إلى الهجرة بهذه الوتيرة العالية من أوطانهم الذين عاشوا فيها منذ فجر التاريخ والى أيامنا هذه.
على الضمير العالمي أن يصحو وينظر إلى هذه المسألة بروح المسؤولية ويجب على المسلمين التحرك السريع لتصحيح صورة الإسلام الذين يرغبون التعايش بسلام مع باقي اتباع الديانات الأخرى. وللعلم أن المسيحيين الذين غادروا العراق إلى الدول المجاورة يعيشون مآس بسبب الظروف الاجتماعية والمادية الصعبة ولأن أعدادهم تتزيد يوما بعد يوم.
ولابد من الإشارة إلى أن المسيحيين العراقيين ينتسبون الى الأثنية الآشورية وهم بقايا سكان دولة آشور القديمة. يتحدثون اللغة الآشورية الأكادية إلى يومنا هذا ويقيم معظمهم في سهل نينوى العاصمة التاريخية للإمبراطورية الآشورية الذائعة الصيت وجوارها مع نسبة مهمة في المدن العراقية ولا سيما بغداد العاصمة. كان عددهم يتجاوز ثلاثة ملايين قبل الحرب العراقية الإيرانية وبسبب موجات الهجرة المتلاحقة انخفض هذا العدد ربما إلى النصف أو اقل بكثير..
عزيز توما
التعليقات