شنت الولايات المتحدة الامريكية حرب الخليج الثالثة، سقط نظام صدام حسين فاصبح العراق وفقا لقوانين الشرعية الدولية تحت ادارة الجانب الامريكي بمعية القوات التي شاركت في الحرب، وجاءت الولايات المتحدة بمشروعها السياسي في العراق الذي لازال حتى هذه اللحظة هو صاحب الكلمة العليا ولازال يسير وفقا لما كان مخططا له من قبل رغم جميع ما واجهه من عقبات ورغم جميع ما يُثار حوله من تساؤلات.

لكن الاعتماد كليا على ذلك المشروع لوحده يعد مجازفة ورهانا طائش ولذلك تجد بعض المكونات العراقية كالمكون الكردي وضع الجميع امام الامر الواقع وهيأ مشاريع بديلة، من جملتها خيار الانفصال لكنه رهن ذلك ( اعلاميا على الاقل ) على حالة فشل العملية السياسية في العراق الجديد.

ان خطوة من هذا النوع تتوسم ملامح النجاح وتعد خطوة في الاتجاه الصحيح لمؤشرات كثيرة:

فهي توفر رؤية استراتيجية واضحة لدى القيادة والجماهير تعتمد على توفير خيارات بديلة تقوي موقف الممثل الشرعي للاكراد في طاولة المفاوضات مع الاطراف العراقية الاخرى ومع الطرف الامريكي ايضا، فتشكل تلك الخطوة ورقة ضغط قوية جدا بحيث ياخذ الاخرون بعين الاعتبار ذلك الواقع قبل اية محاولة لاستفزاز الاكراد او بعثرة متعمدة للاوراق في الساحة العراقية من شانها ان تضر بالمصالح الكردية، وهذه ورقة لعب عليها الاكراد كثيرا ولازالوا يمارسونها بذكاء فجلبت لهم نتائج ايجابية جدا.

اما المكون الشيعي العربي في العراق ورغم ما له من تاريخ طويل في تمثيل دور المعارضة السياسية فانه لازال حتى هذه اللحظة يراهن بقوة على العملية السياسية في العراق ووضع جميع اوراقه في سلة المشروع الامريكي.. وهذه خطوة فيها مجازفة كبيرة جدا كما ان رهانا من هذا النوع يكون مبررا مشروعا لمخاوف وهواجس كثيرة.. مرة من انقلاب عسكري ضد الحكومة او من سحب الدعم الامريكي.. اواتجاه بوصلته نحو قيادات بعثية.. الى غير ذلك من المخاوف المشروعة، خصوصا بعدما اعلن عن مفاوضات بين الجانب الامريكي وبين العديد من الجماعات المسلحة البعثية او ما تم بين الطرفين من صفقات طالت حتى اطلاق سراح رموز كبيرة مطلوبة للعدالة.

ورغم جميع ما يُثار حول المكون الشيعي من تهم وتخوين الا انه ونتيجة لسطحية التفكير السياسي الشيعي لا يفكر ببدائل واقعية اخرى من شانها ان تقوي موقفه التفاوضي مع الاخرين وهذا هو الخطا الذي لازال الشيعة يقعون فيه مرة تلو الاخرى.

لقد ارتكب الشيعة اخطاءا كبيرة منذ بداية تشكيل الدولة العراقية في اثناء الحرب العالمية الاولى ايام الصراع بين الانجليز والعثمانيين، لقد استُدرج الشيعة وانطوت عليهم الخديعة تحت شعارات وطنية فدفعوا الاثمان غالية جدا ولم يشهد لهم احد حتى بتلك الدماء التي دفعوها تضحية ضد ابناء مذهبهم على الضفة الاخرى في بلاد فارس حينما اراد الشيعة العراقيون ان يتبرأوا من تهمة تلاحقهم، بيد ان التضحيات ذهبت سدا فضاعت الشعارات وبقيت التهم تلاحقهم بين الحين والاخر.

اذن على القوى السياسية الشيعية من احزاب وتيارات ونخب مثقفة معنية بالشان السياسي ان تبدا بتنضيج مشروع يرسم صورة واضحة لشيعة العراق باعتبارهم جماعة بشرية لها توجه سياسي معين رغم اختلاف تياراتها واحزابها الا انها تقف على ارضية قوية قادرة على جعل الفرد مستعد للدفاع بكل ما يملك عن ارضه وكيانه والا فالرهان على هذا الطرف او ذاك يعني البقاء في مهب الريح.

وان من يكابر على الواقع العراقي فليتحمل مزيدا من التضحيات ويستانس بالدماء البريئة ومن يريد عراقا موحدا فهو يحمل المكونات العراقية فوق طاقتها فهي اطراف متنافرة واذا كانت كذلك فهذا يدل على انها فقدت الارضية المشتركة للتعايش، ومن ثم فان الانفصال سوف يصبح هو سيد الموقف.

فالكلام الطائفي او العرقي وظاهرة التخندقات هي اساسا متعلقة بعدم البحث الحقيقي في جذور هذه المسألة، فهي ظاهرة قديمة ولكنها لم تكن مطروحة بشكل منطقي يتناسب مع حجمها وحجم تداعياتها واستحقاقاتها الخطيرة، كما ان الكلام عن ان الاحتلال هو الذي خلق المشكلة او غذاها هو كلام غير دقيق ومن يذهب الى ذلك فهو متجاهل اساسا لمشكلة كانت ولازالت موجودة بين مكونات الحالة العراقية وان الذي يتفاجأ او يستغرب من ظهورها بالشكل التالي في الاونة الاخيرة لهو جزء من المشكلة ان لم يكن هو المشكلة بحد ذاتها، بمعنى ان القوة والدكتاتورية والطغيان سوف تلغي هذا الجو من الحرية والانفتاح الذي يؤشر دائما الى المشكلة وحينما لا تتوفر اجواء الحرية ويخيم القسر فلن تكون هنالك مشكلة بالاساس فلن نسمع عن طوائف ولا عن مكونات ولا عن جميع الاشياء الاخرى، وهذا بالضبط ما كان حاصلا في زمن حكومة صدام حسين، وان ما فعله الاحتلال ليس سوى توفير جرعة عالية من الحرية تسمح بشكل طبيعي جدا لبروز المشكلة وطوفانها على السطح، اذ ان كثيرين يعتقدون ان الدولة العراقية الحديثة لم تقم على وحدة المصير وولدت مشوّهة اصلا، فلم يشهد تأريخ العراق الحديث تقاسما للسلطة او مشاركة المكونات الاخرى في القرار السياسي العراقي، بل كان الحاكم دائما هو طرف واحد لابد ان يمسك بقوة ويضرب بالحديد والنار.

كما ان العراقيين يرغبون للتعامل مع الاجنبي بطمانينة لاتتوفر في تعاطيهم فيما بينهم، وهذا بحد ذاته يعكس مدى ما وصلت اليه الازمة في البيت العراقي، بحيث اصبحت الفجوة كبيرة جدا و يصعب ردمها، كما ان المؤشر الاخر الذي يعكسه ذلك الواقع هو ان مشكلة العراق في اصعدتها المختلفة بما في ذلك الصعيد الامني هي بالاساس مشكلة عراقية عراقية الى حد كبير، وان تدخلات الاطراف الخارجية تقتصر على اذكاء وتغذية تلك الازمة.

فالمشكلة في الخطاب الطائفي والمتشنج للمكونات العراقية تعود اساسا لتشوهات الهوية العراقية، فهذه مشكلة قديمة ولكنها للاسف الشديد لم تكن عرضة لطاولات البحث، ومن يحاول البحث عن حلول لهذا الواقع العراقي المتردي عليه ان يبتعد عن محاولات الترقيع تلك التي لا تلغي المشكلة ولا تعد حلا جذريا لمشكلة كبيرة من هذا النوع، فالحلول تكمن فقط اذاما توفرت ارادة عند جميع المكونات العراقية في ان تبدأ صياغة هوية عراقية لدولة حديثة بعيدة عن ظروف واجواء البدايات التي كانت تحيط بتكوين الدولة العراقية في القرن الماضي والتي كانت مبنية على اسس خاطئة.

ان امريكا سوف ترحل آجلا او عاجلا والغرباء سوف يرحلون، وما يبقى هو البيت العراقي بهذه الازمات وهذه الطبيعة من التفكير والتعاطي مع الاخرين وهذه ابرز ما يهدد البيت العراقي من الداخل ويبعثر الاوراق فيه.

هذه عقدة العراق... ومن يبحث عن عراق مستقر عليه ان يبدأ من العراقيين انفسهم انهم غير مستعدين للتعايش فيما بينهم وهذا هو سرّ الفوضى في العراق.

فالمكونات العراقية تقف على ارضية هشة وتوجد حالة كبيرة من التنافر فيما بينها، هذا هو الواقع ومن لا يعترف بالمشكلة لن يستطيع على الاطلاق ان يكون جزءا من الحل.

جمال الخرسان

كاتب عراقي

[email protected]