يعد هذا المقال نهاية سلسلة من المقالات قمنا بكتابتها على مدار شهور مضت تمحورت بشكل رئيس حول المثقف العربي. حيث تناولنا فيها التحديات التي تواجه المثقف العربي سواء ما يتعلق بالظروف الموضوعية المحيطة به من بنى سلطوية رسمية أو مؤسساتية أو أيدلوجية أو تحديات فرضتها العولمة... الخ أو ظروف ذاتية تكمن داخل المثقف نفسه من حيث نرجسية الذات وآليات النقد الهادم التي يمارسها البعض والتي تمنع الوصول إلى فكر نقدي بنائي إيجابي جاد. وقد رغبنا في هذه المقال إبراز الدور الحقيقي للمثقف العربي في ظل واقع عربي مأزوم ومستقبل تتقاذفه العشوائية والارتجالية وغياب التخطيط السليم. وفي ظل سيادة ثقافة الإقصاء والتهميش والتي تصل إلى حد الاستئصال في بعض الأحيان.

فمن المتوقع من المثقف أن يأخذ دوره في المجتمع، ويحارب القوى التي تسعى إلى التهميش والإقصاء للغير بما فيهم المثقف نفسه. وأن لا يقبل بالأدوار الهامشية، ويفرض حضوره على المستوى الفكري والسياسي، وأن يكون جزءاً من التكوين الثقافي للمجتمع من خلال إنتاجه ونشاطه المتجدد المبدع وصولاً إلى مجتمع سليم ينطلق من مواطنة سليمة ومنظومة قيمية سليمة. فالمثقف ليس عدواً لأي حكومة في ذاتها بل هو عدو الواقع السيئ الذي ينجم عنها. وهو لا يعادي أشخاصاً أو مؤسسات بل إجراءات وممارسات تحط من قيمة الإنسان كإنسان، ومن قيمة الفرد كمواطن. بل يمكن القول إن المثقف يجب أن يتمتع دائماً بهامش من المعارضة. والمعارضة هنا بالمعني الإيجابي وليس السلبي فهو معارض للواقع حتى لو كان جميلاً لأن المثقف عليه أن يسعى إلى الأفضل والأجمل ويحلم بتحقيقه. فهو يخطو على الأرض بعين فيما يرنو بعينه الأخرى نحو القمر يستلهم منه قيم الجمال. ولذلك فهو يستفز ويستنفر السلطة الحاكمة لبذل المزيد من أجل الشعب. لذلك عليه أن لا يتحد ويتحالف مع السلطة غير الشرعية أو الجائرة بل عليه أن يشكل حالة من التحدي لها، وكشف عدم شرعيتها، وعدم قانونية إجراءاتها وممارساتها ومرجعيته هنا هي المبادئ الأخلاقية الإنسانية بمفهومها الواسع الذي يتجاوز حدود الزمان والمكان.

ودوره هنا أن يساهم في صناعة الرأي العام ليس من أجل سلطة بل من أجل العدالة والحرية. أي أن لا ينظر لبنى سلطوية سياسية أو معرفية. فلا يجمل القبيح، ولا يبرر الخطأ ولا ينافق الكبير والعظيم، بل عليه تحطيم الرؤى السلطوية التي تحاول أن تفرض نفسها على الفكر النخبوي والشعبي. وعليه كشف زيف التبريرات التي تقدم لتشويه الحقيقة. وعليه أن يتصف بالجاهزية الدائمة لمواجهة أنصاف الحقائق والقوالب السلطوية المعرفية التي تفرض بهدف تزييف الوعي وحرفه عن رؤية الحقيقة، وفهم الواقع بعقلية ناقدة. فعلى المثقف أن يمتلك حاسة شك قوية فيما يقال ويمارس وأن يتمتع بطاقة عقلية متحفزة دائماً للدفاع عن الحق في وجه الجور والظلم والطغيان.

على المثقف أن يقدم لجمهوره شيئاً ذا قيمة يساعده على تشخيص الداء والبحث عن الدواء. أي يجب أن يترجل من بروجه العاجية، ويمارس دوره في الاقتراب من الواقع من أجل تشخيص الداء من أمراض اجتماعية وفكرية. ولكن عليه أن يكون حريصاً في الوقت نفسه على عدم الانغماس في الواقع وتجنب السقوط في هاويته. بل عليه الصعود بالواقع وبجمهوره إلى رحاب أوسع. وهو هنا ليس بحاجة أن يقدم شهادة أدبية عن واقعه بل أن يكون جزءاً من العلاج. فعليه أن يبحث عن الإبداع والتجديد للرقي بالإنسان كونه إنسان، أي يجب أن يكون ديناميكياً وفي حركة دائمة نحو الأفضل. فهو هنا حارساً على الأخلاق العامة، والضمير الإنساني، يبحث بلا تقاعس عن تجسيد قيم العدالة والنزاهة والبحث عن الحقيقة.

ومن أجل أن يقوم المثقف بدوره على أكمل وجه عليه أن يمتلك رؤية يؤمن بها، ويدافع عنها. ويحاول أن يقنع الآخرين بها دون أن ينحرف عنها تحت أي إغراء أو تحت وطأة أي تهديد من قبل من يمتلكون السطوة والنفوذ. وعليه أن يقدم الحقيقة في روايته مقابل الروية الرسمية التي تتصف في الأغلب بالزيف والكذب. فواجب المثقف ليس المعارضة بحد ذاتها أي ليس المعارضة من أجل المعارضة بل من أجل رسالة ورؤية واضحة تشكل مرجعية في الحكم على الأمور سلباً وإيجاباً. وهو هنا ينطلق من شعور عميق بالمسؤولية، وإحساس قوي بالواجب تجاه الذات الفردية والمجتمعية. وأن يمارس ذلك ضمن إطار واع من المشاركة وليس التفرد.

على المثقف ألا ينقد فقط الواقع القائم بل الموروث الثقافي الذي يشكل مرجعيته. وعليه أن يقوم بغربلة واعية جادة نافذة للموروث، وأن يميز بن الغث والسمين. فالسلوك اليومي الممارس ما هو إلا انعكاساً لبنى معرفية موروثة بعجرها وبجرها. وأن تغيير نمط السلوك الخاطئ الممارس يكون بتقويض مرجعياته وبناه المعرفية متجاوزاً بذلك النظرة التقليدية التي يحاول أن يدافع عنها البعض ويجعلها في حكم التابو اتجاه العادات والقيم الاجتماعية مثل الأمور المتعلقة بالمرأة... الخ.وهو هنا لا يهدف إلا التقويض فقط بل عليه تقديم البدائل. أي يجب أن لا يحسن الهدم بل يجيد معركة البناء ولكن على أسس أفضل من السائد تجسد على نحو أفضل قيم العدالة والحرية والمساواة.

ومن القضايا التي يجب أن التصدي لها من قبل المثقف هي المساهمة في خلق المناخ لترسيخ وعي نظري بوجوب احترام حقوق الإنسان وعلى رأسها احترام حق التعبير عن الرأي. وأن يسعى بشكل دؤوب إلى تأمين الإطار السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي الذي يضمن تحقيق ذلك والإسهام في قلب النظام القيمي السائد الذي يتعذر من خلاله الرقي بالفكر والسلوك الممارس. وأن ينتقل المثقف إلى مرحلة التنظير للديمقراطية الحقة وترسيخ عناصرها وأبعادها. حيث أن الديمقراطية الحقة هي التي تنتقل من الثقافة إلى السلوك الممارس. وهي التي تبدأ بالديمقراطية الاجتماعية لتصعد نحو تحقيق الديمقراطية السياسية. وهي ديمقراطية تتجاوز الديمقراطية التي تنظر لها الولايات المتحدة والتي تقوم على القبول بقوالبها السياسية السلطوية.

ودور المثقف يتمثل أيضاً في القيام بعملية نقدية للانجازات السابقة، وأين تكمن جوانب الخطأ والصواب، لاسيما ونحن ندخل القرن الواحد والعشرين في ظل واقع متدهور على جميع الصعد. ومن هنا عليه تقييم تجارب القرن الماضي الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وإبراز جوانب القصور والإخفاق. فإذا كان المثقف يعاني من ضعف في إحداث تأثير قوي فوري في الظروف الحالية فإن عليه أن يمهد ويهيئ المناخ للتغيرات المقبلة من خلال نقد الواقع فكراً وقولاً. فالتغير ضرورة من ضرورات العصر هرباً من التخلف والهامشية التي يعيشها العالم العربي. وهنا لا بد أن ينتقل النقد الذاتي من الإطار الثقافي النظري إلى ممارسة عملية حيوية. وأن يطلع المثقف بالدور الطليعي في عملية النقد الفردي والمجتمعي.

وعلى المثقف أن يتجاوز جمهوره التقليدي في محاضرة أو ندوة أو صحيفة معينة بل عليه استخدام التقنيات الإعلامية العصرية بما أوتي من جهد من أجل توسيع دائرة تأثيره وبالتالي رفع قيمة دوره ومساهمته، وفتح آفاقاً أوسع لذلك. فما نشاهده اليوم من تطور هائل في المجال التقني والتكنولوجي يفرض على المثقف الولوج إلى عالم الثورة المعرفية، وأن يشكل حلقة من حلقات المنظومة المعرفية المعلوماتية التي بإمكانها الوصول إلى كل بيت من خلال الفضائيات وشبكة الانترنت وغيرها. فهو اليوم جزء من فضاء معلوماتي واسع ورحب يتجاوز حدود الانغلاق المكاني.

وأخيراً على المثقف أن يتجاوز في فكره ومبادئه حدود مكانه ومجتمعه. وأن ينطلق في ذلك من معايير ذاتية، ومرجعية قيمية أخلاقية تستند على مبادئ إنسانية تتجاوز المحلية إلى العالمية. فهو هنا يتجاوز ذاتيته إلى رحاب أوسع مجتمعياً، وعمقاً أكثر إنسانياً حيث يمتلك معايراً محددة تجاه البؤس، والشقاء، والاضطهاد، والاستعمار، التعذيب... الخ. وهو بفكره وسلوكه هذا يتجاوز حدود الزمان والمكان. وينتقل من رحاب المواطنة الضيقة إلى فضاء الإنسانية الواسع.

د. خالد محمد صافي